عدة شخصيات سياسية، استعدادا للإستحقاق الإنتخابي القادم المتمثل في الإنتخابات التشريعية والرئاسية التي ستجرى مبدئيا في 06 أكتوبر بالنسبة للتشريعية و10 نوفمبر بالنسبة للرئاسية.
والملاحظ في متابعة هذه المبادرات أنها تتفق في جملة من النقاط أهمها :
1/ تشخيص المشهد السياسي بأنه يتسم بتشتت القوى « الوسطية التقدمية الديمقراطية ...» وبضعف أداء الأحزاب السياسية.
2/ الرغبة في تجميع هذه القوى عبر خوض الإستحقاقات الإنتخابية القادمة بقوائم انتخابية تشاركية وبمرشح وحيد للرئاسية.
ولئن كانت النوايا التي يصرح بها أصحاب هذه المبادرات حسنة من هذا المنطلق، الا أن النوايا وحدها لا تكفي لتحقيق الهدف المعلن المنشود، بدليل أن كل مبادرة جديدة تتلاقفها وسائل الإعلام المختلفة بالتغطية والإهتمام في البداية، ثم سرعان وبعد أيام معدودة يتراجع الإهتمام بها، كسابقاتها، دون أن تصنع الحدث، ودون أن تشفي غليل المتعطشين والمنتظرين لقوة دفع قادرة على قلب موازين القوى وإحداث تغيير حقيقي في المشهد السياسي، بما يمكن أن يبشّر بخوض الإنتخابات في اطار جامع، ما يجعل هذه المبادرات، على حسن نواياها، غير قادرة اليوم على بلوغ ما ترنو اليه، وتبقى مجرد أرقام اضافية في قائمة الأحزاب والحركات الموجودة، وكل منها ترحّب بفكرة التجميع وتساندها، وفي ذات الوقت تدعو البقية للإلتحاق بها والإنضواء تحتها في اطار « برنامجها المثالي» وبقيادة «زعيمها الأوحد».
اننا نعيش اليوم ما يمكن التعبير عنه بـ «تخميرة» وبهوس المبادرات، بما يمكن أن يحيلنا على مشهد شبيه الى حد كبير بمشهد ما قبل انتخابات المجلس التأسيسي، الجميع يرى في نفسه الزعامة والقدرة على الفوز في الإنتخابات من خلال قراءات وتحاليل مطوّعة لـ«أنا» متضخمة، دون اعتبار للواقع المتردي على جميع المستويات، والذي يتطلب قراءة موضوعية تمكّن من رسم رؤية عقلانية تقدّم أجوبة وحلولا واضحة للخروج منه.
وهذا ما جعل المشهد السياسي يتسم بوجود حزب منظم ومهيكل يعتبر رقما مهمّا في هذا المشهد وهو حزب حركة النهضة، التي تنفرد بخزان انتخابي خاص بها يمكنها من الفوز بالإنتخابات، في ظلّ تشتت وتشرذم وتفكك الأحزاب والحركات والجبهات والمبادرات المنتمية لما يعبر عنه بـ«القوى الوسطية التقدمية الديمقراطية المدنية....»، فحركة النهضة بهذا المعنى تستمدّ قوّتها فقط من ضعف الآخرين.
ومن هذا المنطلق، فالحلّ لا يكمن في مزيد إطلاق المبادرات تلو الأخرى وبعث الأحزاب، بل في البحث عن اطار جامع قادر على التأثير الفوري والمباشر على مجريات الأمور وعلى قلب موازين القوى لصالح الأغلبية المشتتة للتونسيين.
إن الإطار الوحيد القادر على التجميع اليوم، بما يحقق أغلبية معتبرة، هو إطار المنظمات الوطنية ونعني بها الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والإتحاد النسائي إضافة للهيئات المهنية والقطاعية، وما يمكن أن يجلبه هذا الإطار الجامع من شخصيات اعتبارية من كامل جهات الجمهورية، وكذلك المبادرات المواطنية المختلفة.
هذا هو التجسيد الحقيقي والوحيد للوحدة الوطنية، على قاعدة برنامج متفق عليه يمثل حدا أدنى للإلتقاء حوله، يندرج ضمن انقاذ الدولة، واستكمال إرساء مقوماتها ذات الأبعاد التالية :
- دولة الحق والقانون أين تسود قيم وقواعد المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع التونسيين، والتي ينظم الدستور والقانون العلاقات بينها وبين أفرادها وفيما بين أفرادها.
- الدولة القوية القادرة على انفاذ القانون بدون حيف أو محاباة.
- دولة المواطنة التي يشارك فيها المواطن بصفة فعالة في إدارة الشأن العام، وفي صياغة السياسات العامة وفي صنع القرار على جميع المستويات.
