وبحجم الرفض والثورة على الأوضاع التي حملتها، وقد تساءل الكثيرون من محللين سياسيين وباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية عن طبيعة هذه الحركة وحقيقة اختيارها وتوجهاتها السياسية والايديولوجية وقد زاد غياب المنظمات السياسية التقليدية والأحزاب من تعقيدات الوضع وصعوبات قراءته وتحليله، فاعتبرها بعض المحللين السياسيين جزءا من الحركات الشعبوية القريبة من أقصى اليمين والمعادية للديمقراطية والمنظومة الليبرالية والنخب التقليدية، ورأى البعض الآخر في حركة أصحاب السترات الصفراء لا تتجاوز التعبير عن غضب بعض الشرائح المجتمعية عن بعض القرارات الحكومية ولا ترتقي الى حركة سياسية واضحة المعالم.
ولئن بقيت حركة أصحاب السترات الصفراء عصية على الفهم والقراءاة والتحليل فإنها فتحت مرحلة سياسية جديدة في الواقع الفرنسي، فقد أكدت العديد من الدراسات منذ سنوات أن فرنسا والبلدان الديمقراطية دخلت فترة تاريخية جديدة ما بعد حداثية تنتفي فيها الصراعات والخلافات الايديولوجية، فالسياسة بمعناها الحداثي أي البرامج والرؤى الكبرى التي تسعى لتغيير المجتمعات ودفعها نحو الأفضل والتقدم انتهت في هذه الفترة لتفتح مرحلة ما بعد السياسة أو postpolitique، وهذه الفترة الجديدة الما بعد حداثية هي مرحلة أو فترة الديمقراطية الهادئة والتي رفضت ولفظت الشوق الثوري position révolutionnaire نحو مزبلة التاريخ، وجاءت تحركات أصحاب السترات الصفراء لتؤكد نهاية هذا الحلم وعودة الصراع الاجتماعي والسياسي من الباب الكبير داخل المجتمعات الديمقراطية.
لقد شكلت الزيادات الضرائبية التي أقرتها الحكومة الفرنسية على الوقود في اطار برنامج التحول الطاقي والتي كان لها انعكاس على الأسعار نقطة انطلاق لهذه الحركة الاحتجاجية، وقد اعتقد العديد من الملاحظين والمحللين أن هذه الحركة العفوية لن تكون قادرة على الصمود وستنتهي بسرعة كبيرة وفي ظل أيام معدودة، إلا أن قوة هذه الحركة وطولها وأهمية الحشد الذي عرفته جاءت لتؤكد وتعبر عن أزمة أعمق وأشمل.
ولئن بدأت هذه الاحتجاجات برفض الأتاوة على الوقود فأنها سرعان ما امتدت لقضايا ومسائل أخرى في عمق المسألة الاجتماعية والأزمة الخانقة التي تعرفها فرنسا، وستشير مطالب أصحاب السترات الصفراء في مرحلة ثانية على ضرورة التحسين والترفيع في الأجر الأدنى بنسبة هامة لتحسين الوضعية الاجتماعية للطبقات الشعبية وتمكينها من وضع حدّ لتدهور مقدرتها الشرائية.
كما ستطالب هذه التحركات بتحسين المقدرة الشرائية للمتقاعدين من خلال الترفيع في جراياتهم، وكانت هذه المسألة احدى نقاط الخلاف الكبيرة والتي ساهمت في تدني شعبية الرئيس الفرنسي ماكرون. فقد قررت الحكومة الفرنسية ايقاف ارتباط تطور هذه الجرايات الى جانب بعض المصاريف الاجتماعية الأخرى للدولة بالتضخم، ولئن سيساهم هذا القرار في تخفيض مصاريف الدولة بـ3،5 مليار أورو سنة 2019 و 7 مليار أورو سنة 2020 فإن تداعياتها السياسية ستكون وخيمة على الرئيس ماكرون وعلى حكومته وستكون نقطة هامة في القطيعة مع الطبقات الشعبية والتي سترى فيه رئيس الأغنياء والنخب وستتهمه بعدم الاهتمام بالطبقات والفئات الاجتماعية الضعيفة.
