التطور الديمقراطي الحديث . ولعل الهام في هذا التطور هو عدم اكتفاء هذه الحركات بالموقف الاحتجاجي كما كان الشأن في السابق بل وصولها إلى السلطة في عديد البلدان أو على مشارفها في بلدان أخرى.
وقد أثار هذا التطور الكثير من التساؤلات والمخاوف فقد اعتبر العديد من المحللين أن هذه الحركات الشعبوية تضرب النظام الديمقراطي في الأساس وتهيئ لعودة وهيمنة الحركات اليمينية المتطرفة وحتى الفاشية منها مع ما تحمله من دفاع على «الهويات القاتلة « ورفض الآخر . أثارت هذه الحركات الكثير من المخاوف والقلق والحذر. ولم يحاول اغلب المحللين فهم هذه الظاهرة وأسباب نموها وتطورها . بل قابلها الكثير بالرفض وفي الكثير من الأحيان بالازدراء والسخرية باعتبار جذورهم الشعبية وابتعادهم عن النخب السياسية والثقافية التقليدية . وبالرغم من هذا الجفاء فقد تواصل نمو هذه الحركات الشعبوية مقابل تراجع وتآكل الأحزاب التقليدية لتصبح في طليعة النضال الاجتماعي والسياسي. وآخر مثال على ذلك هو حركة أصحاب السترات الصفراء في فرنسا والتي فاجأت كل المراقبين والملاحظين لتصبح الشغل الشاغل للسلطة السياسية. وبالرغم من التنازلات الهامة التي قدمها الرئيس ماكرون وحكومته فإن الحركة لا تزال متواصلة لتطال مطالب أكثر راديكالية من الناحية السياسية من خلال المطالبة بإجراءات لتطوير الديمقراطية المباشرة ومن الناحية الاقتصادية كذلك من خلال المطالبة بالتراجع عن إقرار إلغاء الضريبة على الثروة والتي شكلت احدى ركائز البرنامج الإصلاحي للنظام الجديد.
لقد ولد تنامي هذه الحركات الكثير من الاهتمام عند الباحثين والناشطين السياسيين لفهم هذه الظاهرة وقراءتها بالكثير من الجدية بعيدا عن الاستخفاف والازدراء السابق. ولعل أهم الباحثين والناشطين بل والمنظرين على المستوى العالمي للحركات الشعبوية نجد الأستاذة الجامعية البلجيكية Chantal Mouffe شانتال موف والتي أصبحت في السنوات الأخيرة أيقونة الحركات الشعبوية اليسارية منها – فنجدها في الاجتماعات والنقاشات مع حركة بوديموس Podemos في اسبانيا وسيريزا Syriza في اليونان وحركة la France insoumise ومرشحها جون لوك ميلنشان Jean Luc Melenchon للانتخابات الرئاسية الفرنسية . ويعتبرها الكثيرون اليوم ملهمة الحركات الشعبوية أو الحركات الاجتماعية ذات المنحى اليساري والتي تسعى لفتح آفاق التغيير الاجتماعي خارج المنظومة الثورية الماركسية والشيوعية التقليدية من خلال تعبئة الشعوب من اجل تعميق الحقوق والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسنخصص هذا المقال لتقديم أهم آراء وتحاليل شانتال موف من خلال قراءة نقدية لكتابها الجديد الصادر منذ أيام بعنوان «pour un populisme de gauche» عن دار النشر الباريسية Albin Michel .
