على ترشيد الخطاب الديني واسترجاع السيطرة على المساجد من سيطرة المتشدّدين و الإخوانيين الذين زرعهم في الجوامع وزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي على غرار البشير بن حسن و الجوّادي وغيرهم من الذين لم يلتزموا الحياد وجعلوا من المنابر أبواق دعاية حزبية وتجييشية رغم تظاهر حركة النهضة آنذاك بدعواتها لتحييد بيوت الله على غرار بيانها بتاريخ 15 فيفري 2011 ..
ثمّ تكرّر الخوض في هذه الإشكالية إبّان الانتخابات البلدية سنة 2018 لكن كان الأمر أقلّ حدّة ممّا سبق إذ اتّخذ شكلا جديدا تمثّل في منع الإطارات المسجدية من الترشّح للإنتخابات البلدية وإبطال قرارات تكليفهم وإيقاف منحهم المالية وقتيا حتّى نهاية الانتخابات ...
وقد احتجّ عدد من الأئمة على هذه القرارات واعتبروها تضييقا على المساجد من خلال استمرار تطبيق قانون المساجد لسنة 1988، كما اعتبروا أن مسألة تحييد المساجد أخذت أبعادا سياسية مبالغا فيها، إذ يجدر دستوريا التمييز بين التوظيف الحزبي المرفوض و بين الخوض في الشأن العام حتّى لا يقزّم دور الأئمة ويحرموا من حقهم في حرية التعبير..
وتجنّبا لكلّ ما سبق والبلاد تستعدّ للاستحقاقات الإنتخابية القادمة أواخر سنة 2019 فقد إرتأت وزارة الشؤون الدينية الإستباق عبر إعداد خطة للحفاظ على «حياد المساجد» تماشيا مع الدستور في أحكام الفصل 6 منه الذي جاء فيه أن «... الدولة ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي».
و تهدف هذه الخطّة أن تكون المساجد بمنأى عن الحملات الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية والرئاسية.
وتتكوّن هذه الخطة من ثلاث نقاط :
• إعداد ميثاق أخلاقي لأئمة المساجد
• القيام بدورات تكوين وتأطير للأئمة .
• المراقبة للفضاءات الدينية.
وتجدر الإشارة أن هذه الخطّة سبقت إليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية التي دعت أئمة وخطباء المساجد إلى التزام الحياد تجاه الانتخابات التشريعية السابقة ..كما أعدّت سنة 2010 مدونة سلوك دينية لمراقبة وتقييم عمل الأئمة تعتمد على التكييف القانوني لبعض الأخطاء والأفعال التي يمكن أن يرتكبها الأئمة،والتي لا تتماشى مع مبدإ الاعتدال ومحاربة التطرف..
كما سبقت إليها وزارة الشؤون الدينية الجزائرية التي أصدرت سنة 2010 مدونة لسلوك الأئمة خوفا من عودة شبح التطرّف الذي عاشته في العشرية السوداء و احتراما للقوانين الجزائرية المتعلّقة بالواجبات الدينية. وتؤكد أيضا على أهمية احترام المذهبين المالكي والإباضي وقراءة القرآن الكريم «برواية ورش وتفسير صحيح البخاري والحزب الراتب وتعليم الفقه في المساجد».
كما أقرّ مكتب مجلس الديانة الإسلامية الفرنسي في شهر مارس 2017
مدونة سلوك خاصة بالأئمة العاملين في فرنسا - وتجدر الإشارة إلى أن الأئمة في فرنسا يقارب عددهم 1800 وأنهم يعملون في قرابة ألفين وخمس مئة مسجد ومصلّى - من شأنها مساعدتهم على المساهمة في التصدي للتطرّف من خلال التركيز على قيم الاعتدال والتسامح الإسلامية من جهة ومبادئ الجمهورية الفرنسية من جهة أخرى.وقد بدأ التفكير في صياغة هذه المدونة بعد الاعتداءات الإرهابية التي طالت فرنسا في شهر نوفمبر 2015.
فالاستباق إلى تحييد المساجد وإعداد مدوّنة السلوك ضرورة أملتها المعارك التشريعية والإعلامية وتفشيّ ظواهر التطرّف والإرهاب وهي ليست حاجة تونسية بل سبقنا إليها غيرنا ...
وبقدر سعي وزارة الشؤون الدينية في هذا المنحى وتوصّلها في ظرف وجيز من خلال تحرّك تشاوري تشاركي مع عدّة جهات مختصّة منها النقابي والتشريعي والمجتمعي والحقوقي إلى إعداد
«ميثاق شرف الإمام الخطيب» الذي تضمّن 13 بندا مدروسا ومصاغا بشكل متميّز وذكي ..والذي سيدفع نحو وضع الإمام بين حقوقه الأساسية وواجباته ودوره في تحقيق السلم الاجتماعي والأمن الروحي ..
لكن هذا الميثاق لن يكون ذا جدوى إذا لم يصحب بالتحسين الفعلي للوضعية المادية للأئمّة فالمنح التي تقدّم لهم زهيدة جدّا حدّ الإستغراب إن لم نقل السخرية فالأولى اليوم إنشاء معاهد عليا لتخريج الأئمة الخطباء واعتبارهم من موظفي الوظيفة العمومية على غرار الأساتذة والوعّاظ فالميثاق الخاص بهم لن يحظى بالتطبيق أو حتّى الإحترام مادامت العلاقة بين الوزارة ومنظوريها من الأئمة هشّة ومؤقتة تتحطّم بمجرّد هبّة نسمات ...
