عنوان « Notre histoire intellectuelle et politique 2018-1968» الكثير من الاهتمام. فقد خصته كبريات الصحف والمجلات مثل ليباراسيون ولوموند ولونوفال اوبسرفتور وغيرها من المجلات بتغطية قلما حظي بها مؤلف أو كتاب آخر .
ويعود هذا الاهتمام في رأيي إلى سببين مهمين – يعود الأول إلى شخصية الكاتب وتأثيره في الساحة الفكرية الفرنسية وحتى العالمية . فبيار روزنفالون هو شخصية محورية ومركزية في الساحة الفكرية والنقاش والجدل الفكري في فرنسا منذ أكثر من خمسين سنة.وقد بدأت هذه المسيرة الفكرية منذ بداية السبعينات حيث التحق عند تخرجه من معهد الدراسات العليا التجارية (IHEC) بنقابة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل (CFDT) حيث سيصبح مستشارها الاقتصادي ثم المستشار السياسي لأمينها العام آنذاك ادمون مار Edmond Maire وسيكون له دور فكري هام حيث سيساهم في بلورة البرنامج الوسطي والإصلاحي لهذه المنظمة والذي سيدور حول فكرة الإدارة الذاتية أو autogestion التي ستصبح نقطة الالتقاء لما سمي في تلك الفترة باليسار الثاني أو la seconde gauche والذي ضم إلى جانب هذه النقابة الحزب الاشتراكي الموحد أو PSU وزعيمه التاريخي ميشال روكار قبل التحاقه بالحزب الاشتراكي تحت زعامة الرئيس السابق فرنسوا ميتران – وقد صاحب روزنفالون أهم المفكرين الفرنسيين في تلك السنوات واذكر منهم فرانسوا فيري François Furet مؤرخ الثورة الفرنسية وكلود لوفور Claude Lefort وكورنوليوس كاستوريايديس C.Castoricedis ومارسال قوشي Marcel Gauchet وغيرهم من كبار المثقفين والمفكرين الفرنسيين وسيكون لبيار روزنفالون دور أساسي ومحوري في تجربتين سيكون لهما تأثير في النقاش الفكري والسياسي في فرنسا . التجربة الأولى تهم مركز سان سيمون أو la fondation saint simon والتي تم تكوينها سنة 1982 مع فرانسوا فيري والتي ضمت العديد من المثقفين والمفكرين والموظفين السامين والمسؤولين السياسيين ورجال الأعمال الهامين . وقد لعب هذا المركز دورا هاما خاصة في التسعينات واعتبره العديد المخبر الفكري الذي ولدت فيه أفكار التقارب بين اليمين واليسار وتطور الأفكار الوسطية الرافضة لكل شطط فكري أو إيديولوجي.
ويعتقد الكثير من الناشطين السياسيين أن هذا المركز كان وراء دخول الفكر النيوليبرالي للتيارات اليسارية وخاصة لتبني الحزب الاشتراكي الفرنسي لعديد الآراء والأفكار النيوليبرالية . وسيضع يسار روزنفالون حدا لهذه التجربة سنة 1977.
وسينطلق في تجربة فكرية جديدة سنة 2002 تحت عنوان « جمهورية الأفكار « أو «la république des idées» وهي عبارة عن مركز فكري هدفه تطوير أفكار ونظريات النقد الاجتماعي .وقد نجح روزنفالون في هذه التجربة الجديدة في تجميع مجموعة هامة من المفكرين الشبان الذين أصبح لهم شأن اليوم مثل الاقتصادي Thomas Piketty وإصدار مجموعة هامة من الكتب (في عديد الميادين ) كان لها تأثير هام في النقاش العام .
ويشغل حاليا ومنذ 2001 منصب أستاذ محاضر في كرسي التاريخ الحديث في الكوليج دوفرانس أو collège de France والذي يعتبر احد أهم المؤسسات الفكرية في فرنسا ومدير بحوث في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.
لعب إذن بيار روزنفالون دورا ومركزيا في الحوار الفكري لحقبة طويلة في فرنسا وفي أوروبا . ولعل أهمية دوره تكمن لا فقط في العديد الكبير من الكتب الهامة التي أصدرها بل كذلك في علاقة العمل الفكري بالعمل السياسي .
فالكاتب شكل في هذه المرحلة التاريخية مثال المثقف العضوي حسب تحديد قرامشي في ربط العمل الفكري بالممارسة السياسية .