وشانتال موف هي أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة ويسمنتستر Westminster في لندن . وقد كانت لها تجارب في التدريس في عديد البلدان الأوروبية وأمريكا اللاتينية . وقد بدأت في نشر بحوثها منذ بداية الثمانينات مع زوجها Ernesto Laclau الأرجنتيني الأصل والذي توفي سنة 2014. وسيبدأ نجمها في السطوع سنة 1985 عند نشر كتاب سيحظى باهتمام كبير تحت عنوان «Hégémonie et stratégie socialiste» أو «الهيمنة والطريق نحو الاشتراكية « وهذا الكتاب كان نتيجة قراءة للحركة الاجتماعية والاضطرابات الجماهيرية التي عرفتها بريطانيا في تلك الفترة في المناجم للتصدي للسياسة الليبرالية للوزيرة الأولى أو المرأة الحديدية مارغريت تاتشر. وأهمية هذا الكتاب والذي بقي إلى اليوم مرجعا أساسيا في فهم النضالات الجديدة والحركات الاجتماعية هو محاولته الخروج والقطع مع انساق التحاليل التقليدية الموروثة من الفكر الماركسي وبناء منهجية جديدة تعتمد على ما يسمى في الفضاء الجامعي . والفكري الانقلوسكسوني الدراسات الثقافية أو cultural studies والمتأثرة بأفكار ادوارد سعيد وانطونيو قرامشي وتجعل من الهيمنة الفكرية والسياسية الأداة الأساسية لفهم التطورات الاجتماعية . وقد شكل هذا الكتاب نقطة تحول هامة وقطيعة لشانتال موف مع الفكر الماركسي التقليدي والذي لا يرى العالم إلا من خلال ومن نافذة التحولات الاقتصادية . وفتحت شانتال موف في هذا الكتاب منهجية جديدة في النقد الاجتماعي تأخذ بعين الاعتبار تفاعل المسائل الاقتصادية والثقافية والفكرية والفنية والتي تعبر عن التحولات الكبرى التي عاشتها المجتمعات الغربية في العقود الأخيرة . وتنخرط هذه الهيمنة في إطار المدرسة النقدية الاجتماعية التي عرفت تطورا كبيرا في الجامعات الانقلوسكسونية في سياق أعمال Stuart Hill والتي عملت على تجاوز القراءة الماركسية التقليدية التي ترتكز على الظروف الاقتصادية لمحاولة بناء نظرة تأخذ بعين الاعتبار عديد الجوانب الأخرى لفهم الحركات الاجتماعية وبصفة خاصة الحركات النسوية وحركات الخضر.
وستبقى أعمال شانتال موف مغمورة وليقتصر الاهتمام بها على المستوى الجامعي والدراسات الأكاديمية إلا أن الحركات الاجتماعية التي ستعرفها البلدان الأوروبية اثر ثورات الربيع العربي وبصفة خاصة حركات les indignés في اسبانيا في 2012 فرصة للاطلاع والتعرف على البعد السياسي لأعمال شانتال موف وارنستو لكلوا لتصبح أيقونة الحركات الاجتماعية والثورات الجديدة والشعبوية في العالم .
وتعود شانتال موف في كتابها الجديد الصادر منذ أيام لتحديد قراءتها للأوضاع العالمية وإشكاليات التغيير الاجتماعي وآفاقه ويشكل هذا الكتاب مرجعا مهما باعتباره يلخص أفكار شانتال موف ورؤاها وتحاليلها.ويمكن الوقوف على ثلاث نقاط أساسية في هذا الكتاب وفي تفكير شانتال موف.المسألة الأولى تهم قراءتها للوضع العالمي واهم تحدياتها.ونقطة الانطلاق هي أزمة برنامج دولة الرفاه أو Etat providence الذي وضعته اغلب البلدان الرأسمالية اثر الحرب العالمية الثانية منذ منتصف السبعينات. وأمام عجز الأحزاب اليسارية اثر انتفاضات الشباب في ماي 1968 لبناء بديل ديمقراطي لنهاية هذا العقد الاجتماعي فإن الأحزاب اليمينية ستتكفل بالمهمة وتقود عملية الانتصار النيوليبرالية التي ستضرب أسس دولة الرفاه وتجعل من السوق القوة الجديدة لإدارة الاقتصاد الرأسمالي .
وقوة الحل النيوليبرالي لا تقتصر على قدرته على القيام بإصلاحات راديكالية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل كذلك في فرض هيمنة إيديولوجية جديدة لم تنج منها حتى الأحزاب اليسارية وخاصة الاشتراكية الديمقراطية والتي انتقلت في اغلبها إلى الخيار الليبرالي مثل حزب العمال البريطاني تحت قيادة طوني بلار والحزب الاشتراكي الفرنسي وعديد الأحزاب اليسارية الأخرى .وقد كان لهذا التوافق في التسعينات بين الأحزاب اليسارية واليمينية تأثيرات كبيرة حيث فتح ما يسميه العديد فترة ما بعد السياسة post-politique لتصبح إدارة الشأن العام مسالة تقنية يشرف عليها التقنوقراط الأكفاء ولم تعد مجالا لمقارعة البرامج والرؤى والتوجهات الكبرى.
