بلدان الربيع العربي بل في النظام العربي بصفة عامة . فعلى مستوى التحول الديمقراطي تشكل تونس الاستثناء الوحيد والتجربة الوحيدة التي تمكنت من أن تخطو خطوات هامة في مجال التحول الديمقراطي السلمي وبناء تجربة ديمقراطية وتعددية مهمة في المنطقة العربية . في نفس الوقت دخلت اغلب بلدان الربيع العربي الأخرى في حروب قاتلة ومدمرة أتت على كل مكونات هذه البلدان وهدمت كل العلاقات الاجتماعية وانعكست بالويل والدمار على الشعوب .
أما على مستوى النظام العربي فقد عرف شللا كبيرا لم يشهد مثله منذ استقلال هذه البلدان في ظل الانقسامات والصراعات التي تعيشها البلدان العربية والتي جعلتها عاجزة عن ايجاد حلول للازمات والصراعات التي تعيشها المنطقة العربية .
هكذا يعرف النظام العربي ويتخبط في حالة من العنف والفوضى والتشتت منذ اندلاع ثورات الربيع على عكس الآمال والطموحات التي ولدتها هذه التحولات الكبرى . وقد حاز هذا الوضع السياسي واللحظة التاريخية المفزعة والقاتلة التي يعيشها النظام العربي باهتمام الناشطين السياسيين والمفكرين والباحثين . والسؤال الأساسي الذي نحاول الإجابة عنه هو فهم أسباب
هذا الانفلات الخطير للعنف والفوضى وهل يشكلان الأفق التاريخي للمجتمعات العربي والتي لا يمكن لها أن تنتج إلا الدمار والموت كما يذهب إلى ذلك الكثير من المستشرقين ؟
لا ندعي في هذا المقال الإجابة عن هذا التساؤل الهام والذي يهم التاريخ السياسي للنظام العربي واستقراء سيناريو تطوراته المستقبلية . سنحاول تقديم بعض الملاحظات من خلال قراءة نقدية صدرت منذ أسابيع حول هذه المسألة وقدمت قراءة لأسباب ومصادر العنف والفوضى في المجتمعات العربية منذ انطلاق ثورات الربيع العربي .
الكتاب الأول هو لأستاذ العلوم السياسية والباحث الفرنسي Gilles Kepel والذي صدر منذ أسابيع قليلة تحت عنوان sortir du chaos les crises en Méditerranée et au moyen orient أو « الخروج من الفوضى والأزمات في البحر المتوسط والشرق الاوسط».
عن دار النشر الفرنسية الشهيرة قاليمار في باريس – والى جانب قراءته لهذه المسألة وتحليله لانفلات مخزون العنف في المنطقة العربية فإن لهذا الكتاب أهمية خاصة لسببين على الأقل - السبب الأول هو قيمة الكاتب جيل كيبال والذي يعد من أهم وأبرز المختصين على المستوى العالمي في دراسة المجتمعات العربية . أما السبب الثاني لأهمية هذا الكتاب فتعود إلى أن الكاتب جعله عصارة تجربته الطويلة ومعرفته الدقيقة بالنظام السياسي العربي . وقد جاء هذا الكتاب بمثابة وصية جيل كيبال الفكرية والعلمية عن المنطقة العربية وهو العمل الذي يقوم به كل باحث ومفكر بعد مسيرة طويلة مع موضوع بحثه وتخصصه .
لقد قدم جيل كيبال في هدا المؤلف الضخم والذي يقع في أكثر من 500 صفحة قراءته لمصادر العنف والفوضى في النظام من خلال عودته لتاريخ النظام لأكثر من أربع عقود منذ بداية سبعينات القرن الماضي . وقد قدم لنا الكاتب فرضية هامة حول أسباب العنف والتي تكمن في رايه في التقاء الريع النفطي بالإسلام السياسي في منتصف السبعينات على أنقاض أزمة الدولة الوطنية وسيحكم هذا التحالف النظام العربي لأربعة عقود متتالية ليكون صعود داعش في 2014 النقطة الأظلم في هذا التاريخ وهذا الارتباط الوثيق . ويؤكد الباحث أن الريع النفطي والتحالف بين آل سعود والحركة الوهابية سيكون نقطة انطلاق لدعم كبير للإسلام السياسي الراديكالي والسلفي العنيف والذي سيقصي الحوار والتعدد من النظام العربي ويفرض شيئا فشيئا منطق العنف والقوة والتسلط .
