في علاقة بالسياسات القطاعية وبصفة خاصة بالسياسة الصناعية . ولعل الأهم هو التغيير الجذري في مواقف الاقتصاديين ورؤاهم للسياسات الصناعية . كما أن هذا التغيير والثورة التي يشهدها هذا القطاع لم تقتصر على التحاليل الاقتصادية بل تجاوزتها إلى ميدان السياسات العامة حيث قامت بعض الحكومات في الدول الكبرى مثل الصين وألمانيا بالخروج من وضع الحياد الذي ميز سياساتها في هذا المجال للمرور إلى ضبط سياسات نشيطة كبرى للنهوض بصناعاتها الوطنية .
يشهد النقاش العام حول هذا الموضوع قطيعة كبيرة مع التوافق السائد منذ بداية الثمانينات لتخرج السياسات الصناعية من وضعية «المنبوذ» في السابق لتصبح اليوم إحدى الأولويات الإستراتيجية في ضبط السياسات العامة في البلدان المتقدمة .
وفي الحديث عن الحروب الصناعية الجديدة في هذا المقال سنتعرض إلى 4 نقاط أساسية : التحول الكبير والجذري الذي عرفته السياسات الصناعية في السنوات الأخيرة، الأسباب التي كانت وراء هذه التحولات، الميزات الأساسية للسياسات الجديدة أو «للصناعة 4.0» من خلال الوقوف على الاستراتيجيات التي وضعتها مؤخرا ألمانيا والصين وفي النهاية بعض الملاحظات والدروس التي يجب علينا الوقوف عندها لأخذها بعين الاعتبار في تجاربنا التنموية.
المسألة الأولى التي نريد الوقوف عندها تهم تطور موقع السياسات الصناعية في التحليل والنظريات الاقتصادية والسياسات العامة . وهنا نود الإشارة إلى القطيعة الكبيرة التي يعيشها الخطاب الاقتصادي والسياسات العامة في هذا المجال في الأشهر الأخيرة ولقد عرفت السياسات الصناعية اهتماما كبيرا اثر نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حدود نهاية السبعينات لتكون إحدى الأدوات الأساسية للسياسة الاقتصادية لأغلب دول العالم. وقد لعبت الحكومات دورا أساسيا على هذا المستوى من خلال تحديد الأولويات الصناعية الكبرى وعدم التردد في اخذ إجراءات حمائية من اجل الدفاع عن مصالحها واختياراتها الصناعية.
وقد لعبت هذه السياسات الصناعية دورا كبيرا في التنمية والنمو اللذين عرفهما العالم اثر الحرب العالمية الثانية وفي القضاء على البطالة والتهميش والاندماج الاجتماعي . وكانت الصناعة القاطرة التي مر منها التحديث الاقتصادي وساهمت بالتالي مساهمة كبيرة في بناء العقد الاجتماعي لدولة الرفاه (Etat – providence)
إلا أن هذا الإجماع سيخف بريقه وتنفرط حباته في بداية ثمانينات القرن الماضي مع تصاعد المد النيوليبرالي والأزمة الاقتصادية الكبرى التي سيعرفها العالم . وسيوجه أصحاب المنحى الليبرالي سهام نقدهم العنيف للسياسات الصناعية ولتدخل الدولة في هذا المجال معتبرين انه سيساهم في استعمال غير فعال لإمكانيات البلدان . وقد أشارت هذه النظريات إلى أفضلية السوق والمنافسة الحرة في تنظيم الاقتصاد والإشراف على الحركية الاقتصادية مطالبة الدول والحكومات بالتراجع عن هذه المجالات والاكتفاء بدورها التعديلي .
كما أن هذه النظريات لعبت دورا في نقد السياسات التجارية الحمائية واعتبرتها ساهمت مساهمة كبيرة في تطور الاقتصاد والنشاطات الريعية (activités rentières) ودعت إلى التخلي عن هذه السياسات التي لعبت دورا في تراجع الفعالية الاقتصادية وفتح الأسواق الداخلية أمام المنافسة الدولية .