وهذا التوافق سيخلق جوا من الاستياء والسخط على النخب السياسية وهروبا من العمل السياسي وانصرافا عن الشأن العام – وسيهيئ هذا الوضع ما تسميه شانتال موف اللحظة الشعبوية والتي تشكل النقطة الثانية المهمة في قراءتها للوضع السياسي العالمي وفي تحاليلها .
وتبدأ الكاتبة بإبعاد النظرة التحقيرية لمفهوم الشعبوية والتي تؤكد على الجانب اليميني والعنصري لهذه الحركات . وتشير إلى أن هذه اللحظة هي نتيجة لتراجع الطبقات الاجتماعية وانقسام المجتمعات بين فئتين أساسيتين وهما الفئات الشعبية والمهمشة من جهة والفئات الجديدة والنخب الماسكة للسلطة السياسية والقوة الاقتصادية . وفي هذه اللحظة تلتقي المطالب الاجتماعية والاقتصادية المختلفة لتشكل الحركة الاجتماعية ولتجعل من الشعب الحامل الجديد لمشروع التغيير الاجتماعي .
وتؤكد شانتال موف في قراءة للنظام الديمقراطي بعيدة كل البعد عن القراءات الماركسية التقليدية أن هذا النظام يرتكز على التوازن الصعب بين مبدأين أساسيين :
-الأول وهو المبدأ الليبرالي بمحتواه السياسي والذي يرتكز على مبادئ أساسية منها دولة القانون والمؤسسات الفصل بين السلطات والدفاع عن الحريات الفردية
-أما الثاني فهو المبدأ الديمقراطي والذي لا يقتصر على مبدإ سيادة الشعب بل يضمن كذلك المساواة في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية.
وقد تميزت الفترة النيوليبرالية بتراجع التقاليد والمبدأ الديمقراطي والذي أصبح يقتصر على جانبه الشكلي من تنظيم لانتخاب وهيمنة المبدإ الليبرالي والذي سيؤدي إلى هيمنة السياسات الاقتصادية الليبرالية وتراجع المساواة والعدالة مما أدى إلى تنامي التفاوت الاجتماعي والتهميش وتزايد انقسام المجتمع بين النخب الحاكمة والفئات الشعبية الواسعة .
هذه القراءة للوضع العالمي وتحديد طبيعة المرحلة من خلال تقديم فكرة اللحظة الشعبوية تنطلق شانتال موف في تحديد البرنامج السياسي الذي تقترحه على الحركات السياسية الجديدة. وتختلف مقترحاتها عن المقترحات والبرامج للقوى اليسارية التقليدية حيث تؤكد أن الهدف ليس تغيير المجتمع من اجل بناء الاشتراكية بل يكمن في بناء تحالف واسع بين مختلف الشرائح العشبية والنضالات المنفردة من اجل خلق هيمنة جديدة قادرة على تعميق الديمقراطية (radicaliser la démocratie) وجعل من قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية افاق التغيير الاجتماعي والسياسي للسنوات القادمة .
لقد أثارت أفكار شانتال موف الكثير من الاهتمام وكذلك الكثير من النقد والجدل خاصة من طرف العديد من الحركات اليسارية المتشبثة بتصوراتها التقليدية. ومن جملة النقد الذي تم توجيهه لها هو رجوعها إلى الفيلسوف كارل شميت والذي دعم النازية في أوروبا.كما انتقد البعض الآخر دعوة شانتال موف الحركات السياسية للتعامل مع شعور وعواطف الشعوب ولا عقولهم . كما أكد البعض على الطابع اليميني والفاشي لهذه الحركات اليمينية والذي يمكن أن يفتح المستقبل أمام مغامرات قد تضع الإنسانية من جديد أمام المخاطر والأهوال التي عرفناها مع النازية .
إلا انه وبالرغم من هذه الانتقادات فان مقترحات شانتال موف وبرنامجها الإصلاحي الراديكالي و دعوتها لتعميق الديمقراطية والعدالة كأفق للتغيير السياسي تبقى جديرة بالاهتمام والنقاش في فترة تراجع وأزمة المشاريع الكبرى .