ضمن مؤلف جامع احتوى على 567 صفحة تخيّر راضي المؤدب، وهو خبير اقتصادي ومالي تونسي مرموق وصاحب مكتب دراسات مشهود له بالتميز، علّمت مواقفه وآراؤه الساحة العامة التونسية والأجنبية، ما لا يقل عن 137 مقالا أو رد فعل نشر أغلبها في اللغة الفرنسية وعلى مدى سبع سنوات متتالية بين 19 جانفي 2011 و14 جانفي 2018، وذلك ضمن دوريات مختصة وثقافية وجامعة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والصحف التونسية والأجنبية الورقية والرقمية، أرفق جميعها بتصدير من وضع المؤلف وتقديم حمل عنوان «رسالة فارسية جديدة موجهة لصديق تونسي»، قام جامع تلك المختارات وعلى غرار فيلسوف الأنوار «مونتسكيو» برده إلى «يعقوب بورجل الفارسي»، مُفضّلا غلق مؤلَفه بـخاتمة وُسمت بـ «على سبيل فاتحة متجدّدة»، أدرج ضمنها مقالين ختاميين نشرتا بتاريخ الـ 14 من شهر جانفي 2018، بكل من صحيفة «لابراس» التونسية «سبع سنوات بعد»، و»لوموند الاقتصادي»: «تونس أزمة اقتصادية واجتماعية تصرّ على التفاقم والاستمرار».
قام ناشر هذه المقترحات (الذي لم يوافينا المؤلف بجهته) بتقسيم عروضه أو مختاراته إلى خمسة أغراض متفاوتة حجما، أضخمها تلك التي اتصلت بمتابعة حقيقة الأوضاع الاقتصادية بتونس (62 مقالا صحفيا و204 من الصفحات)، تلتها مقالات تحيل على الأوضاع السياسية (45 مقالا و240 من الصفحات)، فمختارات ذات صلة بعلاقات تونس الدولية (21 مقالا جمعت في 69 صفحة)، وكذا منظومتها الضريبية (مقالين في أقل من 10 صفحات) وواقعها الاجتماعي (5 مقالات في 18 صفحة). ولعل في هذا التدرّج البياني لعروض الكتاب ما يشي بحضور تفاوت بين الأقسام، مع الدفع باتجاه التبويب الغرضي دون تقصّ واضح لشاغل التوازن، حتى وإن شكل التدرّج الزمني للعروض المستجلبة واندراج الشواغل السياسية والديبلوماسية والضريبية والاجتماعية ضمن تحوّلات الواقع الاقتصادي لمرحلة ما بعد 2011، الخيط الهادي لهذا التأليف على الحقيقة.
تميزت العروض المستجلبة ضمن هذا الأثر باتصال واضعها وباعتباره خبيرا مرموقا بالواقع الاقتصادي الدولي، وعدم اقتصاره على التصوّرات النظرية التي ليس بوسعها تخطي حيز الانطباع الفكري المفصول عن الواقع، مع قدرة جليّة على تجاوز الجوانب الفنية البحتة وسهولة في رسم معالم سياسة جديدة للإصلاح ذات نفس بيداغوجي يعزّ حضوره لدى سواه من المهتمين بالشأن الاقتصادي أو من المحسوبين على «الطبقة» السياسية». فقد بدت لنا التصوّرات التي صاغها الراضي المؤدب منفتحة بشكل واضح على الدرس الاجتماعي، خاصة حال حديثه عن التحوّلات التي طالت الفئات الاجتماعية الوسطى وتركيزه على التناضد بين ما وسمه بـ «الكسرين الاجتماعي والاقتصادي»، مع الوفاء دائما لتوجهات تجريبية تقتفي النفع دون الانحياز إلى أي من التصوّرين الليبرالي المستند إلى حرية السوق أو الدولاني المتعصب لأولوية تدخل الدولة لتعديل الواقع الاقتصادي، بحيث بدت عروضه منخرطة، وإذا ما تملينا العرض النقدي الذي خصّها به أستاذ الاقتصاد «بكار غريب»، في تصورات لا تبتعد من حيث توجهاتها الكبرى عن تلك التي ارتضتها بها الهيئات المالية والاقتصادية الدولية.
