حادث وحديث: في دار الجمعيّة التونسيّة «السبيل» للإحاطة بالأمّ والطفل

ما كنت أحسبني رقيق القلب، عطوفا. كنت دوما أعتقد أنّي محصّن. فيّ شدّة. إنّ الحياة، يا أخي، عسر متّصل

ولا بقاء في الدنيا لمن شدّه ضعف أو كان قلبه رحيما، شفوقا. في العالم، هذا الذي نحيا، الكلّ يدرك أنّ العيش غدا صعب، عصيب. فيه أنانيّة تشتدّ وفوارق بين الناس تزداد، مع الأيّام، عمقا وهوّة... البقاء للأفضل. الحياة للأقوى. هذا ما كنت كتبته وكذلك سعيت في الحياة الدنيا طيلة عمري. منذ كنت صبيّا. للبقاء حيّا، كنت عصيّا، قويّ القلب. في كدّ. مقتصد. لا يحرّكني ترف ولا يهزّني هوى... كيف لي أن أكون غير ذلك وهذه الدنيا لا أمان فيها ولا رحمة؟ كيف لي أن أكون غير ذلك وسمة الدنيا التقلّب؟ اشتدّت في الأرض المصلحيّة. لا أحد في الدنيا يهتمّ بما أنت فيه من ضيق، من وهن. كلّ في سبيله يسعى. كلّ تراه يجري. يستأثر. لا يهتمّ. لا يرى. لا يسمع. يجتهد لحماية نفسه وأهله. حتّى الأهل غير مضمونين. بعد أمّي، وقد غادرت أمّي الأرض وتركتني وحيدا، لا أرى في الدنيا معينا أو نصيرا... ذاك ما كنت أعتقد. كذلك عشت وكذلك استوفيت سبيلي وأنهيت نظري...

***
في يوم مضى، كنت وصبيحة في وسط مدينة تونس لقضاء شأن من شؤون الدنيا. منذ غادرت الجامعة وتركت التدريس، لا أذهب الى تونس إلا قليلا. أنا متقاعد. قليل الفعل. قليل الحركة. أنتظر الليل بعد النهار. أحيانا، أكتب. لقتل الوقت. في السيّارة مع زوجتي، كنت في بعض ضيق. أنا دوما في بعض ضيق. أكره الفوضى وما كان في الشوارع من خرق ومن هتك. حيث يمشي بصري، هناك انفلات وعنجهيّة. السير في تونس عذاب. العيش في تونس كدر. لماذا نحن في انفلات دائم؟ لماذا نحن همّج؟ ما المصلحة من تواصل الفوضى في البلد؟ من المنتفع ممّا نحيا من اضطراب، من عنجهيّة؟ ما من شكّ، هناك منتفعون من هذه الفوضى، من هذه الخروق الدائمة.

***
ها نحن في باردو نسرع السير. نريد العودة الى المنزل. أنا الآن قبالة المعهد الأعلى للتصرّف. في هذا المعهد قضّيت عقودا من العمر. فيه اشتغلت سنين عدّة. فيه ألتقي بنفسي، بطلبتي، بزملائي أحيانا. عادت الى قلبي الذكرى. هنا، قضّيّت سنوات حلوة ومرّة. أدرت وجهي. يجب أن أنهي ذاك الزمن. تابعت السير. لن أقف على الأطلال. يجب أن أنسى. خلق الانسان لينسى. درت الى اليمين. ها هو المطعم الجامعيّ وفيه فطرت مرّات عدّة. قلت لك يا نفس: انتهت تلك المرحلة. نظرت الى الأمام. في الزقاق، أمامي، في يافطة معلّقة، قرأت «الجمعيّة التونسيّة «السبيل» للإحاطة بالأمّ والطفل». هذه جمعيّة خيريّة أعرفها. حدّثتني ريم عنها. هنا، في ما قيل لي، يسكن أطفال رضّع وأمّهاتهم. يجب أن أنظر في الدار. يجب أن أرى ما فيها من صغار. منذ أسابيع، كنت وعدت ريم أن أمدّ الجمعيّة ببعض المال. هي فرصة لأعطي وزوجتي عونا. لأرى بعيني ما في الدار من رضّع.

