هو، دون منازع، الأوّل في البلاد واليوم هو المرجع والأساس. هذا الرجل هو الطاهر بن الأخضر وجامعته هي «المدرسة العليا الخاصّة للهندسة والتكنولوجيا» (إسبري)...
من منّا لا يعرف «إسبري»؟ هي جامعة خاصّة تخرّج منها الكثير وفيها يدرس أكثر من خمسة آلاف طالب. هي اليوم منارة علم، مشعّة. ولأنّها منارة، كثر الحديث عنها وعمّا يحصل فيها من تكوين للمهندسين حميد. منذ زمن وبريق المدرسة يزداد ويتدعّم. يقول الكثير إنّها الافضل في الفضاء الجامعيّ. هي الجامعة المتميّزة. تبعا لما عرفته المدرسة الخاصّة هذه من تفوّق، كثر حولها الجدل. اختلف في شأنها الناس. بعضهم، الكثير منهم، يقرّ بما كان في الجامعة من جدّيّة ومن خصال. بعض قليل، يقول إنّ نجاحها أصله فشل التعليم العموميّ أو هي فقط ظاهرة عابرة. بعض الناقدين يضيف أنّ «إسبري» هي مؤسّسة خاصّة، همّها الربح، لا أكثر. لكسب السوق، حرّفّت التعليم. جعلت منه تطبيقات مكلّسة. برمجيّات تعاد. لا تمكّن الجامعة هذه المتعلّمين من قدرات حقيقيّة في النظر، في التأسيس لتفكير شامل. لا عمق نظريّ لخرّيجيّ «اسبري». هم أشباه أمّيين لما كان متداولا من علوم نظريّة ولما جاء في المصطلحات والمفاهيم من أبعاد...
* * *
شاع صيت جامعة «اسبري». كثر الكلام والقيل والقال. يجب أن أنظر في ماهيّة الجامعة هذه. أن أتبيّن حقيقتها، أسباب نجاحها. كيف هي ارتقت ومشى خبرها في البلاد، في حين أرى الجامعات العموميّة حولي، جلّها، في سوء حال، في تعثّر. تحتضر. يجب أن ألتقي بباعث «اسبري»، السيد الطاهر الأخضر...
ها أنا في مكتبه. أشرب معه قهوة. أنظر فيه، في ما كان يقول وكيف هو يسعى وكيف هو يتكلّم. في ما أرى، الرجل متواضع جدّا. بشوش. في كلامه صدق يجري وفي عينيه بساطة الأرياف. ما كان سي الطاهر مديرا عامّا، كما كنت أعتقد. ما هو بصاحب مؤسّسة كبيرة، لها شهرة واسعة، تدرّ ربحا وفيرا. سي الطاهر، في ما أرى وأعتقد، هو رجل بسيط. هو فلّاح من مكثر. هو شابّ يلعب. يجرّب. لا يأخذ الدنيا مأخذ جدّ. في قرارة نفسه، هو الآخر لا يدري كيف حصل هذا النجاح. لا يهمّه الربح ولا النجاح. أراد سي الطاهر فقط أن يبيّن لنفسه وللناس أنّ تعليما جامعيّا آخر ممكن. أن هناك مناهج في التكوين أنجع. بالتأسيس لجامعته الخاصّة، أراد أن يجرّب أنماطا من التدريس مختلفة. أن يكوّن المهندسين حسب بيداغوجيّا مغايرة،
حسب منهجيّة أخرى. كذلك هو يعطي منوالا حتّى يرى الناس وتقتنع بالمنوال السلط. لعلّ السلط، لمّا ترى ما هو يفعل، تتبيّن. تقتدي. تمشي في مثل سبيله لإنقاذ التعليم العموميّ وقد أصاب التعليم العموميّ تشتّت وضياع.
نجح صاحب الدار في التأسيس لمنوال تعليميّ تطبيقيّ، ناجع. خرّيجو «اسبري» لهم كفاءات ميدانيّة معترف بها في تونس وفي كلّ الأصقاع. هم اليوم في السوق اليد العليا. تتخاطفهم المؤسّسات. لا بطالة بين هؤلاء. في حين ترى خرّيجيّ الجامعات العموميّة في بطالة مستفحلة وقد بلغت أعدادهم مئات الآلاف...
