قهوة الأحد: مأساة قرقنة قوارب الموت وأمل الصباح الجديد

أفقنا صباح الأحد الفائت على خبر حادثة مركب قرقنة الفظيعة وغرق عدد كبير ممن نسميهم المهاجرين غير الشرعيين .

وبدأت تصلنا على مدى ساعات الصباح الأولى الأخبار عن عدد الضحايا التي رمى بها البحر وعدد المفقودين والضحايا الذين نجحوا في النجاة من هذا الجحيم . ومع تواصل الساعات بدأت تصلنا الصور المريعة على الشبكات الاجتماعية لتخبرنا بهول ما حدث وبالمصيبة والفاجعة التي حدثت في هذه الجزيرة الوديعة . وسرعان ما أكد ناشطو المجتمع المدني حجم الحدث حيث أشاروا إلى أن هذه الحادثة مثلت أكبر حصيلة من الضحايا في تاريخ الهجرة غير النظامية أو الحرقة في بلادنا قضيت كالعديد من التونسيين كل اليوم في متابعة أخبار هذا الحدث عبر الشبكات الاجتماعية أمام غياب المعلومات في وسائل الإعلام الرسمية – انتابني الكثير من الحزن والغم في مساء هذا اليوم من رمضان أمام هذا الكم من المآسي والأحزان وخاصة غياب الحلم والأمل والذي يدفع مئات الآلاف من الشباب إلى وضع حياتهم بين أيدي تجار الموت .

في هذا الجو المفعم بالحزن والألم الذي خيم علينا في هذا اليوم عدت استرجع بعض الذكريات القديمة لأيام الشباب . حملتني ذكرياتي إلى أغنية حزينة غنتها الصديقة والمطربة المبدعة آمال الحمروني وفرقة البحث الموسيقي بقابس في بداية الثمانينات بعنوان أغنية العودة وقد كتب كلماتها الشاعر آدم فتحي ولحنها الفنان نبراس شمام – ولهذه الأغنية قصة بدأت لما قررت في بداية الثمانينات مع مجموعة من الأصدقاء في إطار نشاطنا في جامعة السينمائيين الهواة تحويل رائعة القائد الفلسطيني والأديب غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» إلى شريط سينمائي . لم نكن نملك الأموال الضرورية لاقتناء بكرات (bobines) السوبر8 (super 8) الشائع آنذاك ولا كانت إمكانيات الجامعة تسمح بإعطائنا العدد الكافي من البكرات فقمنا بتنظيم عملية اكتتاب مالي لإنتاج الشريط في الأوساط الطلابية .وكنا نختتم حفلات أصدقائنا في فرقة البحث الموسيقي في مختلف المراكز الجامعية للترويح لهذا الاكتتاب . وقد لقينا نجاحا كبيرا وتمكنا من جمع الأموال الضرورية لإنتاج الفيلم .

وعلاوة على مساعدتنا في التعريف بالمشروع والترويح للاكتتاب فقد أراد أعضاء فرقة البحث الموسيقي بقابس المساهمة بصفة مباشرة في إنجاح المشروع فاقترحوا إنتاج أغنية كموسيقى تصويرية للفيلم .فكانت رائعة «أغنية العودة « والتي سافرت عبر الزمن لتبقى احدى أحلى الأغنيات التي غنت للحزن والألم الذي يعقب الانكسارات والهزائم .إلا أن أهمية هذه الأغنية تكمن في رأيي في قدرتها على بعث الأمل من جديد في الجو المعتم والمفعم بالكآبة والسوداوية .

رجعت بي الذاكرة إلى هذه الأغنية لأن كلماتها تعبر عن مأساة الهجرة غير المنظمة ومستوى اليأس الذي وصله هؤلاء الشباب وتقول الأغنية :

« سآخذ وجهي وارحل إن أزفت ساعتي
ثائرا كالرياح

..وملتهبا كالحقول التي أشعلتها
الجراح

سآخذ وجهي وأرحل
سآخذ حزني وأرحل

ملتحفا بالأناشيد والذكريات
فاحفظوا قربتي وعصاي

للصغير الذي سوف يكبر يوما ويمحو خطاي
سآخذ وجهي وأرحل

سآخذ حزني وأرحل»

