هو الانسان ما أكفره. في سبيل الكسب، تراه يجري، يلهث. كذلك أنا أفعل. تلك هي سنّة الله في خلقه وما هذا عجب. العجب، هو أن يصبح السعي تكالبا لا ينتهي. أن يصبح الإثراء هو الماهيّة والغاية.
لست من أنصار القناعة كنز لا يفنى ولا من دعاة الصبر والتذرّع. لا أعتقد أن السماء هي المانحة وهي التي تتدبّر. كلّ خير وشرّ هو من فعل البشر وبحسب السعي يكون الكسب. على الإنسان أن يكدّ ويجتهد للرفع من أمره. عليه حمل نفسه والنظر في عيشه... هذا معلوم ولا أظنّ أنّه محلّ نقاش أو جدل. الإشكال، هو ما أصاب الناس من غلوّ في الأنانيّة. ما سكن الناس من حبّ المال والتكسّب. في هذا الزمن، أصبحت المادّة هي الغاية وهي المرجع. أصبح الإثراء محمودا، مبرورا، مهما كانت الوسائل والسبل.
في عالم اليوم، غدا الأثرياء هم أهل الحلّ والعقد. أمّا البقيّة فهي ذرّات تراب لا تحسب. بحسب ما ملكوا كان لهم الملك. بحسب ما كسبوا، علت أيديهم ومسكوا. أنا ثريّ إذا أنا موجود. أنا ثريّ إذا أنا أفكّر. فكر الأغنياء هو اليوم المسيطر. السياسة من صنعهم وهم من يحدّد الغايات ويرسم الخطط. مسكوا بالعالم. سخّروه. في أيديهم الانتاج والإعلام والنظر. كلّ فكر، كلّ معطى، كلّ نفس تمشي في الأرض إلا وكانوا عليها رقيبا...
في حين ترى الأغنياء يزدادون، كلّ يوم، ثراء وتمكّنا، ترى البشر، من حولهم، يزدادون، كلّ يوم، فقرا وعوزا. اشتدّت الفوارق بين الناس. اتسعت الهوّة بين الطبقات وبين الأمم. في العالم اليوم اختلال فطيع. الكلّ يعلم أنّ كلّ اختلال تجاوز الحدّ هو منذر. اليوم، هناك نار تسري. الوضع قريبا سينفجر. في ما أرى، لن يمكن العيش المشترك. انفكّ العقد الرابط. انتهى العالم الذي فيه عشنا. في الأفق، عالم مختلف يولد...
في السنة الماضية 2017، كتب خبراء «اكسفام» أنّ 82 بالمائة من مجموع الثروات التي أنتجت في العالم استأثر بها 1 بالمائة من الناس. حصل في العالم تطوّر. ازداد الانتاج. لكن ما كان من ثروات غنم معظمه قلّة. ازداد الأثرياء ثراء وساء حال سواهم من البشر. يضيف التقرير أنّ النساء خاصّة هنّ اللاتي ازداد وضعهنّ شدّة وسوءا. لأنّهنّ أضعف الخلق، كانت النساء هي الضحيّة الأكبر...
نفس الفوارق، نراها في تونس، بيّنة. في حين ترى البعض منّا يزداد غنى. في إفراط. في بذخ. ترى التونسيين أغلبهم تأكلهم الحاجة. في ما أرى، هم في عناء وتعب. الكثير من الناس حولي هم في عيش نكد. يكدّون. يلهثون وراء الخبز وما أظنّهم وفٍّروا.
الكثير من التونسيين هم اليوم في البطالة. لا شغل لهم. لا دخل لهم. يأكلهم إحباط وعوز. الكثير من التونسيين يشتغلون في وظائف ومهن مختلفة. لكن أجورهم ضعيفة لا تفي ولا تشبع. حسب المعهد الوطني للإحصاء، في تونس اليوم، أكثر من 64 في المائة من الشغّالين، أجورهم أقلّ من 400 دينارا في الشهر. كيف لهؤلاء العيش بمثل هذا الأجر؟ لن يتمكّنوا من العيش. سيظلّ عيشهم ماءا وخبزا وغصّة. إلى متى سيتحمّل هؤلاء الفقر؟ الى متى سيشدّهم صبر وتجلّد؟ كيف نطالب هؤلاء بالصبر، بالقناعة، بالزيادة في الجهد وغيرهم في جنّة الخلد، ينفق بلا حساب، يعبث واحيانا يمجن؟ لن يمكن إقناع الناس، عاطلين وشغّيلة. من كان عيشه ضنكا، في شقاء أزرق لن يسكت طويلا. لن يرضى. غدا سوف ينتفض. سوف يثور و«يشعل»...
ما يجري في تونس من فوارق فاحشة، نراه في الكثير من بقاع الدنيا. رغم ما حقّق من ثروات وما كان من تقدّم، مازال الكثير من الناس في العالم، في معاناة، في محنة. هل حان وقت التدارك؟ متى يحصل التعديل؟ متى إعادة النظر في ما نحيا من سبيل ومنهج؟
كلمة أخيرة. إضافة الى الفوارق، ما نرى هنا وهناك من حروب مدمّرة وما يحصل في الأرض من ظلمات ومن إرهاب هو الآخر مفسد للحياة، منذر... ما يحياه إخوتنا البشر شرقا وغربا هو شأننا. ما يحصل للنازحين وللمهاجرين في الأرض يعنينا. هم إخوتنا وكلّ أذى يصيبهم يصيبنا. ما يلقاه الفرد أو الجماعة من إرهاب في الصومال، من فقر في المكسيك، من حرب في اليمن... هو شأننا. هو عذابنا. هم بشر وكلّ البشر إخوة. من الجرم غضّ البصر. من الكفر السكوت على المظالم. يجب أن نرى، أن نقول، أن نمدّ للعون أيدينا ولنصرة المستضعفين... إن العالم هو عالمنا جميعا. كلّ ضرر يلحق بالفرد مهما كانت صفته هو ضرر للإنسانية كلّها. علينا جميعا أن نواجهه. علينا جميعا أن نصطفّ صفّا واحدا لمناهضة الفقر والظلم، لنصرة الحقّ ومن هو في الدرك...