إلا أن القرار الذي سيلعب دورا كبيرا في تغذية هذا الشعور السلبي تجاه الرئيس ماكرون وسيعود بقوة خلال احتجاجات أصحاب السترات الصفراء فيخص قرار الغاء الأداء على الثروة، وقد ساهم هذا القرار في تغذية الشعور بالاجحاف والظلم وساهم في تطور الاعتماد والقناعة عند الكثيرين بأن «ماكرون هو رئيس الأغنياء»، وللتذكير فإن هذا الأداء قد أتى به الوزير الأول الأسبق ميشال روكار «Michel Rocard» سنة 1989 وقد أكد انذاك أن هذا الأداء بالرغم من محدودية مردوده هدفه دعم التضامن الاجتماعي بين كافة الفئات الاجتماعية وبصفة خاصة لدعم الفئات الاجتماعية الضعيفة. وساهم هذا الأداء، الى جانب مدخوله المالي والذي قٌدر سنة 2017 بـ 4،2 مليار أورو، في تقوية فكرة التضامن الاجتماعي بفضل قيمته المعنوية والسياسية، الا أن الرئيس ماكرون سيقرر الاستغناء عن هذا الأداء بعد انتخابه احتراما للوعد الذي قطعه على نفسه أثناء الحملة الانتخابية، وقد أكد خلال هذه الحملة على أن المؤسسات الكبرى وكبار الأثرياء قرروا الهرب من فرنسا والاقامة في مناطق وبلدان تكون الجباية فيها أقل وأكثر تسامحا، وستوافق الأغلبية الجديدة على قانون يلغي هذا الأداء في 20 أكتوبر 2017، وسيعتبر الكثيرون هذا القانون بأنه «هدية للأغنياء» وسيساهم في دعم الشعور بأن الرئيس الفرنسي هو رئيس النخب والفئات الاجتماعية الغنية.
أدخل القانون الجديد والذي ألغى الأداء على الثروة أداءا جديدا، الا أنه والى جانب مردوديته المالية المنتظرة والتي لن تتجاوز 1،2 مليار أورو في السنة الحالية فإن انعكاساته السياسية كانت هامة وأكدت الشعور العام بعدم المساواة أمام الجباية.
اعتبر الكثيرون هذا التراجع بالخطإ الأساسي الذي ساهم في هز وتراجع مشروعية الرئيس ماكرون أمام الطبقات الوسطى والشرائح الاجتماعية الشعبية والضعيفة، وسيتدعم هذا الشعور مع مر الأيام وسيقوي النظرة الى أن الحكومة الفرنسية تدافع على مصالح الأغنياء ولا تهتم بالجوانب الاجتماعية للفئات الفقيرة.
وسيتدعم هذا الشعور بالغبن وعدم المساواة الاجتماعية بشعور بالغطرسة من قبل السلطة السياسية نتيجة بعض التصريحات للرئيس ماكرون وبعض القيادات السياسية والتي ولدت فكرة القطيعة بين النخب السياسية الجديدة والمشاكل والتحديات التي تواجهها الفئات الاجتماعية الفقيرة، وبالرغم من المحاولات للتقليص من حدة بعض هذه التصريحات وتأثيراتها السياسية فإنها لم تنجح في تجاوز الحرج وأزمة الثقة بين النخب وجموع المواطنين.
سيشكل الغبن والشعور بالحيف الاجتماعي وغياب الكرامة والاحترام الوقود الذي سيؤجج حماسة الناس ودخولهم بقوة في هذه الاحتجاجات الاجتماعية التي يدور رحاها في فرنسا والتي لم تنجح السلطات السياسية في الحدّ من وتيرتها وأجيجها، ولكن المسألة الأساسية التي تريد الوقوف عندها في هذا المقال هي أن هذه الأزمة وأسبابها ليست خاصة بفرنسا بل مسألة عامة وتشكل الوجه الجديد لتداعيات العولمة في أغلب بلدان العام، وقد خرجت هذه التحركات والاحتجاجات العفوية والبعيدة عن الأطر والأحزاب التقليدية ثلاث مسائل أساسية وجعلتها في جوهر الصراع الاجتماعي.
المسألة تخص المساواة والعدالة الاجتماعية، لقد كانت العولمة وراء تراجع الفقر وعدم المساواة بين البلدان، فقد عملت البلدان النامية على ضبط سياسات نشيطة هذا المجال مكنتها من خفض الهوة مع البلدان المتقدمة، الا أن هذه الأشكال القديمة من عدم المساواة فتحت المجال بأشكال جديدة في صلب البلدان نفسها بين الفئات الاجتماعية التي نجحت في الالتحاق بالقطاعات الاقتصادية المرتبطة بالأسواق المالية والتكنولوجيات الحديثة والفئات الاجتماعية المرتبطة بالصناعات التقليدية والتي عرفت تراجعا كبيرا لدورها السياسي والاجتماعي، وستكون هذه القطيعة وراء نمو الكثير من الغبن والاجحاف من الفئات الاجتماعية المهمشة في صلب العولمة وستشكل قاعدة للتحركات الاجتماعية الجديدة والاحتجاج على هذا العالم الجديد التي بنته الأسواق المالية والشركات الكبرى.