إلى جانب الدور الفكري الذي لعبه بيار زونفالون فإن أهمية هذا الكتاب والاهتمام الذي عرفه منذ صدوره تكمن في هدفه في البحث عن مشروع سياسي جديد يعمل على الخروج من الأزمة التي يعيشها الفعل السياسي ومحاولته تحديد برنامج سياسي وفكري جديد يهدف إلى تجديد تجربة التحرر والانعتاق الاجتماعي .
ينطلق هذا المشروع من قراءة متأنية للتجربة السياسية في فرنسا خلال الخمسين سنة الأخيرة وبصفة خاصة من تجارب اليسار المتعددة في الحكم منذ وصول الرئيس ميتران للرئاسة سنة 1981. ويشير بيار روزنفالون إلى أن التجربة السياسية في فرنسا وفي العالم تميزت اثر ثورات الشباب في ماي 1968 بالتنافس بين مشروعين هامين . المشروع الأول هو مشروع اليسار الأول la première gauche والذي جسدته الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية الأوروبية والذي يجعل من الوصول إلى السلطة وتأميم المؤسسات الكبرى وإعطائها دورا سياسيا واجتماعيا هدف المشروع السياسي والوسيلة الأساسية للانعتاق والتحرر الاجتماعي .
أما المشروع الثاني فهو مشروع اليسار الثاني أو اليسار الجديد والذي جسدته القوى السياسية الجديدة والتي ولدت من رحم ثورات الشباب في ماي 1968 ويعمل على تغيير الحياة changer la vie من خلال تكثيف مساهمة المواطنين في إدارة الاقتصاد والمساهمة السياسية المكثفة والتي ستنجح في تحرير التجربة الإنسانية من كل أشكال الهيمنة .
وقد انتهت هذه المنافسة بين هذين المشروعين بانتصار الأول ووصوله إلى السلطة في فرنسا وعديد البلدان الأوروبية الأخرى وحتى بعض بلدان العالم الثالث منذ منتصف الثمانينات . إلا أن هذه التجربة لن تعمر طويلا حيث ستفشل هذه التجارب وتنتهي إلى أزمات اقتصادية عميقة ستكون وراء تحول اغلب هذه الأحزاب الاشتراكية نحو المنحى الليبرالي الذي سيهيمن على التجربة والسياسات الاقتصادية منذ منتصف التسعينات .
إلا أن هذه الهيمنة ستنتهي إلى الأزمة الخانقة لسنوات 2008 و2009 والتي وضعت النظام الرأسمالي على حافة الانهيار.
لكن هذه الأزمة فتحت في نفس مجال البحث والتفكير على مشاريع وبرامج جديدة لإعطاء تجربة الانعتاق والتحرر مجالا جديدا . ولبناء ولتحديد هذا المشروع الجديد يعود بيار روزنفالون لمشروع الحداثة وبرنامج تحرر الفرد على مر القرون والحقب التاريخية .
ويشير المؤلف إلى أن هذا المشروع عرف مرحلتين هامتين . مرحلة الحداثة الأولى والتي بدأت مع الثورات الأوروبية وتجربة الأنوار والتي أعطت للفرد حريته ومجالا لتجربة تحرره. أما المرحلة الثانية فقد انطلقت مع بناء الدولة الاجتماعية ودولة الرفاه Etat –providence والتي حاولت إعطاء الظروف الاجتماعية والاقتصادية لتحرر الفرد. إلا أن هذه الفترة عرفت كذلك هيمنة الدولة والمؤسسات الرسمية والتي حدت وأضعفت حرية الفرد.
وفي هذا المجال يشير بيار روزنفالون إلى أن التجربة السياسية الجديدة أو العصر الثالث للحداثة يجب أن يضع نصب أعينه مواصلة برنامج التحرر والانعتاق من خلال تحرير الفرد من هيمنة السلطة والمؤسسات وإعطائها مجالا جديدا لإبراز تفرده واستقلاله .
أثار هذا الكتاب وهذه المقترحات الكثير من الاهتمام في فرنسا وتناوله بالتعليق الكثير من المفكرين والناشطين السياسيين . إلا انه في رأيي تبقى المقترحات التي قدمها الكاتب على أهميتها بعيدة عن اهتمامات الناس . فقد أثبتت الثورات الأخيرة في فرنسا لحاملي السترات الصفراء أن مسألة المساواة والعدالة الاجتماعية وإعادة بناء العقد الاجتماعي الذي انفرطت حباته منذ سنوات هو التحدي الأساسي للعملية الاجتماعية ولأي مشروع تحرر وانعتاق اجتماعي .