منبــر: هل بمقدورنا مواجهة المستقبل دون رؤية مستقبلية؟

خالد شوكات
مدير مركز نداء تونس للدراسات
لا يمكن ان يقود الغرق في تفاصيل حياتنا اليومية الكثيرة والمعقّدة، والانخراط في معارك المشهد السياسي والحزبي و أزماته

التي تتناسل من بعضها البعض ولا تنتهي، خلال هذه المرحلة الانتقالية المليئة بالمطبّات الهوائية، إلى بلورة رؤية استشرافية نحن بأمس الحاجة إليها، لكي نستمد منها الأمل في مواجهة الإحباطات المؤلمة، ونتخذ منها بوصلة صحيحة نحو المستقبل الواعد بديلا عن هذا الحاضر الذي يكاد يشككنا في جميع الثوابت التي أقمنا عليها المشروع الديمقراطي ما بعد ثورة الحرية والكرامة، ثورة 17 ديسمبر المجيدة.

إن الحاضر الذي غلبت على جلُّ مجالاته الرداءة، يعطّل بلا شك قدرتنا على التخطيط، الذي بدونه لا يمكن الافلات من أزمات الراهن، كما لا يمكن - وهذا الأهم- بناء المستقبل، فالناظر الى حال مؤسسات الدولة والحكم والأحزاب السياسية، لا يرى شيئا يهم التخطيط الاستراتيجي، اذ الجميع غارق في اليومي بمنطق «الترقيع» وإطفاء الحرائق وإيجاد حلول مؤقتة للقضايا الطارئة، ووفقا لهذا المنهج فإننا- ان واصلنا السير- لن ندرك الغاية المرجوة من الديمقراطية، اي صناعة التقدم والتنمية، ولن نتمكن من ضمان سيرورة النظام الديمقراطي الناشئ، وهو ما على النخبة السياسية ان تفهمه وتستوعبه وتتداركه سريعا.

لقد كان للنظام السابق اكثر من جهاز للتخطيط الاستراتيجي، يساهم في بلورة الرؤى والتوجهات المستقبلية، بصرف النظر عن مدى اتفاقنا معها او اختلافنا، هذا الى جانب ما كان يميّز النظام من « وحدة مركز القرار» وقوّته، بينما انهارت - او حلّت- هذه الأجهزة بعد الثورة ولم يتم الاستعاضة عنها بمؤسسات جديدة تعكس خصائص النظام الديمقراطي الجديد من جهة، وتساهم في تحقيق أهداف الثورة من جهة ثانية، ولعل اخطر ما في هذا الموضوع هو ان مركز القرار قد شهد انقساما وضعفا غير مسبوق، ولا نبالغ اذا قلنا ان تونس لم تشهد مثيلا له منذ استقلالها سنة 1956، فنحن لأول مرة نتجه نحو المستقبل على نحو مجهول، بل مخيف، وعلى نحو مخالف لمسار التاريخ والامم، اين اصبح التخطيط الاستراتيجي والاستشراف المستقبلي من الاليات الاساسية لوضع السياسات وأخذ القرارات.

ان التجربة التي قضيتها في مؤسسات الحكم - على قصرها- تمكنني من الحديث على نحو جازم، باننا وضعنا دولتنا خارج السياق السليم المطلوب، وبدل ان تفرض متطلبات الدولة واحتياجات المجتمع نفسها علينا، قمنا نحن بفرض انقساماتنا وصراعاتنا كنخب سياسية عليها، ومع تردّي نوعية هذه النخب من حيث الكفاءة القيادية والنزاهة الاخلاقية، فقد نخر سوس الرداءة والغنيمة شيئا فشيئا جميع الاليات والاجهزة، وأضحى منطق التقاسم والتوزيع والمحاصصة، هو السائد والمهيمن، مع ما يعنيه كل ذلك من قتل لأي خطاب سليم او مبادرة بناءة، بل ان بعض الأجهزة والاليات التابعة لرئاستي الجمهورية والحكومة التي يفترض بها لعب دور في مجال التخطيط الاستراتيجي واليقظة والاستشراف، اضحت بفعل الانخراط في المعارك الهامشية الراهنة، اما ميتة او تلعب أدوارا أخرى لا صلة لها بالمستقبل.

ينسى البعض ان المبالغة في الاهتمام بالتكتيكي قد يودي بأصحابه الى تهميش الاستراتيجي، كما ينسى البعض بان طبيعة النظام السياسي قد تكون عاملا مساعدا على تطوير واعتماد مخططات العمل الاستراتيجي او السير في مسارات مخالفة كما هو حالنا اليوم، ومن هنا فان الدعوة الى اجراء الاصلاحات المطلوبة على اسس النظام السياسي الحالي المليء بالثغرات ونقاط الضعف، هي دعوة ايضا الى تدارك وإعادة بناء منظومة التخطيط واليقظة والاستشراف، على نحو يمكّن الأمة من امتلاك مشروع حضاري وطني من جديد، تتجه به الى المستقبل بثقة اكبر في النفس، وقدرة على إشاعة الامل في نفوس التونسيين الذين يبدو اليأس والاحباط كعدِو اول لهم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115