والى جانب هذه الأسباب أضاف التيار النيوليبرالي والذي سيهيمن على الفكر الاقتصادي منذ بداية الثمانيات سببا آخر وهو رفضه لاستعمال ضرائب المواطنين لدعم مؤسسات تخيّر وضعية حماية الدولة ودعمها على الاستثمار في البحث والابتكار من اجل مواجهة المنافسة.
ساهمت هذه الهجمة الكبرى للتيارات النيوليبرالية في تراجع السياسات الصناعية منذ بداية الثمانينات لتصبح مرفوضة وعنوانا للتأخر في التفكير الاقتصادي والسياسات العامة . هذا التراجع وأزمة السياسات الصناعية سيفتح المجال واسعا للمنافسة والعولمة الاقتصادية وليصبح العالم مجالا لحرب تجارية وصناعية كبرى ستجني ثمارها كبرى الشركات المتعددة الجنسيات .
إلا أن هذا الوضع سيشهد تحولا كبيرا وقطيعة كبرى مع الوفاق الذي ساد منذ بداية الثمانينات ليعود للسياسة الصناعية بريقها في الأشهر الأخيرة بعد أربعة عقود من التهميش ويمكن أن نفسر العودة والنشاط المنقطع النظير الذي تعرفه السياسات الصناعية بثلاثة أسباب أساسية . السبب الأول وهو فكري ويهم تطور الفكر الاقتصادي وتراجع بعض أوجه الفكر النيوليبرالي أمام النقد الموجه له وتتالي الأزمات الاقتصادية والمالية . هذه التطورات دفعت العديد إلى نقد نظرية السوق وبصفة خاصة قدرة المنافسة الحرة على تنظيم الحركة الاقتصادية . وأصبحت القضية الأساسية في اهتمام الدراسات الفكرية هي عدم فعالية السوق والمنافسة غير الكاملة (concurrence imparfaite) وهذه النظريات الجديدة فرضت بعض التحولات في السياسات الاقتصادية وشيئا من تدخل الدولة من اجل دعم تمويل المؤسسات ودعم العمل والبحث والابتكار في المؤسسات الصناعية .
شكلت هذه السياسات الجديدة عودة إلى السياسات الصناعية وبعض آلياتها القديمة .
ويرجع السبب الثاني في رجوع السياسات الصناعية إلى الواجهة إلى تزايد المنافسة بين البلدان المتقدمة وظهور السياسات الحمائية الداعمة للصناعة والمنتوجات الوطنية. وتشكل السياسة الجديدة للإدارة الأمريكية والتي اختزلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شعار « أمريكا أولا» أو «America First» أهم تجسيد لهذه التطورات الأخيرة . وقد كانت هذه السياسات وراء ظهور البوادر الأولى لبعض الحروب التجارية بين أمريكا وأوروبا من جهة وأمريكا والصين والتي أصبحت تهدد الاقتصاد العالمي وتزيد حدة الأزمة الاقتصادية العالمية وهشاشة النمو العالمي .
ويعود السبب الثالث لعودة السياسات الصناعية إلى التطورات الكبيرة التي يعرفها القطاع الصناعي مع تنامي التحولات التكنولوجية. فقد دفعت الثورة التكنولوجية مع تطور الانترنت وظهور الذكاء الاصطناعي إلى ظهور جيل جديد من الأنشطة الصناعية وما يسميه الخبراء والمختصون بـ «الصناعة 4.0» في عديد القطاعات كالنقل والصحة وقطاع السيارات والنقل الجوي والكمبيوتر والهواتف الجوالة الذكية. هذه التطورات حتمت علىالدول والمؤسسات الصناعية الكبرى ضبط سياسات نشيطة لتحسين قدرتها التنافسية والسيطرة على القطاعات الجديدة .
