الكثير من التونسيين هم اليوم في البطالة. يحيا البطّالون نارا سعيرا... هذا يعلمه الكلّ ولا فائدة ترجى من قوله وتأكيده. لا ينفع البكاء فهاتوا الحلول يا أولي الألباب...
كيف مواجهة البطالة؟ هذا هو السؤال المهمّ. هو سؤال عسير، عصيب. ليس من اليسير الحدّ من البطالة وقد انتشرت في كلّ الدنيا. أصبحت عبئا ثقيلا. كلّ الدول تسعى للتخفيف من وطأة البطالة. كلّها تجتهد. أحيانا تنجح. انتهى ذاك الزمن لمّا كان الشغل وفيرا، منتشرا. انتهت «السنوات الثلاثون» وما صاحبها من يسر ومن نعمة. في السوق اليوم، تقلّب. في الاقتصاد اليوم، تغيّر. ولّى زمن التخطيط ورسم السياسات والمناهج. زمن اليوم مهتزّ. كلّ توجّه، كلّ سياسة، كلّ برنامج يولد محدود الصلاحيّة. مع كلّ فجر، تطلع على الناس معالم أخرى، نحو مختلف، رسوم بدعة. انتهى الزمن الذي تعوّدنا. انتهى الليل والنهار. الزمن أزمان...
* * *
سألت أمّ يوما عالم النفس فرويد عن رأيه في المنهج الأمثل لتربيّة صغيرها حتّى يكبر بلا عقد فأجابها الرجل محتارا: «مهما أتيت يا سيّدتي فأنت على خطإ». نموّ الطفل مرحلة معقّدة ولن يمكنه تجنّب كلّ الأخطاء المحدّقة ولا القول بصفة مؤكّدة أن ذاك هو السبيل الأمثل... كذلك هو الشأن في البطالة. البطالة ظاهرة معقّدة. فيها تداخلات وتشابك متعدّدة. لا وجود لسبيل واحد أو لطريق مثلى. كلّ السياسات والمناهج المبدعة فيها خلل ونواقص. كلّ المخطّطات والبرامج هي محاولات...
زمن حكم فرنسوا ميتران وأمام تفاقم البطالة في فرنسا، سئل ميتران عمّا ينوي فعله لمواجهة البطالة فقال وفي قلبه بعض غيظ: «لمواجهة البطالة، جرّبنا جميع الحلول الممكنة» ولم نفلح في المسعى... إلى اليوم، تشكو فرنسا وبلدان الشرق والغرب البطالة.
لمواجهة البطالة، جرّبت تونس عديد المناهج واتبعت سياسات مختلفة. مع الراحل بورقيبة وخلال حكم بن علي وفي ظلّ حكومات الثورة السبع، لم نتمكّن من القضاء على البطالة. لم نقدر على توفير الشغل لكلّ طالبيه... نعم، يقول الدستور ان الشغل حقّ. لكن كيف توفير الحقّ هذا وكلّ بلدان الدنيا، متقدّمة ومتخلّفة، تشكو البطالة؟ كيف ضخّ المزيد من مواطن الشغل والادارات والوزارات والمنشآت العموميّة أغرقت بشرا وهي اليوم في الخسارات ترزح؟ كيف المزيد من فرص الشغل والاستثمار معطّل وهذا أمن مختلّ وهذه حكومات تتعاقب، هشّة؟ ما جاء في الدستور هو نوايا. هو انشاء. لا أكثر ولا أقلّ. لا أحد يعتقد أن الحكومة هذه ولا القادمة قادرة على توفير الشغل بما يكفي.
* * *
في ما أرى، للزيادة في الشغل، يجب دعم قدرات المؤسّسات الاقتصاديّة. يجب أن تنهض هذه وأن تقدر على المنافسة وتغزو السوق. يجب أن نضع نصب أعيننا السوق فالسوق هو المعدّل والمرجع. أمّا الدعم فهذه لن تنفع المؤسّسات ولن تفرز ثروة ولن تعطي شغلا. من السوق وحده، تستمدّ المنشآت ثرواتها ومنه تؤسّس لخلق مزيد من العمل النافع... كلّ القطاع العامّ هو اليوم في عجز. تحت أقدام أفواج العاملين يغرق. لن يقدر القطاع على خلق الثروة ولا على المزيد من فرص الشغل. بقاؤه في السوق غير مضمون. عمّاله مهدّدون بالتصفيّة.
لينهض القطاع العامّ، يجب تسريح العاملين الزائدين. طرد كلّ من لا إضافة له أو من الممكن تعويضه بآلة. يجب فسخ الشغل «الميّت». ذاك الذي تجاوزه العصر. دون ذاك الهدم، لن يمكن البناء. لا يمكن عقلنة الانتاج وتصنيعه ولا مراجعة التنظيم وتقويمه. انتهى الانتاج اليدويّ. الانتاج اليوم هو تنظيم وذكاء واعلاميّة...
لن تتمكّن تونس الجوّيّة مثلا من النهوض بعدما حصل فيها من انتدابات خور. لن تقدر على المنافسة، على البقاء في السوق. لو فتحت السماء لاندثرت. لو توقّف الدعم ورفعت الحماية، لماتت واستخلفت. نفس التوجّه نلقاه في الديوانة حيث كثر العاملون وارتقى الكلّ الى أعلى المناصب وأصبحت النجوم على الكتفين أكثر من نجوم السماء. جينرالات بلا جدوى. جيوش حاشدة من العاملين تنفخ في الريح. بلا نفع.
(يتبع)