الشعبوية والمتطرفة في اغلب مناطق العالم في البلدان المتقدمة كما في البلدان النامية وفي الديمقراطية التقليدية كما في الديمقراطيات الناشئة.
ففي البلدان الأوروبية لاحظنا النمو الكبير للحركات الشعوبية وحتى اليمينية المتطرفة في السنتين الأخيرتين جعلتها تصل إلى السلطة في بعض البلدان كما كان الشأن في ايطاليا مؤخرا إلى جانب بعض البلدان الأخرى اذكر منها بولونيا وبلغاريا وغيرها – وإن لم تصل هذه الحركات إلى السلطة في بلدان أخرى كفرنسا وألمانيا وانقلترا واسبانيا فإنها أصبحت قوى كبرى يقرا لها ألف حساب. وهذا التطور والانفلات للقوى الشعبوية لم يقتصر على أوروبا بل نجده كذلك في العديد من البلدان الديمقراطية الأخرى خاصة في أوروبا الشمالية . وتبقى الولايات المتحدة ظاهرة متميزة في البلدان الديمقراطية فبعد أن فاجأت العالم بانتخاب أول رئيس زنجي ومن أصول افريقية مباشرة تعود من جديد بانتخاب أول رئيس شعبوي لم يفتأ على طول حملته الانتخابية في تكرار شعاراته المعادية للأقليات والمناهضة للعولمة ولانفتاح الولايات المتحدة على العالم. فتحت شعار «أمريكا أولا» بدأ الرئيس الأمريكي في تطبيق برنامج سياسي موغل في الشعبوية والانغلاق ورفض الأخر وقد أثارت هذه السياسات الكثير من الرفض والتنبؤ بدخول العالم لمرحلة جديدة من الحروب التجارية والمواجهات .
والمهم في هذه التطورات السياسية والتنامي الكبير للحركات الشعبويبة هو تراجعها الكبير عن مبادئ النظام الديمقراطي الذي ميز المجتمعات الديمقراطية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
لقد شكلت الحرب العالمية الثانية وصعود الأنظمة الفاشية في أوروبا وسياسة الإبادة المنظمة التي قامت بها ضد الآخر تجربة مريرة في أوروبا – وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية والانتصار على هذه الأنظمة هو تأكيد خطر الشعبوية لا فقط على الأنظمة الديمقراطية بل كذلك على الإنسان بصفة عامة – فكانت نهاية الحرب فرصة لإعادة النظر في أخطار الشعوبية لمحاولة إخراجها من النظام السياسي .
وقد نجحت البلدان الديمقراطية إلى حدّ بعيد في إبعاد شبح» الغول الشعبوي « وإعادة بناء النظام السياسي على أسس المبادئ والخيار الديمقراطي. إلا أن هذا البناء شهد الكثير من الوهن والضعف في السنوات الأخيرة لتعرف المجتمعات المتقدمة عودة هذا الشبح والمخاوف الكبرى التي يمثلها كرفض الآخر وتحميله مسؤولية كل المخاطر التي تمر بها المجتمعات المتقدمة وضبط سياسات تسعى إلى إقصائه ورفضه .
وهذه التطورات الخطيرة لا تقتصر على البلدان المتقدمة بل عرفت طريقها إلى البلدان النامية والتي عرفت طريقها إلى النظام الديمقراطي من خلال جملة من الثورات الديمقراطية التي عرفتها اغلب البلدان الأوروبية اثر سقوط جدار برلين وبلدان أمريكا اللاتينية اثر سقوط حكم العسكر والجنرالات في بداية الثمانينات ثم البلدان الإفريقية لتمر هذه الثورات الديمقراطية وتحط رحالها في البلدان العربية منذ بداية ثورات الربيع العربي لتفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة وانفتاحا حقيقيا على المبادئ الديمقراطية بالرغم من الانتكاسة التي عرفتها في الأشهر الأخيرة .
إلا أن هذا الانفتاح الديمقراطي والديمقراطيات الناشئة بدأت هي الاخرى تعرف الكثير من الصعوبات والتحديات وعرفت كذلك صعودا كبيرا للقوى الشعبوية وخاصة القوى المتطرفة ولئن كانت القوى الشعبوية في البلدان الديمقراطية مرتبطة بالتقاليد الفكرية اليمينية واللائكية فقد تزامن وارتبط صعود هذه القوى في العديد من الديمقراطيات الناشئة بتطور وتنامي الحركات الدينية وخاصة الإسلام السياسي في بلداننا .
هكذا تبدو صورة العالم مخيفة ومترددة أمام تنامي الأزمات والأخطار وهذه المخاطر كانت وراء صعود شبح العنف المخيف في اغلب الديمقراطيات وتراجع مبادئ التآخي والتعاون والحرية التي طبعت وميزت النظام الديمقراطي وجعلت منه قبلة الناس وعديد الشعوب في العالم .