فالمنظومة الاقتصادية التونسية تحتاج من منظور راضي المؤدب إلى أنموذج تصرّف ليبرالي معدّل يعيد هيكلة مرتكزاتها، مع تمسّك معلن بالمكاسب الاجتماعية التي تحيل سياسيا على توجهات وسط اليسار، لذلك فإن أهم المعاني التي قامت عليها مختلف المقالات التي تخيّرتها الرؤية الناظمة لمؤلِفه، هي بلا جدال دفاعه الجليّ على ضرورة نجاح الاقتصاد التونسي في تكريس «الادماج الاقتصادي والمالي»، مع التركيز في توضيح هذا التمشي وبشكل لا يحتمل أدنى تردّد على الأسباب الاقتصادية التي علَّمت سياقات ما جدّ مع حلول سنة 2011 تونسيا، حتى وإن طوّحت الطبقة السياسية الناسلة عن تلك السياقات بعيدا عنها، بل وعمدت في أحيان كثيرة إلى اقصائها عن الصعوبات الحقيقية التي ما انفكت تقضّ مضاجع التونسيين وساستهم حاضرا.
فالمشاكل الحقيقة تكمن في تفاقم معدلات البطالة لدى الفئات الشابة وانعدم التنمية المتوازنة بين الجهات، وهي مشاكل عويصة لا يمكن في تصوّر المؤلف حلّها خارج سياسة اقتصادية تحول نهائيا دون العوائق التي كبلت لعشريات متتالية المبادرة الفردية لباعثي المؤسسات الاقتصادية الخاصة، والاعتراض مبدئيا وبشكل لا يتضمن أي مهادنة على التصورات الارجائية التي تعمد إلى تقسيم زمن الاصلاح إلى مراحل سياسية وأخرى اجتماعية ثم اقتصادية منفصلة عن بعضها البعض.
توفر مؤلف هذه العروض على قدرة كبيرة على المباشرة وبسط الحقيقة مع دقة تبليغ تتحاشى كل سقوط في الانشاء أو الخطابة، وهو أمر ردّه «بكار غريب» دائما إلى متانة تكوين المؤلف الذي حظي بتأطير كبار العارفين بالعلوم السياسية والاقتصادية على غرار استاذ الاقتصاد السياسي والتحاليل الاقتصادية الماركسية بجامعة سترازبورغ الفرنسية «جيرار دي بارنيس». لذلك لا تخلو معظم التحاليل المقترحة من توطين تاريخي مفيد، مع حضور لافت للصوّر الدالة أو الاستعارات، على شاكلة تشبيه البلاد التونسية بــ»الكائن الرخوي المنزاح باتجاه الساحل»، والحال أنه قد بات من الضروري تحويل البلاد إلى «كائن يمتلك فقريات تسعفه في تجاوز حالة انعدام التوازن الجهوي والافتقار المستديم إلى العدالة الترابية».
تحضر نفس تلك التشابيه حال الحديث عن نسب النمو المسجلة خلال سنوات ما قبل 2011 وذلك عبر نعتها وبشكل بليغ بـ «السقف الزجاجي» الذي ليس بوسع المنظومة الاقتصادية التونسية تخطيه. أو توصيف الاقتصاد التونسي بـ»سفينة تمخر عباب البحر، لذلك يتعين الاتصاف بتوفر الكفاءة العالية في القيادة إذا ما عنّ لنا تحويل وجهتها بطريقة تضمن سلامة ما تحمله من مقدرات، وإلا فإن مصيرها لن يكون إلا الغرق المحتوم».
وهكذا فقد توصّل المؤلف وببراعة كبيرة إلى تخطي موقع باعث المشاريع ورجل الأعمال الناجح، وكذا المهندس المختصّ، ليأخذ موقع السياسي المحنّك بل وحتى المثقف أو المفكّر بالمعنى الراقي للكلمة. ففي معرض تعليقه على ما تعاينه الساحة السياسية التونسية حاضرا من إعادة ترتيب شدّد الراضي المؤدب على أن «إعادة التوازنات الحيوية للبلاد لا يمكن أن يحصل بمجرد المصادقة على جملة من التفاهمات بخصوص نقاط موضوعة بشكل مسبق ضمن ما اتفق على تسميته بـ»وثيقة قرطاج الثانية»، بل يحتاج إلى رؤية شاملة ومشروع مجتمعي متكامل، لأن الإصلاح ليس بالأمر المحايد على الإطلاق بل هو توجه يضع نفسه في خدمة مشروع له طبيعة سياسية بالضرورة.»
