ننشر في ما يلي الجزء الثاني والأخير من نص محاضرة الأستاذ محمد العيادي التي ألقاها مؤخرا بمناسبة ندوة علمية حول «الرقابة القضائية للنفاذ الى المعلومة» من تنظيم مشترك بين هيئة النفاذ الى المعلومة واتحاد القضاة الاداريين، علما بأن الندوة أقيمت بمناسبة الاحتفال بمرور ثلاث سنوات عن صدور القانون المتعلق بالنفاذ الى المعلومة.
النفاذ إلى المعلومة آلية غير فعالة في دعم مجهود مكافحة الفساد
بالرغم من القيمة الدستورية للحق في النفاذ إلى المعلومة كحق أساسي يهدف إلى تعزيز مبدأي الشفافية والمساءلة، ولئن كرّس التشريع التونسي ضمن القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 هذا الحق ووضع إطارا قانونيا وهيكليا مناسبا بدليل تميّز ترتيبه على المستوى العالمي، فإنّ الواقع أفرز بروز العديد من الهنات والثغرات التي أضحت تعيق تحقيق مساهمة فعالة للحق في النفاذ إلى المعلومة في تكريس الشفافية والمساءلة في أداء المرافق العمومية وفي التصرف في الأموال العمومية وبالتالي في مجهود منع الفساد والتوقي منه ومكافحته، ويمكن تقسيم مجمل هذه النقائص إلى صنفين رئيسيين: نقائص قانونية ، وأخرى واقعية.
1 - النقائص القانونية
طبقا للأحكام الواردة بالباب الخامس من القانون المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة، يمكن لطالب النفاذ إلى المعلومة، في حالة رفض مطلبه، التظلم، في أجل أقصاه 20 يوما التي تلي إعلامه بقرار الرفض لدى الهيكل المعني، وفي حالة سكوت هذا الأخير بمضي أجل عشرة أيام عن تلقيه لطلب التظلم، أو في حالة الرفض الصريح لطلبه، أن يطعن في قرار الهيكل المعني لدى هيئة النفاذ إلى المعلومة، وذلك في أجل 20 يوما من تاريخ بلوغ قرار الرفض الصريح أو تاريخ الرفض الضمني، وتتولى الهيئة البت في الدعوى في أقرب الآجال الممكنة على أن لا يتجاوز ذلك أجلا أقصاه 45 يوما من تاريخ التعهد.
ولئن اقتضى الفصل 30 من ذات القانون المشار إليه أنّ القرار الصادر عن هيئة النفاذ إلى المعلومة ملزم للهيكل المعني، فإنّ حصول الطالب على قرار إيجابي لفائدته يقضي بإلزام الهيكل المعني بتسليمه الوثيقة أو المعلومة المطلوبة لن يكون سوى ظرفيا ونظريا، إذ يترتّب مباشرة عن الطعن بالإستئناف أمام المحكمة الإدارية توقيف مفعول قرار الهيئة، ليجد الطالب نفسه في وضعية استحالة لتنفيذه إلى حين البتّ في الطعن أمام المحكمة الإدارية، ويترتّب عن ذلك في الواقع عدم إمكان الطالب الحصول على المعلومة أو الوثيقة طيلة كامل الفترة التي يستغرقها نظر محكمة الإستئناف في الطعن، وهي فترة، أفرز التطبيق أنها لا يمكن بحال أن تقلّ عن سنة كاملة أو هي قد تمتدّ إلى سنوات، ومن شأن ذلك أن تتلاشى معه الحقوق وتتقلص معه الحاجة الملحة التي كانت وراء الطلب، خاصة وأنّ التطبيق أفرز كذلك التجاء ملحوظا للهياكل العمومية لممارسة حق الطعن بغاية تعطيل أو إرجاء النفاذ إلى المعلومة.
وإن كنّا لا نملك معطيات دقيقة أو إحصائيات حول عدد هذه الطعون المقدّمة بالمقارنة مع عدد القرارات الصادرة عن هيئة النفاذ إلى المعلومة، فإنّ الاستشهاد بطعن الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في القرار الصادر عن هيئة النفاذ إلى المعلومة القاضي بتسليم الطالبين نسخة من قائمتي شهداء الثورة ومصابيها ينهض دليلا كافيا على قصور النظام القانوني المنظم لمسألة نفاذ القرارات الصادرة عن هيئة النفاذ إلى المعلومة عن المساهمة الفعالة والناجعة في ترسيخ مبدأي الشفافية والمساءلة، فضلا عن عجزه عن توقيف أساليب المماطلة المتعمدة التي يشهدها هذا الملف الحارق، والنتيجة في الأخير أنه وبعد مرور 8 سنوات من الثورة لا نعرف شهداء الثورة ولا جرحاها في مخالفة صريحة للدستور الذي وشّحت ديباجته العبارات التالية:.. ووفاء لدماء شهدائنا الأبرار...».
