بالقليل من الفصول. كيف لي التثبّت في تفاصيل 1000 صفحة؟ كيف لي بمتابعة كلّ ما جاء من أبواب ومن جزئيّات؟ هذا كتاب ثقيل. هذه عادة دائرة المحاسبات. كذلك تفعل، في ما أرى، دائرة المحاسبات الفرنسيّة. في كلّ سنة، تحبّر دائرة المحاسبات مئات الصفحات ومن العسير الالمام بما جاء به معلومات. لكنّ المتتبع يمكنه النظر في ما شاء من ملفّ وقد وزّع التقرير على ملفّات منفصلة خصّص كلّ واحد لوزارة، لتنظيم، لإشكال.
على خلاف الهيئات الأخرى التي بعثت بعد الثورة، لدائرة المحاسبات تاريخ عريق وتقاليد ثابتة في مراقبة الإنفاق العموميّ. كذلك، يعتبر تقرير دائرة المحاسبات مرجعا للمتابعين بل كثيرا ما أثار شهيّة الصحفيين وفيه يلقون عديد أوجه سوء التصرّف والفساد...
* * *
دائرة المحاسبات هي «جهاز أعلى» للرقابة. بعثت منذ 50 سنة ونشرت 31 تقريرا. تعدّ اليوم أكثر من 200 موظّفا منهم نحو 170 مستشارا، شغلهم التدقيق في ما يجري في المال العام... كبرت الهيئة في السنين الأخيرة ولها اليوم مال وفير ومقرّ فخم يتماشى وما أصبح للرقابة في تونس من شأن عظيم. بعد الثورة، الكلّ أصبح رقيبا. يتصيّد الفساد والفسّاد... دائرة المحاسبات هي هيئة دستوريّة تتمتّع بالاستقلالية. أمّا مهامّها فهي كما كتب في المقدّمة: «صون المال العامّ وإرساء دعائم الحوكمة ومبادئ التصرّف الرشيد»...
هذه المهامّ تذكّرنا بما كتبته هيئة مكافحة الفساد والهيئة العليا للرقابة الاداريّة والماليّة. هما أيضا يقولان إنّ غاياتهما هي الحفاظ على الملك العامّ. بل أرى بينهما ودائرة المحاسبات تطابقا في الغايات كثيرا. لماذا هذه الثنائيّة أو الثلاثيّة في الرقابة؟ أفليس في ذلك مضيعة للمال العامّ؟
* * *
ماذا جاء في تقرير دائرة المحاسبات؟ على خلاف دائرة المحاسبات الفرنسيّة التي انطلقت في بداية التقرير، في النظر في الماليّة العموميّة و في السياسات العامّة، ثم جاءت الأجزاء الأخرى للبحث والتقصّي في عدّة إشكالات، انطلق تقرير دائرة تونس مباشرة في التدقيق في منظومة التحكم في الطاقة دون النظر في ما كان أسّس من سياسات ماليّة عموميّة. إنّ التأسيس لمثل هذا الاطار العام هو مهمّ حتّى نتبيّن ما جاء من سبل وغايات في السياسات العموميّة. في هذا نفع للمتّبع وعلى ضوئه ينطلق المراقبون في التدقيق وفي ظلّه يقيّمون ويقارنون. لنجاعة الرقابة، يجب أوّلا تحديد المراجع وضبط الأهداف العامّة. على ضوء هذه، يمكن تحديد الفجوة الحاصلة ويمكن القول إن تحقّقت الغايات أم لا. هذا الاطار العام هو الحبل الجامع للسياسات الحكوميّة وفي فلكه تدور مساعي المنشآت الحكوميّة... لكن التأسيس لمثل هذا الاطار العامّ يلزمه تمكّن من جميع مفاتيح الاقتصاد والسياسة وقدرة على النظر الشموليّ وهذا ما لا نراه في التقرير التونسيّ...
في التقرير الفرنسي، هناك ذكر لأسماء المدقّقين عن كلّ موضوع بل وأيضا من كان مراجعا للتدقيق. كذلك، ترى كلّ رقيب مسؤولا عمّا يقول وهو المتحمّل لتبعات ما أتى. كما يتحمّل كلّ مراجع مراجعته. في هذا التمشّي، هناك ضبط للمسؤوليّات. يجب التفريق بين المستشارين والمراجعين وتقييم ما أتى كلّ واحد. أمّا أن تقول هو «عمل جماعيّ» فمع الجماعة يحصل الاهمال وأحيانا تمتدّ أيدي الشيطان... أخيرا، في فرنسا، يصدر تقرير دائرة المحاسبات في آخر السنة ليبدي رأيه في ما جرى خلال السنة. في تونس، تقرير دائرة المحاسبات يصدر في آخر سنة 2018 وفيه ما حصل في سنة 2017 وأحيانا في 2016. هذا التأخير الزمني يفسد الرقابة. يبطلها أحيانا. ما كان من خروق ومن سوء تصرّف في المال العامّ كان بالإمكان
تداركه لو صدر التقرير في إبّانه.
