بعض التصريحات لرئيس الحكومة حول محتوى هذا القانون وبعض التوجهات الكبرى التي يحملها – ثم بعض الإعلانات لوزير المالية وأحد مستشاري رئيس الحكومة – ثم ظهرت بعض الوثائق التي تفتقد لنظرة الحكومة حول الوضع الاقتصادي للبلاد والأهداف الكبرى التي تسعى الحكومة لتحقيقها والوصول إليها من خلال قانون المالية الجديد.ثم وثيقة جملة الإجراءات الجبائية التي ستعمل الحكومة على تطبيقها من خلال مشروع قانون المالية . وفي النهاية بعض المعطيات حول التوازنات المالية الكبرى لهذا القانون .
إن الملاحظة الأولى التي يجب أن نسوقها عن هذا القانون تخص التعاطي الرسمي والمنهجية التي تم إتباعها في إعطاء المعلومات وتوفير التحاليل والتي تجعل عملية التعامل مع هذا القانون صعبة ومعقدة لا فقط من جانب الخبراء والمحللين الاقتصاديين بل كذلك من جانب الفاعلين الاقتصاديين الذين يبحثون من خلال قانون المالية عن الاختيارات الكبرى والتوجهات الاقتصادية الكبرى للحكومة .
فقانون المالية يشكل حجر الأساس للاختيارات الاقتصادية الكبرى للحكومات خاصة في فترات الأزمات كالتي تمر بها بلادنا في الظروف الحالية – ولابد من التأكيد على أن قوانين المالية ليست عملية تقنية أو توازنات محاسبية بل هي في الأساس عملية سياسية تعبر عن الاختيارات الإستراتيجية الكبرى للحكومات والتي تتطلب حوارا مواطنيا وديمقراطيا واسعا وعريضا – وهنا تكمن مسؤولية الحكومة في توفير الظروف الملائمة لتنظيم هذا الحوار الواسع والديمقراطي من خلال توفير المعطيات الضرورية والوثائق الأساسية التي تفسر وتقدم التوجهات الاقتصادية الكبرى كي نسهل عملية الفهم والتقاء الفاعلين الاقتصاديين والمواطنين بصفة عامة حول اختيارات الحكومة في المجتمعات الديمقراطية .
وبالرغم من هذه الصعوبات المنهجية سنحاول في هذا المقال الوقوف على أربع مسائل أساسية في مشروع قانون المالية لسنة 2019 الذي قدمته الحكومة منذ أيام والذي سيبدأ مجلس نواب الشعب في مناقشته في الأيام القادمة – المسألة الأولى تهم الاختيارات والتوجهات الكبرى لهذا المشروع – المسألة الثانية تخص توازناته المالية الكبرى- المسألة الثالثة مرتبطة بموقع قانون المالية في الاختيارات الاقتصادية الكبرى والتوازنات المالية – المسالة الرابعة والأخيرة تعود إلى طرح السؤال حول قدرة هذا القانون ومساهمته في إعادة بناء العقد الاجتماعي الذي انفرط وتلاشى –والسؤال الذي سنسعى للإجابة عنه من خلال هذه النقاط وهذه القراءة هو التالي : هل أن هذا القانون هو الشجرة التي تخفي الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها بلادنا منذ سنوات أم انه سيفتح الباب للخروج من هذه الغابة وللبدء في انطلاقة اقتصادية وفتح صفحة جديدة في تاريخنا الاقتصادي ؟
المسألة الأولى تهم أولويات قانون المالية وهو يضم 6 تحتوي كل منها على عديد الإجراءات بين اثنين وأحد عشر وهي : دعم المبادرة الخاصة ، الجانب الاجتماعي ، التحول الرقمي والتقليص من استعمال النقود والتقليص من التهرب الجبائي – وهنا نريد التأكيد على ملاحظة منهجية وهي صعوبة فهم التطور والخط العام الذي يقود قانون المالية والسياسة الاقتصادية للحكومة في ظل هذا الكم الهائل من الاختيارات والإجراءات .سنحاول في هذا المقال قراءة أهم الاختيارات والإجراءات – فيما يخص دفع الاستثمار والنمو فإن أهم قرار هو التقليص من الجباية على المؤسسات الخاصة من %25 إلى %13.5 بداية من 2021 . وهذا القرار هو ايجابي وهام بالرغم من وجود بعض القطاعات كمراكز المكالمات الهاتفية – وهذا القرار سيساهم في دعم ودفع الاستثمار بالرغم أن الجباية ليست المحدد الوحيد للاستثمار .