وقد تكون جملة المقترحات التي انبثقت عن الندوات والأيام الدراسية التي رتّبتها الوزارة بنسق حثيث ووتيرة مكثّفة ولا تزال وتحمل العنوان الكبير «رسالة الإمام الخطيب» كفيلة بوضع منهج إصلاحي لهذا القطاع ويمكن حوصلتها في النقاط التالية :
1 - التسريع بإصدار الأمر الحكومي الذي يضبط حقوق وواجبات الإطارات المسجديّة بما يتماشى واحتياجاتهم الأساسية في مرحلة أولى.
2 - سنّ قانون أساسي خاصّ بسلك الإطارات المسجدية يضمن لهم حقوقهم الماديّة والمعنوية وحريّاتهم الأساسية ويُحدّد واجباتهم لاحقا.
3 - العمل على مزيد تفعيل الاتفاقيات والشراكات المُبرمة مع المؤسسات الحكوميّة والوطنيّة والمنظمات الدوليّة ومؤسّسات المجتمع المدني ذات العلاقة.
4 - ضرورة مواصلة العمل مع المفوضيّة السّامية لحقوق الإنسان قصد تحقيق كافة الحقوق الأساسيّة للإطارات المسجديّة.
5 - العمل عل تعميم الورشات على مختلف الجهات.
6 - ضرورة تحمّل الوزارة مسؤولياتها القانونية في الدفاع عن منظوريها.
7 - حماية الإطارات المسجدية من التهديدات التي يتعرّضون إليها بمناسبة أدائهم لمهامهم.
8 - الحرص على أن تكون وزارة الشؤون الدينية مرجع نظر مختلف الإطارات المسجدية دون سواها في مجال المتابعة والتقييم والتكليف والإعفاء.
9 - ضرورة ضبط مخطط تكويني لمختلف الإطارات الدينية والمسجدية كلّ حسب تخصّصه محليا وجهويّا ومركزيا وفق استراتيجية متكاملة.
10 - السّهر على ضمان عدم توظيف المسجد للدعاية الحزبية والأغراض التجارية والربحية.
11 - تنمية قدرات مختلف إطارات الوزارة في مجال حقوق الإنسان وتدريبهم على التواصل والتخطيط الاستراتيجي.
12 - دعم جهود المعهد الأعلى للشريعة في مجال التكوين لا سيّما في مجال التواصل والتقنيّات الحديثة للتدريب.
13 - العمل على إحداث مرصد لرصد الاعتداءات التي يتعرض لها مختلف الإطارات المسجدية بمناسبة أدائهم لمهامّهم.
14 - مراجعة إجراءات التكليف والإعفاء لمزيد ضمان الشفافيّة، واحترام حقوق الإطارات المسجديّة..
وبتحقق هذه النقاط ولو مرحليا يمكن أن ندرك مرحلة متقدّمة من بناء الشخصية الوطنية التونسية ذات الهويّة التي لا يجب نسيانها:
في عقد الأشعري وفقه مالك
وفي طريقة الجنيد السالك
وذات الروح المواطنية بتجديد الخطاب الديني، من خلال جملة من الآليات:
أ - التفرقة الواضحة بين الثابت والمتغير، فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثوابت، وإنزال المتغير منزلة الثابت عين الجمود والتحجر وطريق التخلف عن ركب الحضارة والتقدم.
ب - التمييز بين ما هو مقدس وما هو غير مقدس، ورفع القداسة عن غير المقدس من الأشخاص والآراء البشرية والشروح المتعلقة بالأحكام الجزئية والفتاوى القابلة للتغير بتغير الزمان أو المكان أو أحوال الناس وأعرافهم ..
ج - تغيير مدروس في مناهج الحفظ والتلقين إلى مناهج الفهم والتحليل والتأمل والتفكير بالتعمق في دراسة مفاتيح العلم وأدوات الاجتهاد والفهم لفقه المقاصد، وفقه الأولويات، والتعامل مع الجزئيات المستجدة والمستحدثة برؤية عصرية مستنيرة واعية.
د - ضرورة العمل الجاد على تكوين إمام عصري مستنير من خلال برامج تدريب وتأهيل الأئمة والخطباء التأهيل الشرعي واللغوي،وكذلك التأهيل العصري من علوم التكنولوجية واللغات الأجنبية، وفنون التواصل إعلاميا وتكنولوجيا وإلكترونيا، وفنون الدعوة والخطابة والتواصل المباشر.
هـ- تعزيز مفاهيم الوحدة الوطنية، والتأكيد على احترام الآخر المختلف عقديًّا، أو فكريًّا، وعلى ترسيخ أسس العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، والعمل على نشر السلام العالمي بما يحقق صالح الإنسانية جمعاء عبر قبول التعددية والتعايش السلمي والتفكير الناقد وثقافة الحوار، وترسيخ ثقافة المشاركة المجتمعية وخدمة المجتمع.
و- تعزيز دور الأسرة في بناء الشخصية المتوازنة في فهم أمور الدين والدنيا، بما يؤدي إلى وجود أجيال قوية قادرة على حمل الأمانة، والوفاء بحقوق الوطن عليهم.
ز- حسن توظيف الدور الفاعل لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي والتصدي لكل محاولات الهدم والقوى المعادية التي تعمل على زعزعة أمن الوطن واستقراره.
«ميثاق شرف الإمام الخطيب» خطوة لبناء مشهد ديني مستقرّ وخطوة لترسيخ الولاء والانتماء الوطني بعيدا عن كلّ ضيق وتوجّها عاما لنشر الفكر الوسطي المستنير وتظلّ ضرورة الإستثمار المادي هي الخطوة الحقيقية التي لا يمكن نسيانها ...