دفعت هذه التحولات الكبرى والثورة التكنولوجية عديد البلدان الكبرى إلى ضبط سياسات صناعية جديدة لحماية مراكزها والدفاع عن مصالحها في العولمة 4.0 – ولعل التجربة الألمانية والصينية شكلتا ابرز التطورات في هذا المجال في الأشهر الأخيرة . فقد أعلنت الحكومة الألمانية يوم 5 فيفري 2019 عن تبني سياسة صناعية جديدة أطلق عليها تسمية «إستراتيجية صناعية وطنية في أفق 2030» وقد شكل هذا الإعلان تغييرا جذريا في السياسة الاقتصادية الألمانية التي اتبعت إلى حد هذه اللحظة اختيارات ليبرالية تحترم اقتصاد السوق وترفض تدخل الدولة في الاقتصاد ودعم المؤسسات الخاصة .
إلا أن هذه الاختيارات وهذه السياسة أثبتت فشلها في رأي المسؤولين الألمان أمام تراجع الشركات الصناعية الألمانية أمام تزايد المنافسة من قبل الشركات الصينية . وقد شكلت عملية شراء الشركة الصينية Midea لكل أسهم احد ابرز الشركات الألمانية في قطاع الصناعة 4.0 في نهاية 2016 بمثابة الصدمة لكل المسؤولين والرأي العام في ألمانيا . وهيأت هذه التطورات لهذا التحول ولضبط سياسة صناعية جديدة هدفها الدفاع عن المؤسسات والشركات الصناعية وحمايتها أمام المنافسة التي تتعرض لها .
كما أخذت الصين نفس المنحى وحددت سياسة صناعية جديدة أطلق عليها MIC25 أو Made in china 2025 وقد انطلق العمل على هذه الاستراتيجيا في سنة 2013 ليقع اعتمادها بصفة رسمية سنة 2015. وقد وضعت هذه الإستراتيجية هدفا واضحا للصناعة الصينية 4.0 وهو تقليص الواردات وتعويضها بالمنتوج الوطني في القطاعات الصناعية الجديدة وقد حددت هذه الإستراتيجية أهدافا دقيقة في اغلب القطاعات الصناعية وجب على الشركات الصناعية الوصول إليها . كما وضعت الدولة إمكانات مالية كبيرة واستثنائية قدرت بأكثر من 2000 مليار اورو لإنجاح هذه الخطة وتحقيق أهدافها .
دفعت التحولات الاقتصادية والثورة التكنولوجية الحكومات في عديد البلدان الكبرى إلى الخروج من التوجهات الليبرالية التي هيمنت على السياسات العمومية في العقود الأخيرة والى ضبط سياسات صناعية جديدة هدفها دفع ودعم القدرة التنافسية للدول في الميدان الصناعي . وبالرغم من الاختلافات بين هذه السياسات فانه يمكن لنا أن نشير إلى ثلاث ميزات أساسية لأغلب هذه الخطط. الميزة الأولى لهذه السياسات الصناعية الجديدة تهم التوجه والتركيز على القطاعات الصناعية الجديدة أو «الصناعة 4.0» لدعم طاقات البلدان في هذا المجال ومسك التطورات التكنولوجية التي يعرفها القطاع الصناعي . أما السمة الثانية لهذه السياسات فتخص تدخل الدولة لدعم القطاع الصناعي في مجالات متعددة من ضمنها التمويل والبحث ودعم الصادرات وغيرها .
أما السمة الثالثة لهذه السياسات الصناعية الجديدة فتخص دعم المؤسسات والشركات الوطنية أمام المنافسة الخارجية ومحاولة دعم تكوين مؤسسات وطنية كبرى في الميدان الصناعي أو des champions nationaux.
عرف العالم في الأشهر الأخيرة تطورات كبيرة على المستوى الاقتصادي دفعت البلدان الكبرى إلى الخروج من السياسات الليبرالية والى تبني سياسات صناعية نشيطة هدفها دعم قدرتها التنافسية ووجودها في القطاعات الصناعية الجديدة . ولابد لنا من اخذ الدروس في هذا المجال والخروج من النظرة الضيقة للسياسات الاقتصادية والتي تختزل دورها في التوازنات الكبرى وإعطاء السياسات الهيكلية وبصفة خاصة في الميدان الصناعي للخروج من التهميش والأزمات التي تعيشها بلداننا.