ساهم مع ثلة من أقرانه في إرساء دعائم الدولة الناشئة، وواصل جميعهم السير بقيادة المجاهد الأكبر نحو تخليص مجتمعنا من القيود التي كبلته منذ قرون، فتحملوا مسؤوليات متنوعة واكتسبوا تجارب عديدة.
وتقدمت تونس أشواطا في طريق التنمية الشاملة. وهي الهدف الأسمى الجديد بعد هدف الاستقلال. لكن المسيرة تـعطلت بسبب شيخوخة بورقيبة ومرضه الطويل. ورغم الانتعاشة الاقتصادية النسبية التي ظهرت في نظام بن علي، فإنها لم تكن كافية لتقليص الاختلال التنموي بين تونس وأوروبا، لأن معدل النمو لم يرتفع إلى حدود 8 في المائة. وبالتوازي استفحل الفساد في أوساط المقربين من رئاسة الدولة. فوقعت ثورة 14 جانفي. وكان المأمول حُدوث دفع جديد للمسيرة بفضل بروز طاقات كانت مكبوتة. لكن شاهدنا بالعكس استهتارا بالقانون وبـهيبة الدولة، وفوضى هنا وهـناك، واغتيالات سياسية، وإرهابيين في الجبال، فانكمش الاستثمار، وظل اقتصادنا وقدرة المواطن الشرائية في تراجع مستمر، وديوننا الخارجية في تصاعد مـحيِّـر.
أمام هذا الوضع الحالك، أعتقد أنه من الضروري طي الصفحة الحالية وفتح صفحة جديدة، تبدأ بتوضيح هدف تونس - وقد بــيَّــنه بورقيبة غداة إعلان الاستقلال - وهو يتجسد في صعود بلادنا إلى مستوى الدول المتقدمة. ومن شروطه ارتفاع الـنمو إلى 7 أو 8 في المائة طوال سنوات عديدة.
لا شك أن هذا الهدف عسير المنال. لكن الوصول إليه غير مستحيل إذا آمنت به النخبة، وشعرت الطبقة السياسية الحالية بمسؤوليتها التاريخية، وتخلص من مستنقع السياسوية من يـتخبط فيه الآن، وانطلق جميع السياسيين نحو كل أنحاء البلاد، متصلين بالمواطنين والمواطنات مهما كانت تياراتـهم الحزبية أو الفكرية، ومقنِعين إياهم بأهمية الإجماع حول هذا الهدف، وبضرورة التجند والتضحية على مرارتها من أجله، مثلما تجند وضحى الشعب من أجل الاستقلال. فبفضل هذه العقلية، يُـعـتبـر مسيئا للوطن كل من تسبب في خسارة مثقال ذرة من الإنتاج، و مسيئا أيضا للوطن كل من لم يحوِّل إلى استثمار جزءا هاما من أرباح مؤسسته.
لكن الانخراط الشعبي قد يتضاءل إذا لم تتضح الخطوط الكبرى للمخططات الرامية إلى السير نحو الهدف، ولم نعمل على تنمية الإنتاج الحالي، ولم يقع الشروع في استغلال خيرات ظلت مغمورة إلى حد الآن، وهي تكمن في عقول شعبنا، وفيما تركه لنا تاريخنا الطويل، وفي موقعنا الجغرافي المتميز في البحر المتوسط.
تفعيل الأدمغة
نعلم أن الله خلق البشر بعقول متشابهة. فمنها التي ساعدتها الظروف فنمت وأينعت، وشرعت تبحث وتكتشف، فسخّرت الطبيعة إلى حد كبير، وتقدمت الإنسانية. ومن العقول ما طُمِست فتجمدت، وأصبح ذووها أقرب للـحيوان من الإنسان. فليكن التونسيون والتونسيات من الصنف الأول، ولينبثق منهم جيل من الأدمغة قادر على البحث و الابتكار، وذلك بالرفع من مستوى التعليم في كل الدرجات، وبانتهاج سياسة إرادية ترمي إلى النهوض بالبحث العلمي والتكنولوجي في بلادنا، وبمضاعفة نسبة التمويل الهزيلة التي خصصناها له من ناتجنا المحلي الخام.