ومن خلال هذه الفرضية الأساسية والتي تجدها في دراسات الكاتب وتحاليله السابقة يقوم بقراءة مهمة لتاريخ المنطقة العربية ويقسمها إلى أربع مراحل كبرى منذ أزمة الدولة الوطنية في بداية السبعينات. أما المرحلة الأولى فتغطي الفترة الممتدة من نهاية حرب 1973 إلى سنة 1979 وتتميز بسقوط الأنظمة الوطنية وصعود الدول البترولية لتصبح اللاعب الأساسي في النظام العربي المابعد وطني وستساهم الثروة البترولية في دعم الإسلام السياسي وبصفة خاصة الحركات السلفية لتكون البديل عن الايديولوجيا القومية وفكر حركة التحرر الوطني الذي هيمن على الفكر السياسي منذ بدايات القرن العشرين .
وستشكل سنة 1979 سنة تحول كبرى وجذرية في النظام العربي . ويتفق جيل كيبال في هذه المسألة مع العديد من الباحثين فقد عرفت هذه السنة سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإيرانية وعودة الخميني من منفاه ليهيمن القادة الدينيون على النظام السياسي الجديد ولتصبح ولاية الفقيه المرجع الفكري للدولة الجديدة والتي ستقوم بقمع كل معارضيها وستنطلق في حروب مدمرة مع العراق . التطور المهم الثاني الذي ستعرفه المنطقة خلال هذه الفترة هو التدخل السوفياتي في أفغانستان والتي ستكون نقطة انطلاق الجهاد بدعم مباشر من بعض الدول العربية والمخابرات الأمريكية .
ستكون سنة 1979 نقطة انطلاق لفترة جديدة في تاريخ المنطقة وستمتد إلى نهاية تسعينات القرن الماضي وسيشكل صعود الجهاد المسلح السمة الأساسية لهذه الفترة ليزرع العنف والفوضى والموت بصفة مباشرة في النظام العربي. والى جانب الجهاد في أفغانستان ستعرف سنوات التسعين صعود الحركات الجهادية والعمل المسلح في الجزائر لتشكل العشرية السوداء وفي مصر مع تنامي الهجومات الإرهابية ضد ممثلي السلطة وقوات الأمن لتصل إلى أهم مراحلها من خلال عملية اغتيال الرئيس السابق أنور السادات أثناء الاستعراض العسكري ليوم 6 أكتوبر 1981 احتفاء بيوم العبور في حرب 1973.
وستفتتح هذه المرحلة إلى أخرى مهمة ستمتد من 1998 إلى بدايات القرن العشرين وستعرف هذه الفترة تدعيم الحركات الإرهابية في المنطقة العربية مع صعود القاعدة وبن لادن . وستشكل اعتداءات 9 سبتمبر 2001 في أمريكا نقطة بارزة ومهمة لأنها ستفتح مخزون العنف في أمريكا .
اثر التدخل الأمريكي في أفغانستان ثم الحرب العراقية الثانية والتي ولئن أسقطت نظام صدام حسين فإنها حررت عقال الحركات الجهادية والعنف الذي سيكتسح الساحة السياسية وليصبح احدى السمات الأساسية للنظام العربي .
وستعرف المنطقة العربية في نهاية هذه الفترة وبداية الثورات العربية في بداية 2011 صعود الأمل في انحسار العنف وتراجع الحركات الجهادية لصالح الحركة الديمقراطية والعمل السياسي السلمي .إلا أن هذا الأمل لن يصمد طويلا أمام الواقع فستعرف المنطقة العربية أحلك فتراتها واعصب مراحلها التاريخية اثر صعود الحركات الجهادية ومحاولة داعش بناء دولة والانتقال بالجهاد إلى مرحلة جديدة تضع السيطرة على الأرض من ضمن أولوياتها .
إلا أن فشل داعش وسقوط دولتها يؤسس حسب جيل كيبال لمرحلة سياسية جديدة تتميز بنهاية التحالف بين البترودولار والإسلام السياسي وتفتح النظام العربي على عديد الاحتمالات والسيناريوات المستقبلية .