لذلك يتراءى لنا أن ليس للمختارات الواردة ضمن هذا الأثر الموسوم بـ«خيبة الياسمين» من دور غير الاعتبار بمحورية تجاوز القراءات التشخصية وعرض أفكار أو مقترحات عملية وتحاليل ضافية تكفل لصانعي القرار امكانيات الخروج من حالة الانتظار الدرامية التي تردوا فيها، مع إيمان عميق بالتوفر موضوعيا على إمكانية حقيقية للخروج هذا البلد الصغير الذي يمتلك مقدرات كيفيّة مهمة من أزمته الخانقة، بشرط عودة جميع قواه الحيّة إلى موفور الكدّ وخالص العمل.
والمحيّر حقيقة في تشخيص الراضي المؤدب وتوصيفه لنجاعة البدائل المقترحة، أن لا رغبة لديه (استنادا لما شدّد عليه تصريحا وأومأت له سميائيا صورته الذاوية إراديا على غلاف الكتاب) في صنع القرار أو الاسهام المباشر في تنفيذه، وهو موقف حيادي ليس لنا غير احترامه، مع التأكيد على حدوده الاجرائية ومن منظورنا الخاص، إن على صعيد الفعل السياسي أو فيما يتصل بالنضال المدني أيضا.
في مدلول العروض التشخصية
حاول المؤلف رد واقع ما بعد 2011 إلى العديد من المظاهر التي أخذت تتفاقم طيلة السنوات السبع المنقضية، ومن أهم تلك المظاهر المزرية أو السلبية: تجاهل الشعارات الأصلية التي قامت عليها التحركات الاجتماعية، وتراجع سلطة الدولة، فضلا عن الأفق الضيق للطبقة السياسية التي لم تتجاوز مقترحاتها منطق المعالجة السطحية، الأمر الذي زاد في ارتهان مؤسسات الدولة وهياكلها لسطوة الفئات الاجتماعية المتنمرة العابثة بجميع القوانين. لذلك يعتقد الراضي المؤدب - وهو على تمام صواب - أن مختلف الفاعلين السياسيين قد أجهزوا على ما تبقى من مدخرات الدولة ومقدراتها.
فقد وضع المؤلف الأصبع منذ المقالات التي نشرها سنة 2011 على الأخطار الكبرى التي حفت ولا تزال بمؤسسات الدولة وبالتوازنات الحيوية للمجتمع التونسي ومن أوكدها: عودة التصورات البدوية وتفاقم النعرات الجهوية واتساع التدين الواجهة أو الشعيرة وانحلال للروابط الاجتماعية بمفعول الامعان في الانكفاء حول المصالح الفئوية أو المهنية الضيقة. على أن تراجع سلطة الدولة قد أحدث امتدادا غير مسبوق للمحسوبية، مؤديا إلى انفجار نسق الانشطة الموازية ضمن القطاعات الاقتصادية غير المنظمة، مع تورّط كافة الفاعلين في إعلاء منسوب الخطاب الشعبوي الفاقد لإنتاج المعنى أو الدلالة. لذلك فإن كل المحاولات الرامية إلى اعتماد إصلاحات عملية قد أُفرغت من كل مضمون، اعتبارا لطبيعة الترضيات القطاعية والايديولوجية التي تورطت مؤسسات الدولة مُكرهة في منحها بسخاء وضعف تقدير أيضا لمختلف الأطراف، وذلك نظير القبول بإجراءاتها المبتورة.