وكي نحاول ضبط وتحديد ملامح السياسات للخروج من هذا النفق المظلم لابد من العودة إلى الأسباب التي دفعتنا إلى هذه الأزمات والمخاطر وكانت وراء انتفاء الأمل في قدرة الإنسان على تغيير الواقع نحو الأحسن والعالم الأفضل . وفي رأيي لا يمكن تحديد سبب وحيد وراء هذا الواقع بل جملة من الأسباب المترابطة والمتداخلة التي ضيقت أفق الحلم الإنساني وسنحاول في هذه المقال التركيز على بعض الأسباب والدوافع التي كانت وراء تراجع الحلم الإنساني .
السبب الأول في رأيي هو إيديولوجي مع تراجع الأزمة الكبيرة التي تعيشها الأفكار والفلسفات الحداثية والتي ترتكز على فكرة أساسية وهي قدرة الإنسان على تحويل الواقع ومحيطه الاجتماعي نحول الأفضل . وكانت فكرة العالم الأفضل هي الأفق والركيزة الأساسية والمنطلق الفلسفي لأغلب التجارب السياسية التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سواء الليبرالية منها أو الاشتراكية وحتى الشيوعية .
إلا أن هذه الفكرة أصابها الكثير من الوهن والتراجع نتيجة التطورات التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة فعوضا عن العالم الأفضل الذي بشرت به الحركات والفلسفات الحداثية فقد شاهدنا تدهورا كبيرا لهذا العالم أمام تزايد الأزمات المناخية وتزايد التهميش الاجتماعي – هذه الأزمات والمخاطر الكبرى المحيطة بنا شككت في الفكرة الأساسية لهذه الفلسفات الحداثية وهي قدرة الإنسان على التحرر واعادت لفكرة الخلاص عن طريق الآخر بريقها وإشعاعها مما رجح كفة الحركات الدينية وفسر عودتها الهامة إلى الساحة السياسية والفكرية إلى المستوى العالمي .
إلى جانب هذه المراجعات الفكرية الكبرى يمكن لنا كذلك إضافة الجانب السياسي والذي يخص تراجع المشروع الاشتراكي والديمقراطي الذي هيمن على الساحة السياسية العالمية اثر نهاية الحرب العالمية الثانية .
لقد ارتكز هذا المشروع السياسي على ثلاثة مبادئ أساسية وهي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والمساواة ولعبت الدولة دورا أساسيا في بناء هذا المشروع وتوفير الظروف السياسية الملائمة له .
إلا انه شهد على مر السنوات الكثير من التآكل والتراجع ولعبت العولمة دورا مهما في أزمات المشروع الاشتراكي والديمقراطي وتراجع دور الدولة ومهامها الاقتصادية والاجتماعية إلا أنه وبالرغم من أزمة هذا النظام فلم تتمكن النخب السياسية من بناء برامج جديدة قادرة على فتح تجارب سياسية جديدة . وبقيت المشاريع السياسية تتراوح بين مشروع العولمة السعيدة « la globalisation heureuse» والذي لا يرى حلاّ خارج مواصلة السياسات النيوليبرالية على المستوى العالمي والمشروع الرافض لهذه السياسات والذي تحمله الحركات السياسية المعادية للعولمة .
وعلى اختلافاتها الإيديولوجية العميقة تلتقي هذه الاتجاهات في عجزها على تحديد وضبط برامج ومشاريع سياسية جديدة قادرة على الخروج من واقع الإحباط الذي نعيشه نتيجة أزمة المشروع الاشتراكي والديمقراطي .
المسألة الثانية التي تفسر أزمة النظام الديمقراطي وتراجعه هي الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تعرفها اغلب بلدان العالم مع تزايد البطالة والتهميش والفوارق الاجتماعية ومما زاد الطين بلة هو أن الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم زادت من هذه الفوارق وساهمت في توسيعها – وأمام فقدان الأمل وتراجع مبادئ العدالة والمساواة شكلت هذه الطوابير الطويلة من التهميش الحطب الذي ستستعمله الاتجاهات الشعبوية والعنيفة للإتيان على النظام الديمقراطي وحرق ما بقي منه.
هكذا تبدو صورة العالم مخيفة إن لم نقل مرعبة بسبب تآكل ثقة الإنسان في قدرته على تغيير الواقع وأزمة البرامج السياسية وتزايد التهميش الذي يشكل أتون حرب لكل القوى المغامرة . وبالرغم من حالة الإحباط والخوف والخنوع التي بدأت تسيطر على المشهد السياسي والفكري والاجتماعي فقد بدأت عديد القوى و المفكرين في محاولة فتح آفاق جديدة للخروج من هذا الواقع المتأزم وفي رأيي فإن كل محاولة للخروج من هذا الوضع وبناء مشروع فكري وسياسي جديد لابد لها ان تضع نصب أعينها المسألة الاجتماعية وبصفة خاصة قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية والاندماج .
ففتح الأمل أمام الناس لتحقيق أحلامهم يشكل أساس الخروج من الشعبوية والتطرف وبناء تجربة سياسية جديدة أساسها التعاون والتآخي والانفتاح على الآخر.