وفيما يخص التنمية الجهوية فإن أهم قرار هو إحداث بنك الجهات الذي دافع عنه الفقيد وزير المالية السابق السيد سليم شاكر . وقد وضع قانون المالية تعهدات بـ400 مليون دينار لرأسمال هذا البنك . إن الوصول إلى التمويل في المناطق الداخلية يعتبر مسألة أساسية وهامة لدفع التنمية والاستثمار في هذه الجهات ، إلا أن خلق بنك جديد يطرح العديد من التساؤلات خاصة ونحن نسعى إلى توطيد القاعدة المالية لبنوكنا لتساهم بطريقة أكثر فاعلية في تمويل المشاريع الكبرى . ألم يكن من الأفضل في هذا الإطار توطيد بعض المؤسسات المالية الصغرى كبنك المؤسسات الصغرى وبنك التضامن لتشكل نواة بنك الجهات ؟ هذا الاختيار كان سيجنبنا صرف 400 مليون ينار من أموال المجموعة العمومية لخلق بنك جديد وبدء مخاطرة جديدة في القطاع البنكي ويعطينا الفرصة لدعم وتوطيد عديد المؤسسات المالية الصغرى وإعطائها أكثر نجاعة في عملها .
أما في مجال دفع التشغيل فإن قانون المالية الجديد سيواصل في السياسات التي تم وضعها في السابق لدعم القدرة التشغيلية لبلادنا . وهنا نطرح السؤال ألم يكن من الضروري بمناسبة هذا المشروع إعادة النظر في هذه السياسات والتي لم تساهم في دفع التشغيل في بلادنا لتبقى البطالة في مستويات مرتفعة جدا ؟
أما فيما يخص التحول الرقمي فقد اقترح قانون المالية الجديد بعض الإجراءات لدعم الإدارة الالكترونية – وهنا نشير إلى أن عديد الإجراءات المقترحة بدأ تطبيقها كالتسجيل عن بعد – لكن السؤال الأهم يبقى تأخر برنامج التحول الرقمي والتباطؤ الكبير في انجاز مشروع Smart Tunisia والذي يهدف إلى تحقيق هذا التحول . وكنا نتمنى أن يشمل قانون المالية إجراءات هامة من أجل دفع التحول الرقمي في بلادنا .
وفي مجال محاربة التهرب الجبائي فقد شمل مشروع قانون المالية بعض الإجراءات المحدودة – وكنا نتمنى كذلك أن يأخذ هذا القانون إجراءات أكثرة جرأة وأكثر قوة من أجل محاربة هذه الآفة التي تنخر اقتصادنا الوطني .
فقد أخذت مختلف الحكومات قرارات هامة منذ 2011 وهي تنتظر بدايات التطبيق كالتقليص في التعامل النقدي ومحاربة النظام التقديري وحتى تغيير الأوراق النقدية .
ومن ناحية الأولويات لابد من الإشارة إلى الصمت الذي شمل التغير الطاقي بالرغم من التأكيد على أهمية هذه المسألة في مخطط التنمية والخطوات العملية التي بدأنا في خوضها في هذا المجال .
في نهاية الأمر فإن الاختيارات الكبرى والإجراءات التي تم ضبطها في قانون المالية وبالرغم من أهمية بعضها تبقى تقليدية ومحدودة وينقصها الترابط والتناسق لترتقي إلى تصور شامل ومتكامل للسياسة الاقتصادية ورؤيا لكيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادنا منذ سنوات .
المسألة الثانية التي نريد التوقف عندها في هذا المقال تهم التوازنات المالية الكبرى لقانون المالية المقترح . وقد بني هذا القانون على الفرضيات التالية : نسبة نمو بـ %3.1 بالنسبة لسنة 2019 وثمن البرميل النفط بـ72 دولارا وسعر صرف الدولار مع الدينار وإن بقي سريا في حدود 2.8 – وهنا قبل الخوص في هذه الفرضيات نريد التأكيد على أهميتها وخاصة على واقعيتها لتفادي قوانين مالية تكميلية والتي تكون استثنائية في كل بلدان العالم لكنها أصبحت من العادات السيئة التي اكتسبناها بعد الثورة .