* * *
ماذا جاء في تقرير دائرة المحاسبات؟ نظرت بعمق في بابين. الباب الأوّل في علاقة بمستشفى عزيزة عثمانة. في نحو 37 صفحة (من ص. 412 الى ص. 448)، تطرّق المحقّقون الى «مائة» قضيّة الى «ألف» إشكال. أعاد التقرير أشياء كثيرة. ذكّر بتاريخ تأسيس المستشفى وما فيه من هيكلة ومن اختصاصات وما كان من قوانين ومن إحصائيّات. من بين ما ضبط من اشكالات، أذكر مثلا: سبل التكلّف بالمرضى من تسجيل واستقبال، قدم البنايات، التجهيزات وما فيها من نقص في الصيانات، الأدويّة وما كان استلم وما كان وزّع حقّا وباطلا، الاكتظاظ العامّ وما فيه من فوضى، في عدد الأسرّة وندرتها، في المراحيض، في النقص الحاصل في الموارد البشريّة والأطبّاء، في أعوان التنظيف دون لباس، في الفوترة، في النفايات الخطرة، وفي اشياء أخرى كثيرة...
بعد ذكر الهنات وما كان من خلل ومن جزئيّات، تأتي التوصيّات. نظرت في التوصيّات فجاءت عامّة، أكاد أقول سطحيّة، لا تسمن. لو كان لي أن أتقدّم بالنصح لهذا المستشفى ولكلّ المؤسّسات العموميّة لقلت نفس قول تقرير دائرة المحاسبات ولسوف أدعو الى دعم الموارد الماليّة والبشريّة ورقمنة المصالح وحسن العناية بالمرضى والتسريع باسترداد الأموال وتنظيم الادارة ووضع التراتيب واحترام القوانين... الى غير ذلك من التوصيّات الصالحة لكلّ زمان ومكان.
في الباب الثاني، اطلعت على ما جاء في رقابة «بلديّة القصر». جاء التقرير في نحو 33 صفحة (من ص.965 الى ص.997) وبعد التأكيد على ما كان من خلل في عديد النقاط وكما فعلت مع عزيزة عثمانة، ترى المحقّقين يسقطون على البلديّة عديد الأوامر والتوصيّات. من هذه مثلا، أذكر مطالبة البلديّة بتعبئة الموارد، بالزيادة في نجاعة التصرّف، بالتأسيس لهيكل تنظيمي، بمتابعة حضور الأعوان، بالزيادة في المساحات الخضراء، «بالنهوض بأداء البلدية خاصّة في ظلّ التحدّيّات المستعجلة» (ص.989 )، الى غير ذلك من الكلام العامّ...
• خاتمة
بهذا المقال أنهي ما كتبت حول الرقابة في تونس. أختم الكلام بثلاثة استنتاجات. كما رأينا، كثرت الهيئات الرقابيّة في تونس. بعد الثورة، عمّت الريبة البلاد وشدّت الهلوسة العباد. اعتقد الناس أنه يكفي الاكثار من الرقابة حتّى ننتهي من الفساد ومن كلّ مسّ بالمال العامّ... العكس هو الذي حصل. رغم ما بذل من جهد ورغم ما كان من إنفاق، ازداد في تونس الفساد. انتشر سوء التصرّف في الملك العامّ... هذا متعارف. هذه نتيجة حتميّة: فكلّما كثر العسس كثر السرّاق. الاستنتاج الثاني هو أنّ الهيئات الرقابيّة لا تحسن الرقابة... إنّ الرقابة هي أداة تصرّف. ركن للدفع بما كان من فعل ومن قرار. الرقابة ليست سيفا مسلولا على الرقاب بل هي يد تمتدّ للعون، للمساعدة، لاقتراح إجراءات مضبوطة، مدقّقة حتّى يتمّ الاصلاح. في ما أرى، يسعى المراقبون للمسك بالمخلّين، لإظهار النقص دون اعتبار لما توفّر من تقاليد ومن إمكانات. استنتاج ثالث، أخير. تريد هيئات الرقابة أن تكون مستقلّة. تفعل ما تراه. هذا، في رأيي، خور. طالما تحيا هذه الهيئات من مال الخزينة، من حقّ الدولة أن تراقب ما تأتي وما تنتج... لا أدري كيف تختار دائرة المحاسبات مواضع الرقابة. لا أدري ما النفع في الأخير من كلّ هذه التقارير وهل أعطت أكلا وحسّنت في التصرّف في المال العامّ؟ يجب على الدولة أن تتدخّل وتقيّم وتحاسب. عليها أن تأمر حيث يجب المراقبة وحيث تكمن الأولويّات. في الأخير، يجب مراقبة هيئات الرقابة. في ما أعتقد، هناك اليوم بعض الزيغ في هيئات الرقابة. يجب محاسبة المراقبين عمّا أتوا من إنفاق ومن إنتاج.
(انتهى)