فقد بدت جميع هياكل الدولة التونسية واهنة وبشكل مخجل أحيانا، بحث شكل تعبير بعض الفئات الضيقة عن احتجاجها، سببا كافيا لإرجاء حزم الاصلاحات الضرورية، وفشلت جميع الحكومات المتعاقبة في اعتماد برنامج إصلاحي واضح المعالم. كما بيّنت التجارب التي خاضتها تلك الحكومات صعوبات السياقات التي حفت بعملها، مع انعدام نجابة حقيقية في معالجة الملفات الاقتصادية الصعبة والاكتفاء بتشغيل السجالات الإيديولوجية واعتماد أساليب بدت للمؤلف أقرب إلى الفجاجة والصراخ منها إلى حضور أفكار اقتصادية لافتة ومجدّدة تُنبئ بتوفر القائمين عليها على ثقافة سياسية واقتصادية عميقة. فقد افتقدت جل الأحزاب السياسية بما في ذلك الجماهيرية منها، لأي برنامج اقتصادي واجتماعي واضح. كما أن توسيع دائرة المشاركة في تصريف الشأن العام قد ساهم من جانبه في انتفاء كل خصوصية والقضاء على كل رؤية أو منهجية دقيقة حال مباشرة الفعل السياسي. فقد انزلقت جميع السياسات من دون تمييز في تشجيع الاستهلاك على حساب الاستثمار والتداين على حساب الادخار، وفض المشاكل الاجتماعية المتفاقمة على معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردّية، والاغضاء تبعا لذلك عن الهفوات وعدم القدرة على محاسبة مقترفيها، ودعوة الكافة إلى مزيد من العمل وبذل الجهد. فمختلف الحكومات التي تعاقبت على تصريف شؤون البلاد لم يزد جهدها في الأخير على التهيّب من فتح الملفات الصعبة وتفضيل ترحيل النظر فيها إلى الحكومات التي عقبتها.
ولأن مسألة الاصلاح لابد أن تتضمن رؤية سياسية، فقد حاول المؤلف موافاتنا بتصوراته الشخصية بهذا الخصوص، مشدّدا على ضرورة تغيير أساليب الانتاج وأشكال توزيع الثروة أيضا. غير أن مثل تلك التصوّرات على قيمتها التي لا تناقش قد لاقت مناهضة شديدة من قبل الفئات المتهيّبة من الشروع في تكريسها تضييقا على مصالحها الحيوية، في حين أن بقية الفئات الاجتماعية الوسطى المفقّرة وجحافل العاطلين وساكنة الجهات المحرومة من التنمية، لم يبد جميعها اكتراثا كبيرا بالأمر ولم يُسهم تبعا لذلك في التعبئة من أجل تطبيق تلك الاصلاحات الضرورية. ويعود ذلك في تصور الراضي المؤدب دائما إلى انعدام توفر الفاعلين السياسيين والمدنيين كما النخب المثقفة إلى مقترحات بيداغوجية المضمون، تسمح بتوضيح الخطط التنموية وتسعف في شحن العزائم وطمأنة الكافة بخصوص المستقبل، مع الالمعية السياسية في صياغة ما يسمه المؤلف بـ»الحلم الجماعي» لدى طبقة سياسية عرجاء بدت له غير معنية تماما ببناء مستقبل البلاد والدفع باتجاه الايمان العميق بجدوى تحويل ذلك الحلم العزيز من مجال القوة إلى مظان الفعل والمراكمة.
فسحة للمقترحات:
يعتبر مؤلف «خيبة الياسمين» أن معظم المشاكل الاقتصادية التي تجابهها البلاد ذات أصرة وثيقة بمنوال التنمية الذي ذهب فصله بالكامل بعد مرور قرابة النصف قرن عن وضعه موضع التنفيذ، وهو منوال ركّز بالأساس على قطاعات المناولة وعلى امتيازات الاستثمار التي وفّرتها البلاد مقارنة بأجوارها الأوروبيين وخاصة فيما يتعلق بالكُلفة المالية وتدني أجور اليد العاملة. هذا المنوال التنموي أصبح اليوم غير قابل للانتعاش في المستقبل المنظور، باعتبار طبيعته التي ساهمت في تفاقم عدد العاطلين مع الكفّ تماما عن خلق مواطن شغل جديدة لحاملي شهادات جامعية عالية تتعارض تطلعاتهم المهنية مع طبيعة القطاعات المرتكزة بشكل شبه مطلق على رخيص المناولة. وحتى إن كان بوسع هذا المنوال مواصلة الرفع من نسب النمو، فإنه قد أضحى غير قابل لتحقيق التنمية، لأن طبيعته غير عادلة ولا تضمن حد معقولا من التكافؤ على الصعيدين المجالي والاجتماعي.
