ما الذي يجري في هذا البلد؟ لماذا تراجع العقل واستبدّ الغيب وانتصرت على الفكر العواطف؟ في السنين الأخيرة، حصل في تونس تحوّل. حصلت في البلاد قطيعة...
لمّا كنت في الجامعة، في السبعينات وما السبعينات في الزمن الغابر، كان الطلبة جميعا والأساتذة كلّهم يعملون العقل. كان الساسة يدعون الى اعتماد العقل وتجاوز العادات وما كان من سنن. كلّهم جميعا يسعون الى التخلّص من التقليد والخرافة. كلّهم جميعا يسعون إلى الاجتهاد، إلى النظر في ما وراء العرش. في ذاك الزمن، تراجع الغيب. خفّت أثقال السلف. أيامها،علا شأن العقل وأصبح العقل هو المرجع. أو يكاد. في ظلّ حكم بورقيبة، تحوّل النظر من الماضي الى الحاضر. أصبح الكلّ ينظر في المستقبل وكيف نفسخ ما في رؤوسنا من أدران ومن جهالة. كيف نكسب العلوم وانجاز ما هو أبقى وما هو أفضل...
اذا كان العقل هو سعي إلى الإدراك والى التبين بالتحليل، بالمقارنة، دون سوابق منتهيّة أو عواطف قائمة، فالغيب هو استسلام لما تحمله المقادير، هو قبول بما انتشر من فكر دائر. الغيب هو ما غاب عن الإدراك والنظر. هو ما كان معلّقا، لا يمسّه فهم ولا منطق... العقل هو سؤال وحيرة. هو بحث متواصل. أمّا الغيب فهو سكون وطمأنينة. لا نظر مع الغيب فالغيب غائب. ينزل عليك صاعقة. يسكنك. يملك كيانك ولا يفرّط...
كنّا نرفض كلّ يقين وكلّ مسلّم. كنا نفكّر دون خوف أو تردّد. كنّا ننشد العلوم حتّى نرى ونتبيّن. انتهى ذاك الزمن. اليوم، الكلّ تراه في الغيب غارق و»بالإيمان» قلبه مفعم. ترى الكثير يصلّي خاشعا ويصوم الشهر وأكثر. في يوم الجمعة، تمتلئ المساجد والجوامع وترى الناس في سكون يستمعون إلى إمام يعيد دون فهم أو تبيّن ما جاء في الكتاب من آيات وما قاله السلف من قول غثّ وسمين...
في الجامعة، خفت نور العقل. لدى الكثير من الأساتذة والطلبة، ألغي العقل. انتفضت فيهم العواطف. أصبح الدين هو أصل المعارف والقرآن هو الكتاب المرجع. في الكتاب كلّ شيء. فيه كل العلوم، من فيزياء وفلك، من طبّ وإعلامية... لم يفرط في الكتاب شيء. هو المعجم الجامع... والعجب أنّ قلّة قليلة تدرك ما جاء في الكتاب من معنى، من مقاصد والكلّ إلى
الكتاب يعود وبه يستشهد...
نحن نبغض العلوم وما يأتيه الإنسان وعقله. نحن نبغض العقل أصله وأصحابه. نحن نكره الغرب وفي الغرب انتصر العقل وانتشر نوره. الفكر كفر ومن اعتمد الفكر مريب. أحيانا، هو كافر. اليوم، الكلّ إلى الوراء ينظر. الكل للسلف الصالح مقلّد. علوم الغرب شرّ وفي كلّ الحالات هي مكر وغدر. هي لا تصلح...
غريب ما يجري في تونس. في حين ترى الناس في المساجد تتدافع، يسعون إلى آخرة أبقى وأرحب، ترى الجامعات في تعطيل، في تبعثر، هجرها الطلبة. لا دروس في الجامعة. في الجامعة، اهمال كبير وتسيّب أكبر. الكلّ لا يبالي. لا يسمع، لا يرى، لا يتكلّم. لا أحد يهتمّ. لا أحد ينذر... من أفسد التعليم العمومي وخرّبه؟ أساسا، هي الدولة ثمّ النقابات والأساتذة. كلّ حسب جهده. كلّ مساهم. كلّ له طرف. إهمال الدولة للجامعات وللمدارس واستقالة الحكم هي السبب في ما نرى من رداءة، من سوء للتعليم، من غبن للعلوم.
مثالان أسوقهما للإثبات: هذه جامعة صفاقس للعلوم، وجامعة صفاقس هي الأولى في البلاد (؟)، تؤطر وتناقش أطروحة دكتورا حول سطحية الأرض. لدى أساتذة العلوم في صفاقس، الأرض ليست مدورة كما قال العلماء، بل هي مسطّحة وهذا ما تؤكّده بالحجج البحوث... ها هو المهندس أول عبد الرزاق الرحّال الخبير الكبير في العلوم الجوّيّة يخرج على الناس ليعيد علينا حديثا لا يقبله عقل ولا منطق... لم ينجح الرحّال في معرفة ما سوف يحصل في الجوّ من تقلّب. على خلاف توقعاته، جاءت الأمطار طوفانيّة فمات الناس وخرّب العمران... لا يهم. تلك مشيئة الله ولا مرد لقضاء الله. بل من مات في الغرق هو شهيد. مثواه الجنّة... فامطري يا سماء واعصفي يا رياح وغنّوا وافرحوا فكلّما ازداد الغرق، انفتح العرش ونلنا الشهادة... متى، يا مهندس أوّل، تغرق البلاد فنموت كلّنا جميعا شهداء وندخل الجنّة وننعم؟