هذا، وعلى فرض صدور حكم من محكمة الاستئناف يقضي بإقرار قرار هيئة النفاذ إلى المعلومة، فإنّ صدور الحكم المذكور بعد فترة طويلة من الزمن سوف لن يكون مجديا للطالب، ولا هو محقّقا للنتائج المرجوة على مستوى استعماله لكشف شبهات فساد أو تجاوزات غابت حججها بطول الزمن أو هي اندثرت إن لم تكن وقائعها قد سقطت بمرور الزمن واستحال معها قانونا تتبّع مرتكبيها، وقد كان على المشرع إلزام المحكمة الإدارية المختصة استئنافيا بالبتّ في الطعن المرفوع إليها في أجل مختصر أسوة بما تمّ إقراره في النزاعات الانتخابية أو في مادة حماية المبلّغين عن الفساد، خاصة وأنّ النقاش داخل اللجنة البرلمانية بمناسبة نظرها في مشروع قانون النفاذ إلى المعلومة قد دار حول مقترح يهدف إلى تقييد نظر المحكمة استئنافيا بأجل لا يتجاوز الشهرين من تاريخ تعهدها بالطعن.
من جهة أخرى، فإنّ نظام العقوبات الوارد بالباب الثامن من القانون المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة جاء في نظرنا هو الآخر غامضا وقاصرا في أكثر من جانب بما يحول دون استعماله من قبل الهيئة كوسيلة ردعية لصدّ كل محاولات التعطيل المتعمد للنفاذ إلى المعلومة بالهياكل الخاضعة لأحكام القانون،حيث فضلا عن أنّ العقوبات المقرّرة تقتصر على إمكان توقيع خطية زهيدة تتراوح بين 500د و5000د، فإنّ الطبيعة الجزائية لهذه الخطية تقتضي من الهيئة نشر قضية جزائية أمام القضاء العدلي وانتظار مآلها بعد مرورها بمختلف أطوار التقاضي، كما أنّ الإشارة إلى جواز التعرض إلى المساءلة التأديبية من طرف كل عون عمومي لا يحترم أحكام القانون المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة، جاء هو الآخر فضفاضا ، حيث غاب كل بيان بالقانون للإجراءات التي يتمّ بموجبها تفعيل مثل هذه العقوبات، ومن حيث هي مستوجبة بمجرد رفض الهيكل المعني مدّ الطالب بالمعلومة، أو هي رهينة صدور قرار إيجابي من هيئة النفاذ إلى المعلومة يقضي بالنفاذ، أم أنّ الأمر يتطلب في كل الأحوال صدور قرار استئنافي أو تعقيبي في الموضوع عن المحكمة الإدارية، باعتبار أنّ ركن التعمد في تعطيل النفاذ قد يكون محل نظر قضائي طويل لدى القضاء الجزائي تتوقف عليه إمكانية تطبيق أيّ من العقوبات التأديبية المقرّرة بالقانون.
ويتأكد النقص البارز على مستوى فاعلية الحق في النفاذ إلى المعلومة كآلية جوهرية لإلزام هياكل الدولة العامة والخاصة بتكريس مبدأي الشفافية والمساءلة وفي توسيع المشاركة في مجهود مكافحة الفساد ومنعه، من خلال غياب كل تنصيص بسائر النصوص التي ألزمت هذه الهياكل بالمد الطوعي والآلي للقضاء أو للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بكل التصاريح والبيانات والمعطيات التي هي بحوزتها والتي قد تنطوي أو توحي بوجود شبهات فساد أو تجاوزات للقوانين والتراتيب، حيث اقتصر المشرع في غالب هذه النصوص على التذكير بهذا الواجب دون ترتيب أي جزاء أو نتيجة في صورة مخالفة واجب إحالة المعطيات والبيانات، وهو ما شكّل سببا قانونيا إضافيا في إضفاء الفاعلية المحتشمة على النظام القانوني لتيسير تبادل المعلومات ولسلاسة النفاذ إلى المعلومات بين الهياكل العمومية.