وعموما فإن اتفاق مختلف العائلات السياسية أو الحزبية في تونس بخصوص ضرورة تغيير هذا المنوال التنموي، لم يبرح مستوى الخطاب، حيث لم تتضمن مشاريعها أو مقترحاتها السياسية تصوّرات واضحة دقيقة وبدائل تنموية حقيقية. لذلك فإن تجاوز مثل هذا الواقع الارجائي وهذه السلبية المملة لا يمكن أن يمر إلا من بوابة الدفع باتجاه إقرار مقاربة اقتصادية وتنموية تشجّع على الادماج الاقتصادي وتعمل على تطوير قدرات القطاعات الاقتصادية التضامنية التي بينت تجارب العديد من الدول المتقدمة أنه بوسعها إحداث مواطن شغل جديدة لأكثر من عشرة بالمائة من السكان الناشطين، مع تطوير نسق التصنيع، خاصة وأن العديد من المجموعات الصناعية الكبرى التي تم انشاؤها بتونس قد اتجهت بعدُ نحو تحويل أنشطتها باتجاه القطاعات الأكثر ربحية على غرار التجارة والتوريد أو تمثيل العلامات التجارية المشهورة دوليا، وهو وضع يذكّر في تصور «بكار غريب» بالخطاب الاقتصادي لعشرية ستينات القرن العشرين، لمّا كان القائمون على مؤسسات الدولة يحثون الباعثين التونسيين على الاستثمار في التصنيع وعدم الاكتفاء بالقطاعات الريعية التي لا تتوفر على قيمة اقتصادية مضافة.
ليس هناك من شكّ في أن هذا الانتظار المكلف اقتصاديا والتراجع الملحوظ للنسيج الصناعي يعود بالأساس وفي تصور مؤلف هذه المقالات إلى ضعف الاستثمارات وصعوبة نقل التكنولوجيا وإعادة التموقع الاستراتيجي إقليميا وقاريا ودوليا، مع التشديد على ضرورة الدفع باتجاه الترقّي وتحسين جودة المنتوج، بغية تطوير ربحية القطاعات الاقتصادية وقدرتها الحقيقية على المنافسة أيضا.
ومهما يكن من واقعية أزمة منوال التنمية تونسيا، فإن حقيقة الأوضاع قد دفعت باتجاه الانتقال من تواضع إجرائية المنوال التنموي إلى حضور أزمة خانقة للمالية العمومية، عرض المؤدب بشأنها حزمة من الإصلاحات تمثّلت بالأساس في تطوير المداخيل تجاوزا للاكتفاء بتشخيص تفاقم مصاريف الدولة، حيث اعتبر المؤلِف أن البحث عن تطوير المداخيل العمومية متصل كأوثق ما يكون برصد موارد جديدة للجباية العادلة المتضامنة تتجاوز القطاعات الاقتصادية المنظمة وتتقصى الادماج الضريبي الذي بدا له قادرا وحال النجاح في توسيع قاعدته ليشمل فئات جديدة قابلة إراديا ومصلحيا بالالتزام بالانتظام على شرط العمل بجدية على الحدّ من ارتفاع قيمة الضرائب، وهو تصرّف لا يمكن إلا أن يستفيد منه الكافة، مع العمل بواقعية على إنهاء العمل بأنظمة الأداء التقديرية أو الاجمالية (Régimes forfaitaires).