الكلّ يعترف بما لهذه الجامعة الخاصّة من فضائل، من مميّزات وأحسن دليل ما ناله الطاهر لخضر مؤخّرا من جائزة عالميّة اعترافا له بما أتى من ابداع في نظم التعليم. جائزة «تكريم» التي نالها الرجل مؤخّرا هي اعتراف جميل وشكر ممنون لما كان استنبطه سي الطاهر من سبل بيداغوجيّة تجديديّة، ناجحة...
* * *
بعد عقود من التدريس في الجامعة العموميّة وبعد مساهمات مختلفة لإصلاح المنظومة مع الوزير محمّد الشرفي خاصّة، ها هو في سنة 2003، سنة تقاعده، يتوكّل. ينشئ جامعته بما كان من مال قليل وبمساعدة بعض من صحبه. أنشأ الجامعة الخاصّة وفي قلبه حبّ قائم وحنين دائم الى التعليم العموميّ. ما كانت غايته الاضرار بالتعليم العموميّ ولا حتّى منافسته. الهدف عنده هو وضع أسس لتعليم مغاير. الغاية عنده هي التأسيس لتعليم أبقى وأفضل.
الطاهر بن الأخضر، لمن لا يعرفه، ولد من رحم القطاع العامّ. ثم هو نقابيّ صحيح. هو جامعيّ مناضل. «أنا من اليسار المتطرّف»، كان يقول ويؤكّد. في النقابة، على خلاف ما نرى في هذا الزمن، كان الهدف، يقول الأخضر، ثنائيّا، مزدوجا: المطالبة بتحسين أجور الأساتذة والحرص على مزيد البذل والعطاء... بقي الرجل وفيّا للجامعة العموميّة. هاته التي أخذت بيده وقذفت في صدره نورا والهاما. بفضلها، هو اليوم من هو. اعترافا لها، رأيته في حرقته لما تحياه الجامعة العموميّة من سوء حال.
* * *
سألته عمّا فعل تحديدا في «إسبري» وما سرّ نجاحه. دون مواراة، بكلّ بساطة، قال سي الطاهر «ليس في الأمر سحر. فقط، سعينا الى اتّباع ما يجري في العالم. الى نسخ مناهج التدريس في كبرى الجامعات. لم نخلق شيئا وهذه العلوم اليوم منشورة في الشبكة، متوفّرة لمن أراد من الناس. فقط اتّبعنا مناهج التعليم العصريّة... أغلقنا المدارج وجعلنا العلاقة بين المدرّسين والمتعلّمين أكثر قربا. انتهت عندنا الدروس التي تلقى من فوق المنصّة. انتهى الإملاء وما فيه من كلل ومن ملل. اتبعنا «بيداغوجيا نشيطة». أصبح الدرس بناء يؤسّسه الطلبة والأستاذ. ابتعدنا عن النظريّ المحض. كلّ درس قوامه إشكال بعينه أو مشروع محدّد. غاية الدرس هي الفهم والنظر في السبل الممكّنة لحلّ الاشكال. كذلك، أصبح مهندسونا وكلّ طلبتنا في الشعب الأخرى أصحاب قدرات على مواجهة الاشكالات، قادرين على تدارسها وإيجاد ما يلزمها من مخارج مجديّة. في «إسبري»، لسنا من عشّاق النظريّات التي تسرد من فوق المنابر. تلك التي يسقطها الأستاذ من فوق ثم يعيدها الطالب بعد أن يحفظها حفظا تامّا. انتهى زمن التلقين والحفظ... فمتى ننتهي في تونس من بيداغوجيّة الاملاء والكتّاب؟
أمّا الجانب الآخر الذي أوليناه أهمّيّة كبرى فهو تعليم اللغات. الانسان كائن ناطق. بحذق اللغات تتحقّق الذات ويتيسّر الفهم. عندها يحصل التبليغ ويكون الاقناع. بدون قدرات لغويّة، لا بيع ولا شراء ولا خلق للثروات. من عجز عن الكلام والتبليغ فسعيه ريح هباء. نحن في «اسبري»، ندرّس الفرنسيّة والأنقليزيّة وقريبا الألمانيّة والصينيّة وفي هذا تكوين للنشء عظيم»...