المسألة الثانية والتي أثارتها العولمة ونلحظ وجودها في الحركة الاجتماعية تخص تعاطي النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة مع تزايد الفوارق الاجتماعية والتهميش الذي تعيشه الطبقات المتوسطة وتفقير الفئات الضعيفة المتزايد، فعوض التعاطي مع هذه المسائل بالجدية الكافية من خلال اعادة بناء العقد الاجتماعي الذي انفرطت حباته تحت دقات العولمة تعاملت مع هذه المظاهر بالكثير من الغطرسة والاستعلاء وعدم الاحترام، وكان هذا التعامل وراء الكثير من غبن والشعور بالاجحاف وظهور مبدإ الكرامة والاحترام في أغلب التحركات الاجتماعية للمهمشين في أغلب بلدان العام.
المسألة الثالثة والتي طرحتها هذه التحركات تخص تآكل ونهاية المؤسسات الوطنية في أغلب البلدان الديمقراطية وتراجع دورها لصالح عديد المؤسسات الكبرى كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو اللجنة الأوروبية والتي أصبحت تحدد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تطبقها البلدان، وقد خلقت هذه التطورات هوة شاسعة بين المؤسسات والقيادات والنخب السياسية الوطنية المنتخبة من طرف الشعوب والمؤسسات الدولية أو السلطة التكنوقراطية العابرة للحدود والقارات، وقد نتج عن هذه الهوة عجز النخب الوطنية، عن تحقيق وعودها الانتخابية وانتقاء دور السياسي أمام تنامي دور المؤسسات الدولية واملاءاتها، وفرضت هذه الوضعية مسألة السيادة الوطنية لتجعلها احدى وجوه القضايا الأساسية في الحركات الاحتجاجية.
ان الحركة الاحتجاجية لأصحاب السترات الصفراء في فرنسا ليست خصوصية بل تعبر عن نضالات عامة وشعور مشترك في ظل العولمة الليبرالية التي يعيشها العالم والتي وسعت من الفوارق الاجتماعية ووضعيات الغبن والشعور بالغبن في مقابل الاستعلاء والاستخفاف من قبل النخب الجديدة وانتفاء دور المؤسسات الوطنية، أمام هذه الأوضاع وضعت موجة الغضب العارم التي تجتاح العالم قضايا العدالة والمساواة الاجتماعية والكرامة والسيادة الوطنية كمجال جديد للنضالات السياسية والاحتجاجات الاجتماعية.
وأعتقد أن بلادنا ليست بمنأى عن عولمة الغضب التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة منذ انتفاضات وثورات الربيع، وقد تواصلت هذه الاحتجاجات ليومنا هذا أمام عجز النخب السياسية والقيادات على تحقيق مطالب واستحقاقات هذه الثورات، وتندرج كذلك التحركات الأخيرة حول قانون المالية لسنة 2019 والتحركات الاجتماعية الأخري في نفس هذا الاطار لطرح نفس الاشكاليات الكبرى التي تطرحها العولمة.
فمسألة المساواة والعدالة تطرح نفسها بكل قوة في خضم التحركات الأخيرة وبصفة خاصة مسألة المساواة أمام الجباية والصحة والمدرسة وعديد الميادين والمجالات الأخرى، كما تطرح كذلك هذه التحركات مسألة الكرامة ورفض الاستعلاء والغطرسة للنخب الجديدة والتي لا تتراجع أمام إهانة وعدم احترام الفئات الاجتماعية الضعيفة، أما مسألة السيادة الوطنية فإنها تطرح نفسها اليوم بكل حدة أمام تنامي تدخل المؤسسات العالمية في صياغة القرار الوطني حتى أن أكبر المسؤولين السياسيين لا يجد اليوم حرجا في التذرع برفض صندوق النقد الدولي لتفسير عدم تطبيقه لبعض القرارات.
إن التحركات التي تعرفها بلادنا منذ أيام كما احتجاجات أصحاب السترات الصفراء وكل التحركات الجديدة تفتح مرحلة جديدة في تاريخ الصراع الاجتماعي لتجعل من المساواة والكرامة واحترام السيادة الوطنية المجال الجديد للنضال السياسي والاجتماعي في ظل العولمة