وبالعودة إلى الفرضيات التي وضعها قانون المالية ولئن اعتبر أن فرضية مستوى التنمية واقعية فإن الفرضيتين الأخريين بعيدتان كل البعد عن الواقع . فكيف يمكن أن نضع ثمن برميل النفط بـ72 دولار لسنة 2019 في حين انه اليوم قريب من 80 دولار وفي ظل تنامي عدم الاستقرار في منطقة الخليج وخاصة في العربية السعودية بعد مقتل الصحافي جمال
الخاشقجي في تركيا ؟ وكيف يمكن لنا أن نحدد سعر صرف الدولار مع الدينار ب2.8 لسنة2019 في حين أن سعر الصرف الحالي هو في هذا المستوى وأن سياسة البنك المركزي وضغوطات صندوق النقد الدولي من اجل تعويم الدينار تجعلنا نترقب تراجعا أهم لهذا السعر . إذن تبدو الفرضيات بعيدة كل البعد عن الواقعية مما ينذر بهشاشة قادمة للتوازنات المالية للدولة .
لنتوغل أكثر في قراءة هذه التوازنات المالية – وهنا لابد أن نحيي اختيار الحكومة التقليص من عجز ميزانية الدولة وتحديده بـ %3.9 والتقليص من المديونية إلى مستوى %70.9 من الناتج المحلي الخام – ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو قدرة التوازنات المالية الكبرى التي تم ضبطها في إطار قانون المالية على تحقيق هذه النتائج .
نود الإشارة في البداية إلى النمو الكبير في ميزانية الدولة المقترحة والتي ستصل في سنة 2019 الى قرابة 40.6 مليار دينار لتعرف نسبة نمو بـ%8 . وهذه النسبة هامة وكبيرة خاصة إذا ما قارناها بنسبة النمو والتي لن تتجاوز %3 في نفس القانون . ولئن عبرت في عديد المرات عن رفضي للسياسات التقشفية فاني اعتقد جازما أنه كان بالإمكان التعاطي بأكثر جدية مع هذا النمو كي نتفادى هذا التضخم الكبير في ميزانية الدولة وجعلها لا تتجاوز نسبة نمو الناتج الوطني الخام . وهذا ما نقترحه لهذه السنة والسنوات القادمة وهو ضبط سياسة مالية للدولة تجعل ميزانيتها لا تتجاوز النمو في البلاد .
لندرس الإمكانيات التي وضعتها الدولة للوصول إلى هذه التوازنات . فمن ناحية المداخيل الذاتية فقد ضبطتها الحكومة بمستوى 30.5 مليار دينار مقسمة بين 26.9 مليار دينار كمداخيل جبائية و3.5 مليار دينار لمداخيل غير جبائية لتكون نسبة نمو هذه المداخيل بـ%9.1 لسنة 2019. – إلا أن هذه التوقعات تبدو في رأيي غير واقعية وقد تزيد من هشاشة التوازنات
المالية الكبرى للميزانية .
وهنا نشير إلى النمو الكبير للمداخيل الذاتية للدولة لحد شهر جويلية الفائت والتي عرفت نسبة نمو تقدر ب %20.6- هذه النسبة هامة وتشكل احدى أعلى نسب نمو المداخيل الذاتية لما بعد الثورة . والسؤال الذي يطرح نفسه هو إمكانية نمو هذه المداخيل بنفس النسق خلال السنة القادمة .
وللإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة إلى مرجع هذا النمو في المداخيل الذاتية وهل هو متأت من نجاعة جديدة للنظام والإدارة الجبائية أم من إتاوات جبائية جديدة .
إن قراءة النتائج الأولية لقانون المالية للسنة الحالية تشير إلى أن الاداءات المباشرة لم تلعب دورا كبيرا في تطور المداخيل الذاتية ولم تتجاوز %2.7 إلى حد شهر جويلية الفائت بينما عرفت الاداءات غير المباشرة قفزة هامة قدرت بـ%23.5 من جراء الإتاوات والاداءات الجديدة التي آتي بها قانون المالية لسنة 2018 كالإجراءات الجمركية والاداءات على الاستهلاك وإضافة نقطة جديدة على القيمة المضافة – إلا أن الصعوبة الحقيقية في هذا المجال هي مراهنة الحكومة على تحقيق نسبة نمو للمداخيل الجبائية بـ%10.2ونسبة نمو اقل للمداخيل غير الجبائية .
