متقاعد. لا شأن عندي. لا شيء أفعل. أسرح في النهار. أنام في الليل. كذلك، أقضي العمر. أتابع الأيّام وهذا الزمن يجري. في انتظام، كساعة معطّبة، كقطار فوق سكّة... لماذا أنهض كلّ يوم، باكرا؟ كان الأولى أن أسهر الليل وأنام النهار فلا أرى في النهار أحدا، بشرا يمشي. لا شيء عندي أفعل. لا غاية أرجو. لماذا أنهض، كلّ يوم، باكرا؟ هل هو التعوّد؟ هل هو العمر؟ منذ سنين، كلّ صباح، أنهض باكرا. زوجتي هي الأخرى تنهض باكرا. كلّ يوم. ننهض معا. نمشي الى المطبخ سويّا. في المطبخ، نشرب قهوة. في سكون الفجر، أحيانا، أحدّثها. أقول لها تفاهات. أحيانا، تجيب. غالبا، لا تفعل. تفضّل زوجتي الصمت. تظلّ ساكتة مثلي. أنا أيضا أحبّ سكون الفجر. أحبّ الصمت وقد لفّ الارجاء، مطبقا. أسمع دقّات قلبي. فيّ فراغ. فيّ غيب يملأ صدري.
في الصباح الباكر، في المطبخ، أنا وزوجتي، في صمت، ننظر في ما فات من العمر. نعيد، في صمت، ما كان من الزمن. كلّ فوق كرسيّه جالس. كلّ في مكانه، مع نفسه، لوحده، غارق، سارح مع الذكرى. يشرب قهوة. نشربها قطرة، قطرة. لا أحد يقول كلمة. لا أحد يقول شيئا. ماذا عسانا أن نقول وقد استوفينا، منذ سنين، كلّ حديث وقول؟ كلّ لوحده. كلّ لشأنه. أنظر في المطبخ، لا شيء جديد في المطبخ. لا أنظر في شيء. أنتظر. أنتظر الضوء، ضوء النهار مع الشمس يطلع...
هذه عصافير في الشرفة تتدافع، تتجمّع، تطير وترجع. لا تحرّكني العصافير وما هي تفعل. لا أعير لها أذنا. هذا كلب جاري يعوي. لا أدري لماذا كلب جاري دوما يعوي. لا أحد يهتمّ بالكلب ولا بما هو يأتي. كلّ فوق كرسيّه، يشرب قهوة. فكره شارد. عقله سارح. منذ ساعة أو أكثر، أنا وزوجتي في المطبخ نشرب قهوة. في صمت، في طمأنينة، كلّ ينظر في لوحته. ينظر في ما جدّ من حدث، في ما جاء من خبر. نقرأ العناوين. نمرّ على العناوين بسرعة...
جرو جاري دوما ينبح. ليس هو بكلب. هو جرو صغير، كثير الصياح. دوما ينبح. أحيانا، يعوي. ليلا، نهارا، كلب جاري، مرّة ينبح، مرّة يعوي. يقول انّه حارس قدير. انّه قينونة الحيّ. أنا أقول انّه جرو بائس، متعوس، لا يصلح لشيء. جاري يحبّ كلبه. أنا أكره جروه... في الشرفة، هذا خطاف يدعو. دعاء الخطاف جميل، فيه حياة ورقّة. أحبّ طير الخطاف منذ كنت على الفطرة. منذ كنت طفلا. يذكّرني الخطاف بأمّي وبما كان في القرية. في دارنا بالقرية، كان لنا فوق باب المخزن عشّ لخطافين. كنت أقضي الساعات أنظر في الخطافين وهما بين السماء والعشّ والى أمّي وهي بين الطابونة والمطبخ. هل مازال عشّ الخطافين فوق باب المخزن؟
٭٭٭
هي العادة. منذ زمن، كلّ يوم، زوجتي وأنا ننهض باكرا. نمشي الى المطبخ. بعد ساعة أو ساعتين، يرهقني الجلوس على الكرسيّ في المطبخ. أقف. أتكسّل. أتثاءب. أجلس على الكرسيّ ثانيّة. أحكّ وجهي. أضع ساقي اليسرى على اليمنى. أشدّ يدي. أغمض عينيّ. لا أفكّر في شيء. لا أرى شيئا. أنا معلّق بين السماء والأرض. في رأسي فراغ. أنظر في الأرجاء. لا أرى في الأرجاء شيئا. لا شيء في الأرجاء يشدّ. كلّ شيء في مكانه. لا شيء في المطبخ. أعود الى اللوحة. أقرأ ما جاء في اللوحة. لا شيء جديد في اللوحة...