دخلنا الدار وكانت محكمة الغلق. هي بيت كبير. فيه مدارج من رخام أبيض. ها نحن في مكتب قبالة ثلاث بنات محجّبات. بنيّات في مقتبل العمر. قلت لواحدة منهنّ: «جئنا يا سيّدتي لنعطي هبة... وإن أمكن للنظر في الدار وملاقاة بعض الرضّع». بعد الامضاء في الدفتر والوصولات، تحوّلنا الى الطابق الأعلى. دخلنا الغرفة وفيها وجدنا ثلاثة أو أربعة رضّع. بعضهم نائم وبعضهم تحت رعاية المرضّعة. هذا «محمّد هارون» رضيع عمره سنة. أو أقلّ. هو صغير بهيّ. له عينان تشتعلان نورا قدسيا. اقتربنا منه. هو ينظر إلينا. لماذا هو ينظر إلينا؟ اقتربت منه أكثر. أنظر في عينيه وفي وجهه الجميل. ابتسم محمّد إليّ. فرحت أيّما فرح بما فعله الصبيّ. لماذا هو يبتسم إليّ؟ أنا لم أره من قبل. ماذا يريد الصبيّ؟ مسكته من يده الصغيرة. زاد محمّد هارون في الضحك. هو يعرفني. أنا أعرفه. نسيت أين التقينا. ها أنا أردّ على ابتسامته الحلوة بابتسامة أحلى. أشدّ على يديه. يشدّ على يديّ. أقبّل جبينه المعطّر فيزداد الملاك ضحكا وفرحة. هو رضيع من الجنّة. هو صبيّ يقطر حياة وحبّا. أخذته صبيحة بين يديها. ها هي تحمله تدفعه بحنان يمنة ويسرة. صبيحة زوجتي تبكي. ما لك تبكين يا عزيزتي ونحن الآن

في الجنّة؟ ألا ترين الملائكة من حولنا وهذه أنهار تجري وأطيار ترفرف؟ شدّ قلبي انشراح لم أر مثله منذ زمان ولّى. تذكّرت أيّاما كان محمّد وخديجة رضيعين. ها أنا طيف خفيف، تحملني الذكرى. أنا حسّ رقراق. أنا خيط ممدود يرقص. أعود الى دار «السبيل». أترك الصبيّ في أحضان صبيحة. أنصرف. أنظر في الرضيع الآخر، هناك، في الغرفة الأخرى. ما أسمه يا سيّدتي؟ اسمه «أيسر». أيسر، اسم غريب مثل اسمي. نظرت في الصبيّ القاعد أمامي. لم أكلّمه بعد لمّا انطلق أيسر يبتسم. هو في السنة الأولى أو الثانيّة من العمر. هو بهيّ. له شعر كثيف أسود. أنظر في ما كان في الغرفة من رضّع. أيسر يدعوني أن آخذه بين يديّ. دعني يا أيسر لحظة لأرى من كان في الأسرّة نائما. اقتربت منه قليلا. ازداد أيسر حركة وضحكا. يهتزّ. يريد أن ينهض أيسر. أن يشدّني من يديّ. أن أحمله في يدي. بقيت في تردّد. لا أدري الى أيّ من الرضّع أمشي. أيسر دوما يضحك. يشير إليّ. يقفز في سريره. دوما يبتسم. صبيحة دوما تبكي. يجب أن أخرج. يجب أن أنهي الزيارة وهذا دم في قلبيّ يتدفّق. خرجنا وفي قلوبنا انقباض ورقّة. تركنا الرضّع وكلّهم ضحك وفرحة. ما أحلى العيش بين الرضّع.

***

خرجت من دار «السبيل» وفي قلبيّ اطمئنان وراحة بال كبرى. في فمي ابتسامة الرضّع. فرح بما كنت عشت من لذّة ومتعة. أنا عبد آخر. أنا صبيّ على الفطرة. أضحك للدنيا. سعيد. انقلبت عنديّ المفاهيم. تغيّرت في عينيّ الدنيا. ما كانت الحياة عصبا، عصيبا. ما كانت الحياة صراعا مريرا. ما كان البقاء في الدنيا للأقوى أو لمن استأثر وكسب ذهبا وفّضّة. ما كانت الحياة كما اعتقدت غدرا وشرّا... الحياة يا اخوتي حلوة، بهيّة. هي ابتسامة وسرور ونعمة. هي عطف وسكون ورحمة. في أعين الرضّع، لمن شاء من الخلق، لمن في صدره فؤاد يحيا وفي عقله بصر وحكمة، الحياة هي ابتسامة وفطرة. هي وداعة. هي براءة كالصبية، كالرضّع... ما كانت الحياة تهافتا ولا غنما ولا حتّى تنافسا منهكا. الحياة يسر. هي تعاضد. هي أخوّة. هي تسامح. هي الرضا بما كان وبما سوف يكون من أمر ومن حدث. هي الدنيا..

كلّما شدّكم ضيق أو قلق، كلّما أردتم معانقة الحياة والشمس في الأفق تشرق، فاذهبوا واحملوا بين أيديكم رضيعا أو صبيّا، ذكرا أو أنثى. ابتسموا للناس مهما اختلفوا، للأثرياء ولمن حطّه الزمن، للنساء وللرجال، للشيب وللصبية ولسوف ينتهي ما كان في القلب من عبء ولسوف يحملكم ضحك من الدنيا ومع الدنيا. زوروا يا إخوتي دار الجمعيّة التونسيّة «السبيل» وانظروا في وجوه الصغار وما في أعين الصغار من اشراق ونور واسمعوا ما في أفواههم من حبّ ورقّة. فالحبّ كان دوما بلسما يشفي. فالحبّ هو نعيم من القدس يسري...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115