هذا، وتنضاف إلى قائمة النقائص القانونية، معضلة عدم اكتمال النظام القانوني القائم في مجال النفاذ إلى المعلومة من جراء التجاء المشرع التونسي المتواصل إلى تقنية الإحالة إلى نصوص تطبيقية تصدر لاحقا في شكل أوامر حكومية يتوقف عليها تفعيل أكثر من نص للقانون، على غرار الغياب التام إلى حد اليوم للأمر الحكومي المتعلق بضبط أنموذج التصريح الواجب اعتماده في نشر مضمون التصريح بالمكاسب والمصالح الخاص بالأصناف الثمانية الأولى من الأشخاص المشمولين بهذا النشر، فضلا عن غياب النصوص التطبيقية المتعلقة بتفعيل قانون حماية المبلغين على أرض الواقع، على غرار الأمر الحكومي المتعلق بضبط شروط وإجراءات الحوافز التي يمكن منحها للهياكل التي تستجيب للممارسات الفضلى المتعارف عليها وطنيا ودوليا في مجال ضمان شفافية عمل الإدارة وفي إرساء مبادئ النزاهة والمساءلة ومكافحة الفساد (الفصل 3 من قانون حماية المبلغين)، وكذا الشأن للأمر الحكومي المتعلق بتحديد آليات وصيغ ومعايير إسناد المكافأة المالية التي تسندها الدولة للمبلّغين الذين أدّى إبلاغهم إلى الحيلولة دون ارتكاب أيّ من جرائم الفساد في القطاع العام أو إلى اكتشافها أو اكتشاف مرتكبيها أو استرداد الأموال المتأتية منها.
وفي علاقة بتقييم النظام القانوني القائم بتونس في مجال النفاذ إلى المعلومة، وبالإطلاع البسيط على التقرير الصادر عن وحدة الإدارة الإلكترونية برئاسة الحكومة الصادر في شهر مارس من سنة 2019 تحت عنوان « تقرير تقييم بوابات البيانات المفتوحة»، يتبيّن لنا أنه رغم انخراط تونس في برنامج شراكة الحكومة المفتوحة الخاصة بالفترة 2016 - 2018، فإنّ خطة العمل الوطنية للبيانات المفتوحة لا تزال غير مكتملة لعدم التوفق إلى اليوم في إصدار الأمر التطبيقي للقانون الأساسي للنفاذ إلى المعلومة المتعلق بالبيانات المفتوحة والذي يهدف بحسب ذات التقرير «إلى تنظيم وتأطير عمليات فتح البيانات العمومية من خلال توضيح مسؤوليات والتزامات الهياكل العمومية وتحديد المواصفات والمراجعات التنظيمية والإجرائية والفنية المحددة التي يجب أن تحترمها هذه الهياكل قصد تحقيق الأهداف المرجوة من فتح البيانات ولتمكينها من الاضطلاع بمهامها بصورة منظمة ومتّسقة وبصورة ناجعة وفعالة».
2 - النقائص الواقعية
بخلاف ما تمّ بسطه من معوقات ذات طبيعة قانونية، فقد أفرز الواقع التونسي بروز ظاهرة عدم تنفيذ القرارات والأحكام القضائية العدلية منها أو الإدارية أو المالية، وعليه فليس غريبا أن تجد قرارات هيئة النفاذ إلى المعلومة، رغم إلزاميتها لجميع الهياكل المشمولة بالقانون، نفس المصير ونفس الممانعة في التنفيذ، كما أنه وعلى فرض حصول طالب المعلومة على حكم قضائي من المحكمة الإدارية يقضي بإقرار قرار هيئة النفاذ إلى المعلومة القاضي بإلزام هيكل معين بالنفاذ إلى وثيقة أو معلومة ما ارتآها لازمة لتتبع شبهة فساد وتكوين حجج متينة لإثباتها تجاه مرتكبيها، فإنه لن يكون مؤمّنا في سبيله ولا هو من المؤكد أن يحقق المنفعة العامة المرجوة من سعيه في النفاذ، وليس المجال متاحا لاستعراض حالات امتناع العديد من الهياكل العمومية وحتى بعض المؤسسات المؤتمنة قبل غيرها على إنفاذ القوانين واحترام متطلبات دولة القانون عن تنفيذ أحكام قضائية باتة ونهائية في خرق صريح للدستور، هذا دون إغفال بعض الانحرافات المسجلة في التطبيق في باب منع العموم والإعلام بالخصوص من النفاذ إلى المعلومة المتعلقة باستغلال الموارد الطبيعية وفي الإطلاع على بعض المعاهدات الدولية والعقود واللزمات المبرمة مع بعض الدول أو الشركات لاستثمار أو استغلال الثروات الطبيعية (ملف كوتوزال واستغلال الملح التونسي كمثال)، أو تلك التي تحول دون متابعة العموم لما يبثه الإعلام من تحقيقات تتعلق بملفات فساد تشغل الرأي العام، على غرار ما أتاه مؤخرا حاكم التحقيق المتعهد بالبحث في وفاة 15 رضيعا بإحدى المؤسسات الصحية العمومية من منع لتمرير تحقيق صحفي يوثّق واقعة الفساد وأسبابها تحت غطاء المحافظة على سرية التحقيقات القضائية وعدم التدخل في أعمال القضاء.
