وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية وسيرورة التاريخ
من الأمثال التي نرددها كثيرا خاصة زمن الأزمات ذلك المثل الذي نسوقه بصيغة مجتزأة وربما خاطئة «على نفسها جنت براقش» والصحيح أن نقول «على أهلها جنت براقش».
و«براقش» هذه كلبة عند قوم من العرب، درّبوها على أن تنبح فتنبئهم بمقدم العدو حينما يأتي على حين غرة ، بما للكلاب من حاسة شم قوية . وتقول القصة إنه في أحد الأيام حضر إلى منازل قوم براقش أعداء ، فأخذت الكلبة تنبح لتنذر قومها الذين سارعوا بالخروج من حيهم والاختباء في إحدى المغارات القريبة، إذ كان تعداد العدو أكثر من تعداد أهل القرية . بحث الأعداء عن سكان البلدة دون جدوى فقرروا العودة من حيث أتوا، فاستبشر المختبئون وخرجوا إلى ديارهم بعد أن تأكدوا أن العدو لن يتمكن منهم.
وعندما رأت الكلبة (براقش) أن الأعداء بدؤوا بالخروج شرعت في النباح، ربما إعلانا بذلك لأهل الديار لكي يعودوا، فحاول صاحبها أن يسكتها ولكن دون جدوى، وعندما سمع جيش العدو صوت نباحها علموا أن أهل الديار قد عادوا، فأعادوا الكرّة وجاؤوا ليجدوا القوم جميعا فاستباحوهم وقتلوا براقش نفسها، فتحولت قصتها إلى مثل، وفي ذلك قال شاعر:
لم تكن عن جناية لحقتني..لا يساري ولا يميني رمتني
بل جناها أخ عليَّ كريم.. وعلى أهلها براقش تجني
هذا المثل بات يضرب اليوم على من يجرّ الضرر لأهله وقومه رغم أنه انتدب لمنفعتهم ، فالذي يُنتظر منه أن يجلب الخير لأهله وجماعته يجلب لهم الشر من حيث لا يدري، سواء بوعي منه أو بسوء تصرف فهذا هو من في مقام براقش، التي كانت وظيفتها تنبيه قومها ساعة الخطر، لا أن ترد الأعداء وتقلبهم على قريتها.
استحضرت قصّة هذا المثل من تراثنا العربي الثريّ وأنا أتابع كغيري من التونسيين حالة انسداد الأفق في واقعنا التونسي المريض بطبيعته على كل الأصعدة والمستويات وخاصة على المستوى السياسي الذي هو مفتاح كل الأزمات والمصائب ، والباب الذي تدخل منه كل الأمراض والعلل بل وكل الشياطين والأباليس.
وحتى لا نعود لاجترار ما كان يترصّد بلادنا من أهوال ومخاطر نحيا اليوم على ارتداداتها ، خلال السنوات الثلاث التي أعقبت سقوط النظام السابق ، زمن ما يعرف بالترويكا ، شكّلت لحظة تأسيس حزب نداء تونس بارقة أمل لطيف كبير من التونسيين للقطع مع عقلية الحزب الواحد وهيمنة جماعة لا ماضيَ ولا تاريخ لها في العمل السياسي سوى العمل مع الأعداء على تخريب الأوطان وهدم ما بناه الآباء والأجداد والاسترزاق من خزائن الدوائر الاستخباراتية وأكبر الدول رجعية وظلامية ، وذلك عبر اللّعب على التدين الفطري الكائن في نفوس كل التونسيين وخاصة منهم ذوي التكوين المعرفي والعلمي المحدود بل والمنعدم أحيانا ، واستخدامه مادّة للفعل السياسي والوصول إلى الحكم
كانت لحظة فارقة ها نحن اليوم نتجرّع قسوة ومرارة فشلها ، وتحيلنا على هواجس مستقبل ربّما أكثر ظلمة وحلكة من زمن الترويكا المشؤوم ، والسبب أن براقش النداء أو براقيشه خانوا الأمانة ، وتركوا الميدان لتجّار الدين والدنيا يعبثون فيه كما يشاؤون تارة تحت شعار التوافق وطورا تحت شعار استمرارية الدولة والمصلحة الوطنية ، ليستفيق الجميع على ألوان تلك اللّوحة القبيحة التي يشكّلها ثنائي الجهل والفساد وارث أبيه ، و”وارث” أموال القذافي بالحوز ووضع اليد ..
لقد كانت خيانة القوم عند العرب، والوقوف مع عدوهم ضدهم كبيرة لا تدانيها كبيرة، فلا يقبل بذلك أحد مهما كان ذا حاجة، ومهما بلغ حجم العدو من مال وسلطان نظير استخدامه ضد عشيرته . وقد يقبل المرء فقدان حياته وماله على أن يحمل على خيانة قبيلته، حتى ولو أصابه منها مكروه بالغا ما بلغ. فتلك كانت شيم العرب حتى وهم بادون في الأعراب، تتنازعهم قسوة الطبيعة وتصاريف الدهر...
منبــر: هذا ما جنته «براقش» النداء على البلاد والعباد ..
- بقلم المغرب
- 13:32 13/11/2018
- 1055 عدد المشاهدات
بقلم : رشيد الكرّاي
الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها