في سوق سمتها التقلّب، علينا أن نفتح واسعا مجال الممكن. أن نجرّب كلّ النظم. في ما مضى، سعت الحكومات الى الركون الى نمط واحد من الشغل: الشغل المستقرّ. ذاك الذي فيه استمراريّة في الزمن وحماية. معظم عقود الشغل عندنا هي غير محدّدة المدّة...
في القطاع العامّ، لا سبيل الى فصل العاملين الا في حالات قصوى. في القطاع العموميّ، الكلّ، في شغله قارّ، مرسّم. الكلّ، أجوره في ازدياد، ثابتة. لا أحد يقدر على زحزحة العاملين، على تسريحهم... يتغيّر السوق. ينقلب رأسا على عقب. تتطوّر الأدوات والمهن. يتراجع النشاط. يتجاوز المنشآت الزمن. هي مفلسة. قد يحصل في الأرض زلزال مدمّر...لا يهم. أنت مرسّم. لا خوف عليك ولا حزن. دوما، لك أجر وترقيّات ومنح. أنت في أمن ومأمن. أنت في الجنّة... بعث القطاع العامّ ليعمّر، ليبقى وان ساء حاله وان انتهت صلاحيّاته. القطاع العامّ حجر. هو أهرامات فرعونيّة. لا يمسّها ريح ولا زمن. القطاع العامّ، يقول أهل اتّحاد الشغل، هو «خطّ أحمر»، لا أحد يمسّه ومن مسّه يحرق.
* * *
أتذكّر يوم انتدبت في السكك الحديديّة، في ذات صيف، في أواخر سنوات السبعين. في يوم، جاءني موظف قديم وقال لي، في زاويّة، همسا: «أنت جديد في الشركة. أنت متربّص، فانتبه لما أنت تفعل. لمّا تترسّم وتأتيك الورقة، عندها البس ما أردت وأت متأخّرا وامرح كما شئت... فلا أحد يقدر عليك. في انتظار الترسيم، خذ حذرك واحلق وجهك وامش سويّا. أنت ابن جهتي وأريد نصحك». كنت أعرف نصيحة ابن جهتي. الكلّ يعلم ما كان من تراتيب جاريّة ومدرك أنّ الترسيم في الشغل هو حصن حصين، هو مناعة كبرى...
بعد سنة من الانضباط، ترسّمت في السكك الحديديّة وجاءتني الورقة. يومها، أصبحت عبدا آخر. أصبحت حرّا. لا أخاف الطرد وأعمل حسب الهوى والظرف... في الجامعة، أعرف من الأساتذة من لم يتغيّر درسه منذ 40 سنة. منذ انتدبوا، يعيد هؤلاء، وأنا أيضا، نفس القول. في الاعلاميّة، رأيت من هو يدرّس في برمجيّات باليّة، لا تصلح وله ترقيّات وأجر. لولا الترسيم في الشغل وما كان من قوانين شغليّة، مغلقة، لأمكن طرد الأستاذ هذا وانتدب آخر له معرفة بما جدّ من برمجيّات مستحدثة. كذلك، نعوّض شغلا بشغل. نهدم القديم «الميّت» ونبعث الجديد «الحيّ». ما ذكرته في أستاذ الاعلاميّة تلقاه في كلّ المهن الأخرى.
في تونس، في القطاع العام، بقي العاملون، جلّهم، على حالهم. دينصورات تمشي. أنظر في الأطبّاء. العديد منهم أكله الدهر. يعالجون الناس بما لا ينفع. بما هو مضرّ. هؤلاء معلمون وأساتذة يدرّسون الجهل والبؤس. هؤلاء رجال أمن لم يدركوا أنّ السبل تغيّرت وأنّ تأسيس الأمن أدواته أخرى. هؤلاء اداريون، وكم هم كثر، يحبرون الأوراق ويكدّسون الدفاتر تكديسا ولهم في الاعلاميّة سبل موثّوقة وميسّرة. أنظر في ديوان البريد التونسيّ واسأل عمّا هو يفعل. بفضل الشبكة، انتهى البريد. لكن الديوان بقي قائما، مستقرّا. الكلّ له أجر ومنح، لكن لمّا تمعن النظر في وظائفهم لا ترى شغلا ولا طحنا.
ما ذكرته في البريد التونسيّ، تلقاه في كلّ المنشآت العموميّة تقريبا. ماذا تصلح شركة «السنيت» وهذه سوق البناء تشكو فائضا مفزعا؟ هل ماتزال السنيت ترعى ممتلكات الأجانب وقد هجّ الأجانب البلاد منذ أكثر من عقود ستّة؟ نفس القول أقوله للوكالة العقّاريّة للسكنى ووكالة التهذيب العمراني واتّصالات تونس وشركة اللحوم وديوان التجارة وديوان المواشي وغيرها كثير...
* * *
لا وجود لخطوط حمراء في السوق. هذا كلام فيها مصلحيّة بيّنة. المنشأة الاقتصاديّة هي تنظيم وكلّ تنظيم هو كائن حيّ. كالإنسان، يولد وقد يكبر ثمّ يموت. كذلك القطاع العامّ. بقاء المنشأة ظرفيّ. الشغل ظرفيّ. وفق ما يجري في السوق من تمشّ، من تقلّب، يجب هدم الشغل الذي ساء حاله وثقلت موازينه. وفق تزايد الطلب، يتأسّس الشغل وينمو... لا مناص من فسخ كلّ مواطن الشغل «الميّتة»، كلّ المنشآت «الميّتة». تلك التي لا تصلح، في خسران، بلا اضافة، بلا طلب وتعويضها بأخرى. كم من مال ضخّ في القطاع العام ولم ينهض القطاع العام؟ كم من تضحيّات أتينا لإنقاذه وهو أبدا في الرداءة، في الفساد يرزح؟ الى متى سيتواصل الهتك تحت غطاء «ممتلكات الشعب» والشعب، في النهاية، هو الخاسر والمنفق؟ أنظر في تونس الجوّيّة مثلا وكم ضخّ فيها من مال ودعم ثمّ انظر في ما يدفعه المسافرون التونسيون من أسعار وقارن سوف ترى كم نحن نشقى.... نفذ المال. لا رجاء ولا صلاح في من أفسده الدهر، فمتى ندعو الى بيعها، الى غلقها فنرتاح وننشئ أخرى. كذلك هو الحال لشركة النقل البحري وما جرى في عرض البحر مؤخّرا دليل آخر على ما يحياه القطاع العامّ من استهتار، من مجون، من عبث...
لو كانت لنا بصيرة، لنظرنا بجدّ في هذه المؤسّسات المفلسة. هذه التي اليوم تتمعّش. لو كانت لنا جرأة، لأعدنا النظر في الادارة، في الدواوين، في الوزارات، في السفارات ونسأل النفس هل هذه حقّا تنفع البلاد؟ هل هي تصلح؟ لو نحيّنا هذه الشركات المتعوسة وهذه الوزارات البائسة وهذه السفارات التي تنفق ولا تسمن... لأمكن الحفاظ على المال العامّ ولتمّ خلق مؤسّسات أخرى أنفع وأجدى. لو كان بالإمكان تنحيّة من ساء انتاجه من المدرّسين والأمنيين والبريديين ورجال القضاء والمهندسين... لارتقى الانتاج وتحسّن ولأمكن انتداب الأفضل.
* * *
يجب أن ننتهي من الترسيم في الشغل وأن يصبح الشغل عقدا ظرفيّا، محدّدا بزمن. يجب احياء نظام المناولة وقد وقع فسخه أيّام الثورة وهذا خطأ فادح أتاه سياسيون طائشون، ضعاف. في أنقلترا، عقود الشغل تكون لأسبوع، ليوم، لساعة. في بلاد العالم جميعا، ينتهي الشغل كلّما اقتضى الحال، كلّما السوق استوفى.
يجب أن نيسّر الطرد حتّى نيسّر الانتداب. بقدر التضييق على الطرد يكون التضييق على الانتداب. هذه علاقة جدليّة. كلّما اشتدّ العسر في التسريح وارتفعت العراقيل في وجه المنشأة الا وتعثّر الانتداب وازدادت البطالة...
انّ ما نأتيه اليوم في تونس من حماية للشغل هو في النهاية تعطيل للتشغيل... قد يقول البعض انّ الشغّالين في حاجة الى قوانين تحميهم من كلّ تجاوز وتسلّط. لكن، من تبعات هذه الحماية المفرطة للشغّالين ساء الانتاج وأصبح العامل أو الموظّف في حلّ من الشغل. لا يخشى ولا هو يجهد النفس للرفع من قدراته، للدفع، لإنتاج أفضل. لمزيد الحرص والبذل، بعض الخوف في الشغل ضروريّ. كالقصاص، لنا في الخشية دفع ويقظة. دون ذاك السيف فوق الرقبة، لا أحد ينضبط، يسعى. لا أحد يشقى. العمل، يا قارئي، هو في أصله شقاء وجهد ولا أحد فيه يرغب. أمّا الضمير، كما قد يقول البعض، فهذا يحضر ويغيب ولا يعمّر بعد الترسيم زمنا.
(انتهى)