أما بخصوص المصاريف العمومية فالمنتظر إعادة هيكلة أنظمة التعويض على استهلاك المواد الأساسية والاستراتيجية، مع الحذر من مغبة الارتفاع المشطّ لنسب التضخم نتيجة للترفيع في أسعار المحروقات بعد تحريرها التدريجي. وعموما توفرت مقترحات المؤلف على توجه يرمي إلى ضرورة إصلاح صندوق التعويض، وهو ما يتقاطع مع ما أقره البنك الدولي باعتبار طبيعة ذلك الصندوق التي انزاحت بالكامل عن أهدافها الأصلية وأضحت لا تخدم سواء الشرائح المرفهة، عاملة بشكل عبثي على ارتهان الشرائح الفقيرة التي من المفروض أخلاقيا أن تكون المستفيدة الوحيدة من وجود مثل هذا النظام. أما بالنسبة للصناديق الاجتماعية فلئن بدت طبيعة الإصلاحات المقترحة موجعة، فإن ضرورة القيام بها لا يتعين أن تحيل على نوع من تنصل المجتمع من مسؤولياته الوجوبيّة تجاه من تعهدوا بتنميته على مدى عشريات من الزمن. على أن الشروع في اصلاح المالية العمومية مرتهن سياقيا بواقع وجودها بين فكي كماشة تفاقم الطلبات وانحسار المداخيل أو الامكانيات المرصودة لإحداث التنمية، لذلك فإن أحد الحلول المقترحة من قبل الراضي المؤدب يمكن أن تُحيل على تشجيع الشراكة بين القطاعين العمومي والخاص، بعد أن بات من أوكد الضرورات حاضرا إصلاح المالية العمومية والحدّ من المشاكل العويصة المترتبة عن تفاقم المديونية التي تدفع بالبلاد قُدما نحو مزيد من التبعية والتفقير.
تقف مقترحات مؤلف «خيبة الياسمين» أيضا عند معضلة التنمية الجهوية، إذ يعتبر واضع هذه المقالات أن المغالاة في تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي قد تسببت بلا ريب في تفقير الجهات الداخلية، مع التركيز على سراب مقترحات الحلول التي تبدو صائبة في ظاهرها، حتى وإن انطوى وضعها موضع التطبيق على أرض الواقع على نتائج جد كارثية، من ذلك مثلا أن فك الانكفاء عبر تطوير تجهيزات البنية من خلال شق الطرقات مثلا، بوسعه أن يؤدي موضوعيا وفي غياب تثبيت السكان على أراضيهم ومنحهم فرص شغل حقيقية ومتوازنة إلى تسريع نسق الطرد باتجاه الجهات الساحلية، دون قدرة حقيقية على عكس التيار جَلْبًا. وهو واقع ماثل حضرا إذا ما نحن تملّينا بشكل عميق عروض «محمود بن رمضان» بخصوص واقع النزوح من الجهات الداخلية الوسطى (سيدي بوزيد والقصرين) باتجاه الجهات الساحلية الشرقية، فدور القطاع الزراعي لا يقف عند الزيادة في المردودية وتطوير الإنتاج، بل يتضمن أبعادا محايثة تكتسي من منظور الراضي المؤدب أهمية بالغة على غرار تهيئة المجال والمحافظة على النسيج الاجتماعي. على أنه بالوسع إدراج الأنشطة الاستخراجية بالحوض المنجمي تلك التي شبهها المؤلف وفي استعارة بليغة بـ «الدجاجة ذات البيض الذهبي»، بحيث يُخشى أن تكون نهايتها مأسوية على شاكلة ما آل إليه أمر تلك «الدجاجة» المسكينة.
ما من حلّ أمام الاقتصاد التونسي غير الدفع قدما باتجاه تطوير المبادرة وإنشاء المؤسسات الاقتصادية الخاصة، حتى وإن بيّن واقع الحال أن ما أُحدث من مؤسسات بالجهات على ندرته، لا يكف عن تقديم ترضيات عالية لناشطين لا يتحلّون بالقدر المأمول من الكفاءة والمسؤولية التي تحتاجها كل محاولة لتشجيع إحداث مؤسسات اقتصادية خاصة تكون في مستوى المنافسة وتضمن قدرا من الربحية المُجزية، وهو ما قد يشكّل مستقبلا عنصر إضافيا للطرد أو العزوف لدى معظم المستثمرين.