- الدولة الإجتماعية ضد التهميش، قوامها العدالة الإجتماعية، والحد من الفوارق الإجتماعية، و الراعية للمرافق الإستراتيجية الأساسية وعلى رأسها الصحة والتعليم والنقل.
وبتحقّق هذه الأبعاد نضمن تركيز أسس الدولة المدنية العصرية ذات السيادة الوطنية، ونضمن كذلك النجاعة والفعالية في مكافحة الفساد وفي مقاومة الإرهاب.
أما ما يمكن أن يمثل نقاط اختلاف أو تباين فيمكن تأجيلها الى ما بعد الإنتخابات لتكون موضوع حوار هادئ رصين بدون حسابات سياسوية فئوية أو انتخابية.
هذا التمشي ممكن و مقومات وممهدات تحقيقه متوفرة ومتعددة : تاريخية وسياسية واجتماعية، فقد لعبت هذه المنظمات والهيئات دورا وطنيا وسياسيا على مدى تاريخها، اذ ساهمت في الإستقلال بخوض الكفاح النقابي والسياسي والمسلح أيضا، وساهمت في بناء دولة الإستقلال ببرامجها ودراساتها الأكاديمية في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ...، برامج كانت في عدة محطات مرجعا أساسيا للدولة نهلت منه لتحديد سياساتها، كما زوّدت مؤسسات الدولة بالكفاءات التي شغلت أعلى المناصب السياسية والإدارية، فقد كانت المدرسة الأولى لتكوين الكوادر القادرة على القيادة، وكانت أيضا سندا ومحركا أساسيا لثورة 14 جانفي 2011، وكانت كذلك عنوان نجاح في ادارة والإشراف على الحوار الوطني الذي أنقذ البلاد من مجهول مرعب سنوات حكم الترويكا.
ان التقاء المنظمات الوطنية والهيئات المهنية والقطاعية، وبالتحديد التقاء منظمة الأعراف مع منظمة الشغالين لم يعد غريبا على هاتين المنظمتين العريقتين اللّتين، رغم دفاع كل منهما على فئات متضاربة المصالح - ظاهريا -، فقد مثلتا استثناءا رائعا في التعامل الثنائي والإنسجام وحسن ادارة هذه المصالح والتوفيق بينها، وقد برز جليا بعد الثورة أن المصلحة العليا للوطن وهاجس انجاح الإنتقال الديمقراطي وحماية النمط المجتمعي التونسي.، كانت بوصلة هاتين المنظمتين في التعاطي مع مجمل الملفات والأزمات.
لذلك، فالمطروح اليوم أكثر من أي وقت مضى التقاء هذه المنظمات والهيئات، لإنقاذ الدولة التي تشهد تفككا واختراقا غير مسبوقين، ولإنقاذ الوطن والمجتمع، ليس بمجرد مساندة أو دعم، بل من خلال مشاركة فعلية ومباشرة في الإستحقاقين الإنتخابيين القادمين، بخلق اطار تنسيقي جامع بينها يشرف على العملية ويباشرها انطلاقا من رؤية وخطة عمل واضحة المعالم ومتفق عليها مسبقا من طرف الجميع أولها ضبط معايير اختيار المرشحين التي يجب أن تتمحور حول نظافة اليد والكفاءة والإشعاع.
خلاصة القول، على المنظمات الوطنية أساسا تحمل مسؤولياتها التاريخية و التحرّك من خلال خلق إطار تنسيقي بينها، قادر على التعبئة والحشد، يعتمد على الطاقات الهائلة الكامنة في المجتمع، وعلى شراكة استراتيجية بينها وبين الهيئات المهنية والقطاعية والشخصيات الوطنية الإعتبارية، اطار مواطني يكوّن نسيجا جماهيريا يفتح أفقا رحبا للدخول في غمار الانتخابات التشريعية القادمة من أجل تعديل حقيقي لموازين القوى والتأسيس لخارطة سياسية جديدة تمكّن من بعث الأمل لدى التونسيين في انقاذ البلاد، وذلك بطرح الإستراتيجيات والبرامج وخطط العمل القابلة للتنفيذ والتي تستجيب لانتظاراتهم، وتحقق الإقلاع الإقتصادي المنشود وترتقي بالعمل السياسي بما يعيد ثقة المواطن بالسياسة، انطلاقا من مرجعية تعتمد على منظومة حقوق انسان متكاملة، تؤسس لدولة مدنية عصرية ولديمقراطية تشاركية عنوانها المواطنة والتنمية المستدامة.
في الأخير أقول لهذه المنظمات والهيئات : بالأمس كنتم بناة لدولة الإستقلال، فكونوا اليوم حماة للوطن.