وترجع أزمة هذا التحالف إلى أسباب عديدة من ضمنها أزمة المشروع الإسلامي الجهادي العنيف وتراجع موارد الدول الداعمة له والخلافات والصراعات التي تشق القطب السني والذي كان الداعم الأساسي لهذا التحالف .
الكتاب الثاني الهام والذي تعرض لهذه المسألة ولتنامي مخزون العنف في بلادنا هو للباحث الأمريكي والأستاذ الجامعي في جامعة جورج واشنطن العريقة Marc lynch والذي صدر منذ أيام قليلة تحت عنوان the new arab war’s uprisings and anarchy in the Middle East أو «الحروب العربية الجديدة الانتفاضات والفوضى في الشرق الأوسط» ولئن يتفق الكاتب مع عديد الباحثين حول هيمنة العنف والفوضى في النظام العربي فانه يحاول قراءتها من نافذة تطور وأزمة الدول الوطنية .ويقوم الباحث في هذا الكتاب بقراءة تاريخية لتطور النظام العربي منذ بداية سبعينات القرن الماضي وسيقدم نظرة مهمة ونتيجة أساسية وهي أن أزمة الدولة الوطنية في بداية السبعينات لم تنجح في بناء مشروع بديل قادر على فتح آفاق جديدة للتجربة السياسية في المنطقة العربية بل بالعكس فقد تواصلت هذه الأزمة خلال العقود الاخيرة وتنامت لتفضي إلى تراجع الدولة وانحلال مؤسساتها الشرعية وتفتح المجال بالتالي لعديد الفئات الاجتماعية الخارجة عن القانون كالمهربين والفاسدين والحركات الإرهابية .
ستعرف هذه الفترة التاريخية تراجعا كبيرا للدولة وأزمة شاملة لمؤسساتها لتعرف مؤسسات الدولة المارقة أو «L’Etat voyou» تطورا كبيرا خاصة اثر الثورات العربية . وستفتح الأزمة العامة للدولة المجال واسعا للعنف والفوضى والفساد والمضاربة لتهيمن على الواقع العام وتسيطر على الفضاء السياسي .
يقدم هذان الكتابان المهمان قراءتين مختلفتين لكنهما متكاملتين للواقع العربي وتنامي العنف والفوضى . ويشكلان بالرغم من بعض النقد والمآخذ مرجعين مهمين لقراءة التاريخ العربي الحديث من حيث دقة المعلومات وصرامة المنهجية العلمية وأهمية الفرضيات البحثية .
ويلتقي هذان الكتابان في نقطة مهمة وهي أن العنف والفوضى اللذين نعيشهما اليوم هما وليدا النظام العربي فقد تمخضا من أحشائه الداخلية و ولدا على أنقاض أزمة وفشل المشروع الوطني في بداية السبعينات وعدم قدرة النخب السياسية العربية على بناء مشروع ديمقراطي أمام أزمة المشروع الوطني الاستبدادي .
ولئن نتفق مع هذه القراءة بعض الشيء فإنها تعبر في رأينا عن وجه واحد لهذه الأزمة من خلال تأكيدها على العوامل الداخلية . ولئن نتفق مع هذا الاختيار المنهجي وبدون الانخراط في نظرية المؤامرة الخارجية فإننا نعتقد أن التأثيرات الخارجية لم يعطها الكاتبان حق قدرها في قراءة أزمة النظام العربي .
الملاحظة الأخرى التي نريد الإشارة إليها وتخص موقف بعض المستشرقين والتي تؤكد على انغلاق المجتمعات العربية وعدم قدرتها على الانخراط في مشروع الحريات والتحول الديمقراطي ليبقى الاستبداد والعنف هما المجال الوحيد للتجربة السياسية في المنطقة العربية . ولئن ننزه هذين الكاتبين عن هذه المواقف فان التأكيد على الجوانب السلبية والعنيفة والقاتلة في التجربة العربية والتغاضي عن التطورات المهمة في الميادين الفكرية والسياسية والثقافية لتكوين وعي جمعي جديد ينخرط في الحقوق الكونية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان قد يثير بعض التساؤلات والنقد.
إلا انه وبالرغم من هذه الملاحظات فقراءة هذين الكتابين هامة وأساسية لفهم تطور النظام العربي للفترة الأخيرة وآفاق تطوره في المستقبل .