وفي مجال التوازنات المالية لابد من الإشارة إلى صعوبة كبرى ستواجهها المالية العمومية في السنة القادمة من جراء تسديد الدين والتي ستكون في حدود 9.3 مليار دينار لتتجاوز مستواها للسنة الحالية بـ1.5 مليار دينارا. كما ستتجاوز المديونية مستوى الاستثمار العمومي والذي سيكون في حدود 6 مليار دينار .
وفي النهاية لابد من الإشارة إلى هشاشة التوازنات المالية لهذا القانون نظرا لاعتمادها على فرضيات غير واقعية وارتباطها بتوقعات مداخيل ستكون صعبة التحقيق والانجاز .وستزيد التزاماتنا الخارجية خاصة في مجال المديونية من هشاشة الوضع المالي وصعوبته في السنة القادمة .
المسألة الثالثة التي أردنا الخوض فيها تهم علاقة سياسة المالية العمومية بالتوازنات الكمية الكبرى للاقتصاد .
وفي هذا الإطار لابد من الإشارة إلى النقد الذي تم توجيهه للمالية العمومية باعتبار أن عجزها يغذي العجز الخارجي . وستعمل الحكومة على التقليص من هذا العجز في السنة القادمة ليصل إلى %3.9 ولابد لهذه السياسة من الانخراط في التوجهات الاقتصادية الكبرى كالسياسة المالية والتي أخذت منحى جديدا بالخروج من التوجهات التوسعية لمحاربة التضخم وسياسة سعر الصرف والتي اتجهت إلى تعويم الدينار لدفع الصادرات والتقليص من عجز الميزان التجاري . هل أخذت هذه الاختيارات الاقتصادية حظها من النقاش بين الحكومة والبنك المركزي لضبطها اختيارات أكثر تناسقا وتكاملا . الوثائق التي تم نشرها لا تشير إلى هذا النقاش والتنسيق في تحديد الاختيارات الكبرى للسياسة الاقتصادية لبلادنا . هل هذه الخيارات الاقتصادية الكبرى هي الصائبة . شخصيا لا اعتقد وكنت أكدت عديد المرات انه في تقديري يجب إعطاء الأولوية لسياسة سعر الصرف وإيقاف تدحرج الدينار للخروج من الحلقة المفرغة لانخرام التوازنات الكمية الكبرى لاقتصادنا .
المسألة الرابعة والأخيرة والتي نريد التوقف عندها تهم انخراط قانون المالية في اختياراتنا الاقتصادية والإستراتيجية الكبرى . وقد أشرنا في عديد المقالات إلى تآكل وتراجع العقد الاجتماعي الموروث من دولة الاستقلال وضرورة الإسراع ببناء عقد جديد ينطلق من التحول الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا ويسعى إلى بناء مشروع مجتمعي جديد قوامه التوافق والتعدد والعدالة الاجتماعية . والسؤال الذي يطرح نفسه هو مدى مساهمة قانون المالية في هذا البناء الجديد والمشروع المجتمعي الجديد . فما هي مساهمته في تأكيد ودعم الحق في التعليم ؟ وما هي مساهمته في تدعيم الحق في الصحة خارج الملياري دينار والمخصصة لمديونية قطاع الدواء ؟ وما هي مساهمته في دعم التعاون بين الأجيال من خلال حل معضلة الصناديق الاجتماعية ؟
تبقى هذه الأسئلة الكبرى بدون إجابات مما يشير إلى غياب الرؤيا الإستراتيجية والمشروع الاقتصادي الطموح والأقدر على وضع البلاد على طريق إعادة بناء العقد الاجتماعي للجمهورية الثانية .
وفي النهاية فإن قانون المالية الجديد ينخرط في رؤية الحكومة السياسية الاقتصادية مند قدومها في شهر أوت 2016. وهذه النظرة لا تحمل الكثير من الطموح بل تقتصر السياسة الاقتصادية على إدارة التوازنات الكمية الكبرى والتحكم في الموازنات المالية لبلادنا .
وقد اثبت هذا التوجه محدوديته حيث لم يتمكن من تحسين الوضع الاقتصادي والخروج من الأزمة الاقتصادية التي نعيشها . ولابد لنا اليوم من ضبط توجهات اقتصادية جديدة وطموحة تقطع مع التوجهات السائدة وتسعى إلى فتح آفاق جديدة للديناميكية الاقتصادية قادرة على التسريع في نسق التحول الاقتصادي وإعادة بناء العقد الاجتماعي للجمهورية الثانية وحتى لا يكون قانون المالية الحالي الشجرة التي تخفي غابة الأزمة الاقتصادية الخانقة .