بذلك نقدر على إعطاء دفع جديد للمعهد الوطني للبحوث الزراعية حتى يكتشف أنواع البذرات التي ستتكيف مع تناقص الأمطار، إذ يؤكد علماء المناخ حتمية هذا التناقص على المدى المتوسط. و بذلك أيضا يكون في تونس مراكز للبحث في الطاقة الشمسية سعيا إلى تخفيض تكاليفها لاستغلالها في الإنتاجين الفلاحي والصناعي. و لا بد كذلك أن نفتح مراكز عديدة للبحث في التكنولوجيات الحديثة بكل أنواعها حتى تستفيد تونس من نتائجها بإحداث أنشطة جديدة ومتنوعة في مجال الخدمات.
الإرث التاريخي
في طول البلاد وعرضها معالم ومواقع أثرية متنوعة، ومناظر طبيعية خلابة، وكلها تستهوي نوعا متناميا من السياح. ففي تهيـئة البنية التحتية الخاصة بها، نكون قد أحدثنا إنتاجا جديدا يتمثل في سياحة ثقافية وبيـئية لن تقل مواردها مما تدره سياحة الشواطئ، ونكون في الوقت نفسه قد ضيقنا من الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.
الموقع الجغرافي
إن تونس الكائنة وسط البحر المتوسط وفي الطريق البحري الممتد من الشرق الأقصى إلى أوروبا، لها موقع فريد يتعين استغلاله، باستئناف العمل قصد إحداث ميناء في البحر العميق. وإن إنجازه يجعله قبلة السفن العملاقة الآتية من الشرق الأقصى أو المتجهة إليه، وهي تحمل بضاعة معدة للتصدير. لنتصور النشاط الكثيف و المتواصل الذي سيحدثه هذا الميناء، والذي قد يجعل من بلادنا سنغافورة البحر المتوسط.
لا تنحصر أهمية موقعنا الجغرافي في إحداث ميناء فقط ، وإنما تتعلق أيضا بموقفنا السياسي تجاه القوى الكبرى التي تتنافس في بحرنا المتوسط. فلكل منها مصلحته الخاصة و يعمل من أجلها. ولتونس أيضا مصلحتها، وهي الاقتراب تنمويا من مستوى جيرانها الأوروبيين. لا شك أن المجهود الوطني الذي ذُكـرت جوانب منه أعلاه غير كاف للنجاح. فنحن في حاجة مع جهودنا إلى استثمارات خارجية ضخمة لتحقيق نمو يصل إلى 7 أو 8 في المائة، وفي حاجة أيضا إلى دعم مالي يشبه «برنامج مرشال» الذي تلقته دول أوروبا الغربية من قبل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت نتيجته إعادة بناء هذه الدول وانضمامها في الوقت نفسه إلى الحلف الأطلسي بقيادة أمريكية.
هذا المعطى التاريخي يبين أن العلاقات بين الدول يـحكمها تبادل المصالح. لذلك يستبعد أن نحصل دون مقابل على هبة مالية تـمكننا من الوصول إلى مستوى الدول المتقدمة. وهنا يجب أن نُغلِّب العقل على العاطفة، ونقدِّم الأهم على المهم، ونُوازنَ بين الأخذ والعطاء، حتى يكون ما نأخذه أهمَّ بالنسبة إلينا مما نعطيه، ونضمنَ لأحفادنا وأبناء أحفادنا مستوى جيرانِـنا الأوروبيين في كل المجالات.
هذا ما نطمح إليه. و لا نريد البتة أن نكون قد عبرنا فقط عن حلم جميل. بل نرغب بالعكس أن يترجم هذا المقال على طموح واقعي، من شأنه أن يدفع الجيل الحالي إلى وضع هدف الالتحاق بركب الحضارة نصب عينيه، وأن يسير بثبات في سبيل تحقيقه. فبقدر ما يتقدم في مسيرته، بقدر ما تتقلص البطالة و الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق. وبالتوازي يقوى الأمل في النفوس، وتزداد ارتفاعا معنويات الشعب، فيــتسارع السير حتى نفوز بالنجاح. وفي هذا النجاح ضمان لعدم رجوع الاستعمار، ولبقاء الدولة التونسية شامخة إلى الأبد، ولاسترجاع الكرامة المفقودة منذ قرون.