الفرد عندي هو الأصل وهو المرجع. أنا ليبرالي ولا أرى نفعا في تدخّل الدولة في السوق. تدخّل الدولة في السوق مفسد للمال، معطّل للأعمال، محبط. حرّيّة السوق عندي هي الأجدى في الإنتاج، في تعديل الأجور، في الدفع بالجهد وبالتنميّةّ... أنا ليبرالي اجتماعيّ ولست بليبراليّ متوحّش كما يقول زياد كريشان صاحبي وبعض الأصدقاء في الشبكة. أنا أومن بحرّيّة الفرد «المطلقة»، فكرا واقتصادا ومعتقدا. أومن أنّ الملكيّة حقّ وأنّ الفرق بين الناس في الرزق له مبرّرات وله علل. لكن هذا لا يعني أن كلّ فعل مباح وأنّ كلّ السبل ممكنة.
أنا ليبرالي اجتماعيّ لأنّي أعتقد أنّ للفرد حرّيّة في الفعل وفي المعتقد وأنّ للمجتمع حدودا وقوانين تؤطره. الليبراليّة لا تعني إطلاق الأيدي طولا وعرضا وترك العبد يفعل ما شاء من الفعل. هي لا تعني أنّ المجتمع غاب لا قوانين فيه ولا سنن... في المجتمع الليبراليّ، يلقى الأفراد ما يريدون من حرّيّة ومن حرمة ويلقى الناس جميعا قواعد بيّنة وضوابط محدّدة... فوق الأفراد، فوق المجتمع، هناك يد عليا تنظر وتتابع. يد عليا لها قدرة على التعديل، على التدخّل، على الزجر. كلّ مسّ للضوابط تصدّه اليد. كلّ تجاوز للقواعد تردعه. في تطبيق القوانين بكلّ قوّة وبلا رحمة يتأسس الأمن وتتّسع السبل وتكون الحياة أفضل...
* * *
في تونس اليوم، هناك مهن حرّة تدرّ على أصحابها ربحا فيّاضا. بعض المهنيّين اليوم يكسبون كسبا كثيرا وتراهم يكنزون الذهب والفضّة. هناك أيضا قلّة قليلة من موظّفي الدولة في ثراء ويسر. بعضهم استأثر بما لهف من رشاوى وبما غنم من رزق حرام. هؤلاء نراهم في الديوانة خاصة وفي الشرطة وفي القضاء وفي أماكن أخرى..... هل أحسد الأثرياء على ما كسبوا؟ نعم، أحسدهم. وحتّى أخفّف من حسدي ونقمتي، أتذكّر قول أمّي رحمها الله وفي قولها برد وحكمة. كانت تقول لي «فليزيدهم ربّي أكثر وليعطنا من عنده مالا حلالا ورزقا»...
في المقابل، هناك في تونس اليوم، مهن كثيرة أخرى لا تسمن وأشغال مختلفة لا تغني. أصحابها في شقاء متّصل. هم في فقر. جلّ الأجراء هم اليوم في معاناة، في عسر وعوز. إضافة إلى هؤلاء الشغّالين من الأصناف المتوسّطة والسفلى، هناك العاطلون من الشباب وهم كثر. لا دخل لهؤلاء وتلقاهم لسنوات في بؤس، يأكلهم جوع وتشدّهم ظلمة...
في ما أرى، في تونس اليوم، الكثير من الأطبّاء وكبار رجال الأعمال وبعض الخبراء المحاسبين والمحامين وغيرهم من المهرّبين وباعة الممنوعات... هم اليوم في ثراء كبير. بعضهم في غناء فاحش. يكسبون السماء والأرض. لهم أموال في الداخل وفي الخارج، في البنوك وفي البيوت. بعض المال تلقاه تحت التراب. مدفون في قاع الأرض... قد يقول بعضهم: «لم يسرق هؤلاء شيئا. هم تعلّموا ونشطوا وتتدبّروا فكان لهم المال والرزق. فما دخلك أنت في ما ملكوا ولماذا أنت في حسد، في نقمة؟ كذلك هي السوق وذاك هو البخت يعطيه الله لمن يشاء وفي الختام «إنّ الله هو الرزّاق ذو القوة المتين»...
في ما أرى، هذه ليست السوق. هذا ليس كسبا. هذا استغلال للظرف وفيه انتهازيّة وظلم وله مغبّات كثر. فيه مسّ بتوازن المجتمع وفيه خطر يهدّد... من سنن العيش، إن اشتد بين الناس التفاوت، هو انخرام الوضع وتفتّت الجمع. عندها يخيب الكلّ وينكسف المجتمع بدءا بالأغنياء الى من شدّه ضيق وعوز...
* * *
من أهم أدوار تلك اليد العليا: التعديل. على الدولة بما لها من أدوات التدخّل لوضع حدّ لما يجري بين الناس من اختلاف فاحش في الكسب. على الدولة بالجباية أن تأخذ من الأطبّاء وغيرهم من المهن الأخرى ما لها من حقّ. إنّ التهرّب الجبائي، هذا الذي نرى، يشعل النقمة، يضرم الفتنة، يدكّ المجتمع دكّا. لمّا ترى بعضهم في المال غرقى والكثير من حولهم في فقر، في شدّة، لن يستقيم الحال ويضطرب العيش وتظلّ النار تحت الأقدام تسري. لن ينفع قول أمّي لمّا ينتهي الصبر ويطول الترقّب. ينتهي الصبر... على الأطبّاء وغيرهم من الكانزين للمال أن يدركوا ويتبيّنوا. عليهم أن يوفوا البلد حقّه. أن يدفعوا ضرائبهم وأكثر حماية لأنفسهم ولذويهم ولما كسبوا أيضا...