وفي هذا الإطار بالذات، ورجوعا لمستخلصات تقرير «تقييم بوابات البيانات المفتوحة» المشار إليه آنفا ، يتبين أنّ جاهزية تونس في مجال البيانات المفتوحة قدّرت في حدود 45 % فقط، ويعود ذلك بحسب ما ورد بهذا التقرير إلى «غياب سياسة واضحة للبيانات المسارات والمسؤوليات والهياكل والموارد ومرجعية التصرف فيها»، فضلا عن «الحاجة إلى تطوير الكفاءات المختصة وتأهيل مناخ ملائم (Ecosystème) لتطوير استعمال البيانات وتوفير الدعم السياسي اللازم لذلك».
كما ثبت من خلال الإطلاع البسيط على التقرير المذكور أنّ منظمة Web Foundation ، حين تقييمها لنشر البيانات الحكومية التونسية وقياسها لمدى مطابقة البيانات المنشورة على الواب حسب القطاعات للمواصفات العالمية المعتمدة من حيث الجودة والدقة والتحيين والشكل، أنه «وباستثناء البيانات الإحصائية (موقع المعهد الوطني للإحصاء) والبيانات حول الجرائم (موقع البيانات لوزارة الداخلية) والبيانات الخاصة بقطاعات الثقافة والفلاحة وبدرجة أقل وزارة النقل ووزارة التربية ووزارة المالية ووزارة الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة، فإنّ بقية القطاعات لا تقوم بنشر البيانات وفقا للمواصفات المعمول بها»، وقد استخلصت المنظمة المذكورة في نفس السياق أنّ تونس تسجّل تأخرا في نشر البيانات المتعلقة بقطاعات حساسة تتكاثر فيها شبهات الفساد وهي تلك المتعلقة بالصفقات العمومية والبيئة والصحة والنقل والتشريعات وتسجيل المؤسّسات والإنفاق الحكومي وملكية الأراضي والخرائط.
• الخاتمة
لا شك أنّ تونس بذلت مجهودات محترمة في مجال إرساء ثقافة انفتاح الإدارة وتكريس مرونة النفاذ إلى المعلومة باعتباره حقا أساسيا ودستوريا يهدف في النهاية إلى إرساء مبادئ الحوكمة الرشيدة والشفافية والمساءلة فيما يتعلق بالتصرف في المرفق العام والأموال العمومية، فضلا عن أنّ هذا الحق يسمح بدعم مشاركة العموم في متابعة تنفيذ السياسات العمومية وتقييمها وفي معاضدة وإنجاح مجهود منع الفساد ومكافحته، غير أنّ تفعيل الإطار القانوني القائم في مجال النفاذ إلى المعلومة، على حداثته، يبقى في حاجة إلى الاستكمال بما غاب عنه من نصوص تطبيقية أضعفت فاعليته وقلّصت من نجاعته على أرض الواقع، وهو لذلك يبقى بحاجة إلى المراجعة المتأكدة في أكثر من موضع في اتجاه تدعيم سلطات هيئة النفاذ إلى المعلومة بالقدر الذي يجعلها سلطة مكتملة المقوّمات وقادرة على الإنفاذ الحقيقي لحق النفاذ إلى المعلومة من خلال التنصيص على إكساب قراراتها بالصبغة التنفيذية المباشرة بصرف النظر عن الطعن فيها، أو قصر هذا الأخير على حالات معيّنة بذاتها، أو حتى حجبه تماما عن الهياكل العمومية المعنية وإتاحته فقط لطالبي المعلومة حين ترفض دعاويهم أمام الهيئة أسوة ببعض التجارب المقارنة، أو في أقصى الأحوال بتعديل إجراءات وآجال الطعن القضائي في أعمالها وفق آجال جدّ مختصرة.
كما أنّ النجاحات التي حقّقتها الصحافة الاستقصائية أو تلك التي قادتها بامتياز بعض المنظمات والجمعيات الناشطة في مجال مكافحة الفساد ونجحت من خلالها في الكشف عن العديد من ملفات الفساد الثقيلة التي استحوذت على اهتمام الرأي العام، يجعلنا نعتقد أنّ هذه التجارب إنما هي بديل جدّي أو رهان بارز يستحقّ التنويه والعمل على تقوية مقدراته أكثر ممّا مضى في الحرب على آفة الفساد.
انتهى