وفي المحصلة فقد عمل المؤلف ومنذ سنة 2012 أي منذ بواكير المخاطر التي بدأت تتهدد فعليّا الاقتصاد التونسي على الكشف عن أسبابها العميقة المتمثلة في مغادرة النخب الفاعلة للبلاد وترهل الاقتصاد الذي سيطرت على مفاصله بَعدُ «لوبيات» الفساد، مع تعاظم الانغلاق الاقتصادي والتبئير المرضي حول المعالجات المتمسّكة بسراب الهوية وتشغيل المنطق العكر للحليّة والتحريم.
على أن ما انتهت إليه الأوضاع بعد انتخابات 2014 قد دفع بالمؤلف إلى الاعتقاد بأن البلاد محتاجة إلى عشرية تنمية مستدامة، لكي تتمكن موضوعيا من تحسين أوضاعها وتجاوز أزمتها، وهو واقع لم يعرف وحتى اللحظة التي نعيش أي مؤشرات دالة تنبئ بتعاف حقيقي لاقتصاد للبلاد.
ولئن تضمنت العروض المقترحة تصوّرات متوازنة تبرهن على حضور خطة اقتصادية واجتماعية ومشروع متكامل يضمن رؤية تُسعف في اخراج اقتصاد البلاد من أزمته الخانقة، فإن المؤلف وعلى رأي «بكار غريب» دائما لم يحدّد بشكل دقيق ما هي القوة الاجتماعية التي يمكن أن يستند عليها مشروعه الاصلاحي، والحال أن وسط اليسار الذي يمكن أن يُحسَب عليه خبيرنا مشدود إلى تصورات سياسيا انقسامية تزيد في تآكله الملحوظ يوما بعد يوم، منبئة بعودتها إلى موقع «جامعة الصفر فاصل»، وأن الاجابة الحقيقية على المطالب الاجتماعية لما بعد 2011 تحتاج إلى كثير من الشجاعة السياسية، مع ضرورة وضع حدّ لسطوة الأناوات المتضخمة والأنانيات الجارفة وردود الفعل الحرفية أو القطاعية الضيقة والتمسّك بالامتيازات غير المشروعة. وحتى وإن حافظ المؤلف على تفاؤله الحذر بخصوص الإمكانيات العمليّة لتجاوز الأزمة على شاكلة ما توصّل التونسيون إلى القيام به خلال ستينات وعند ثمانينات القرن العشرين، فإن واقع الحال بجميع تعقيداته لا ينطوي على الجرعة المطلوبة من التفاؤل حيال الغياب التام لأي مشروع يمكن النجاح في التعبئة الشعبية حوله. ومع كل ذلك يصرّ الراضي المؤدب على الاعتقاد بأن «التشاؤم مسألة انطباعية بحتة، وأن التفاؤل موصول بالتطوّع»، داعيا الكافة إلى الدفع باتجاه حشد الهمم والاعلاء من قيم البذل وخدمة المصلحة العامة والاعتبار بأولية الادماج الاقتصادي ضمن كل السياسات العامة الموضوعة من أجل تجاوز مخلفات أزمة ما بعد أحداث 2011 الفارقة تونسيا.
قد يكون ما حبره المؤلِف نوعا من السجل الشخصي الذي تقاسم من خلاله رفقة متابعي مقالاته الكثر مشاغل العارف بعالم المال والأعمال، ومخاوف المناضل المدني والمتابع القريب للشأن العام تونسيا ودوليا، وتأملات رجل الخبرة الذي يستعد في سكينة مُغرية لمغادرة مجال الحياة العملية وتقديم المشعل للأجيال الجديدة، غير أن حضوره اللافت على ساحة السجال الفكري تونسيا يشي بغير ما يصرّ على ترديده في جميع المناسبات، جاعلا منه - وضد مشيئته في أحيان كثيرة - صانع حلول طريفة، وموجّها لافتا للراي العام التونسي نخبويا كان أم شعبيا. لذلك فإن رصيده المعرفي والمهني وخبرته الميدانية يتعيّن أن تجد لها موقعا ضمن نُخب الفكر والعلم والفن، وذلك عبر دعوته رسميا إلى الانضمام إلى النادي الضيق للأكاديميين التونسيين، فضلا عن ضرورة اقناعه جديّا بترؤس هيئة عليا للتفكير والقيادة ومتابعة الأوضاع الاقتصادية والمالية الحساسة للبلاد.