في تونس، منذ الثورة، لا جديد يذكر. كلّ يوم، هناك في البلاد هرج وصخب. كلّ يوم، هناك بغضاء وفوضى. كلّ يوم وكلّ ليلة، تحصل في البلاد اضطرابات وحرق. في الجنوب، كلّ مرّة، بسبب أو بلا سبب، يغضب الناس. يخرجون الى الشوارع. يصرخون في الأرض. يحرقون مركز شرطة وأحيانا مدرسة. ثم يعودون الى بيوتهم فرحين. كذلك، هي تونس، منذ الثورة. كذلك، هي الأيّام تتتالى قاتمة، مضطربة. كلّ صباح، باكرا، كالعادة، أنهض. أمشي الى المطبخ. أشرب قهوة. أنتظر الصباح يأتي. أنظر في اللوحة. لا جديد في اللوحة.
لمّا يطلع النهار وتمتلئ الدنيا بهاء ونورا، ننهض. نغادر المطبخ. ندور في البيت مرّة ومرّة. تمشي زوجتي الى شأنها. أمشي أنا الى شأني. كلّ يأتي ما كتب الله له من شأن. في غالب الأحيان، لا شأن لنا ولا كتاب من الله يأتي. نحن متقاعدان، قاعدان في البيت. نحيا بلا شغل، بلا شأن. لنا جراية منها نحيا. أحيانا، لنا شأن. هي شؤون عاديّة. هي تفاهات يوميّة...
٭ ٭٭
الحياة، في ما أرى، عادات وتفاهات. عيش الانسان شؤون تعاد وأطوار تتكرّر. لا جديد في الأرض. كلّ يوم، كلّ مرّة، في نفس النسق، تأتي ما كنت أتيت، مرّات عدّة. كلّ يوم يعيد نفسه. كلّ يوم، هناك صباح، عشيّة ثمّ ليل. في كلّ يوم، أعيد نفسي. أتكرّر... ما الحياة الا اعادة للعادات. ما الحياة الا حلقة دائرة. حلقة مغلقة...
في العادات ولا شكّ نفع. مع العادات تعوّد ومع التعوّد تمكين للفعل وتأسيس للأنا والجمع. أفليس الانسان، سعيه وفكره، نتاج عادات تعود وتتجدّد؟ أفليس الانسان طبعه وذاته، من فعل عادات تتكرّر؟ أنظر في الأيّام وما كان في الأيّام من عود على بدء. أنظر سوف ترى كيف فينا التعود استقرّ وكيف فينا الطبع استبدّ... أصل الطبع ما طبع في الانسان، مع الزمن، من ختوم وأثر، ما حصل مع الزمن من تشكّل. كلّ يولد ورقة بيضاء، على الفطرة وهذه العادات ترسم الطباع وتحدّد الطبع... من أنا؟ أنا الأيّام. أنا نتاج ما كان مع الأيّام من عادات تعود وتتكرّر، من بصمات تعاد وتتجدّد... الحياة تعوّد. هي حبل ممدود. سكّة متّصلة. محطّات مؤقّتة...
ما كانت العادات خارج الزمن. أزليّة. ما كانت العادات رتابة مكبّلة بل العادات للحياة هي مثبّتة وهي للفرد وللجمع مؤسّسة. العادات هي الخيط الجامع للناس. هي الحاملة للفعل، للمعنى. تشدّ العباد بعضهم ببعض. تؤسّس للفهم وتعطي للعلاقات ديمومة وفحوى...
لئن قامت الحياة على العادات فليست العادات، كما يبدو، من صخر صلب. لا يمسّها انس ولا زمن. من طبيعة الانسان الحركة. فلا استقرار في الفرد وفي الدنيا. حتّى تتغيّر الحياة والدنيا، على العادات أن تتجدّد. حتّى يحصل التجاوز ويكون اليسر، يجب اعادة النظر في ما تقاسمه البشر من عادات مختلفة. ما كانت القواسم المشترك ثوابت مستقرّة، منتهيّة. لا مكان في قلب الانسان لثوابت منتهيّة... تؤسّس العادات الحياة، تثبّتها في الأرض وتحبسها أيضا. هي تؤسّس لاستمراريّة الفعل واستقرار المعنى وحتّى يتطوّر الفعل والمعنى، يجب القطع مع العادات. يجب الانتهاء منها. لتثبيت الفعل والنظم، للدفع بالفرد وبالجمع، يجب المراوحة بين الحفظ والقطع، بين الاقرار والفسخ. القطع المتّصل والفسخ المستمرّ مضرّ للإنسان وكذلك الاقرار والحفظ...
٭ ٭٭
دعني من هذا الكلام ومن هذه الفلسفة. قل يا هذا ان حياتك اليوم عادات تعاد وأنت اليوم ماض يمضي. عيشك حلقة مفرغة وعيناك مشدودتان الى الخلف. أنت اليوم ترى ما كنت رأيت وتمشي في سبل محدّدة. هات يا شيحة مواضيع أخرى. يريد القارئ منك كلاما جليّا، لا غموض فيه ولا عسر. فلم التعقيد يا صاحبي ولم الخوض في متاهات منتهيّة؟ قل ما تريد قوله وامض. عد الى ما كنت فيه من قول وواصل القصّة. أجبني: «بعد القهوة في المطبخ، ماذا تفعل وزوجتك في النهار وفي الليل أيضا؟»
ها أنا أعود الى ما يريده القارئ من أحداث جليّة، مبسّطة. كم كنت أودّ التعقيد حتّى أعسّر. في هذا العسر لي غاية وقصد. أريد أن أبيّن للقارئ ما لي من عمق في البيان ومن اتّساع في المعرفة. كذلك، أبهر القرّاء، أفحمهم. أنال اعجابهم وأكون من المبدعين في الأرض. يحبّ الناس ما جاء من الكلام عصيبا، مبهما. يحبّ القرّاء، أغلبهم، ما كان من الكلام عصيّا، معقّدا. لمّا يكون في النصّ لبس وشبهة، يزداد شغف القرّاء ويرون في النصّ بلاغة واعجازا. الكلام العسير المعقّد لا يفهمه الناس، يخشاه الناس. يكبرون من شأنه. يحسبونه قولا ثقيلا. يقولون انّه البيان. لا يمسّه انس ولا جان. لا يتبيّنه الا المطهّرون من الخلق... كذلك، يرفع النصّ الى السماء. يصبح حكرا على الخاصّة، ممنوعا على الدهماء. يقول فيه أولي الألباب ما شاءوا. يوجّهونه كما شاءوا. لماذا يحبّ الناس المعقّد من الكلام؟ لماذا يرى الناس في تلك النصوص العصيّة اعجازا وبلاغة؟ أحيانا، تأتي النصوص يسيرة، بيّنة فيعقّدها القرّاء. يعطونها اشكاليّات وأبعادا... النصّ البليغ تعقيد أو لا يكون. الاعجاز في عسر البيان... أليس كذلك جاء القرآن؟
(يتبع)