أخذتني هذه الكلمات وصوت آمال الحمروني الحزين إلى عالم هؤلاء الشباب المفعم بالخيبة والانكسار وتعمق هذا الحزن بعد سماعي لروايات بعض الناجين من هذه الكارثة . ويقول أحدهم : «طلعنا قريب 90 واحد قصدنا ربي دنيا ظلام والحس بايت لين وصلت الشقف التي كانوا فيه أكثر من 100 حارق .. وقتها بدات لاولاد اللي معاي فادة وما عجبتهاش لحكاية وتناقشت مع السيد اللي خرجنا معاه من سيدي منصور وقالولو وين مش نطلعو والشقف معبي .. غادي تبدلت اللغة وجاوبنا السيد بلهجة كاسحة .. هذا الشقف اللي متفاهمين فيه واطلع ولا نقز في البحر . ماهياش مشكلتي غادي الأمور بدأت تتكهرب ومالزز نقزنا نعفسوا في بعضنا خاطر الفلايك اللي جينا فيهم ما يرجّعوا حد معاهم».

وهذه الكلمات كافية للتعبير عن هول مآسي الهجرة غير المنظمة والإجرام اليومي لتجار الموت لشباب فقدوا الأمل في الوطن وأصبح همهم الوحيد في الحياة هو الوصول إلى الضفة الأخرى آملين أن تكون ملجأ لأحلامهم . ويواصل هذا الناجي الحديث بكل لوعة عن المآسي . فبعد بعض الوقت فقط من امتطائهم المركب بدأت المصيبة فيقول : «طلعنا في الشقف اللي ما سرحش بينا حتى ساعة وبدا الماء داخل من كل جهة .. حبينا نقصوا الماء بلّي يجي باش نواصلو .. شي الماء غلبنا .. بدا الرايس يزيد في السرعة والشقف يميل يمين ويسار .. الناس بدأت تعيط.. حبس ما دامنا قراب للشط راهو الشقف مش يغرق .. الرايس واصل كاينو عاملها بالعاني .. بدا الشقف يتكا أكثر والماء يغم فيه .. ثما شكون طلب النجدة ويعيط في التلفون باش يجوا ينقذوهم .. ثمة اشكون كلم عايلتو وخايف ومفجوع.. تقلب الشقف.. كثر الصياح .. نسا تعيط بالقوي .. ناس مكبشة في بعضها تصارع في الموج .. نتلفت كل مرة لجهة وانا نتمنى في اشكون يمنعني ويمنعهم ..» ويتواصل سرد المأساة التي ستنتهي بأكبر كارثة في تاريخ بلادنا بغرق ما بين 110 و120 شخصا ونجاة 70 من مجموع 180 الذين اقلهم هذا القارب .

انتابني ككل التونسيين الكثير من الحزن والغم في هذا الأحد لمستوى الأخبار المحزنة والمرعبة التي كانت تأتينا عبر الشبكات الاجتماعية تابعت الأخبار وتذكرت نقاشاتي منذ أسابيع مع أصدقائي الهذيلي عبد الرحمان ومسعود الرمضاني الناشطين في المجتمع المدني وبصفة خاصة في مؤسسة «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» والتي تشكل إحدى أهم منظمات المجتمع المدني التي اهتمت بالشأن الاجتماعي وخاصة بالنضالات ضد التهميش والحيف الاجتماعي . وقد أكد لي الصديقان تزايد الهجرة غير المنظمة منذ السنة الفائتة ومحاولاتهم اليائسة لجلب أنظار السلطة والمؤسسات الرسمية لأخطار التطورات الأخيرة .

وقد أكد التقرير السنوي للمنتدى حول الهجرة غير المنظمة لسنة 2017 وهو التقرير الوحيد عن هذه الظاهرة والصادر منذ أسابيع بالأرقام ما أفادني به الصديقان . وأشار التقرير إلى أن سنة 2011 كانت السنة الأهم والتي عرفت اكبر أعداد الهجرة غير المنظمة من بلادنا تجاه البلدان الأوروبية وبصفة خاصة ايطاليا – فقد بلغت محاولات الهجرة التي تم إحباطها

حوالي 7595 مهاجر. وقد تراجع هذا العدد وعرفت الهجرة غير المنظمة تقلصا هاما منذ تلك السنة إلى نهاية 2016.
وستعرف السنة المنقضية تطورا مخيفا لقوارب الموت ومحاولات الهجرة غير المنظمة . فقد بلغ عدد المهاجرين الذين تم إيقافهم من السلط الايطالية حوالي 10 آلاف شخص في حين أن هذا الرقم لم يتجاوز الألفي شخص سنة 2016. احتدت الظاهرة في نهاية سنة 2017 وبصفة خاصة خلال الثلاثي الأخير حيث بلغ عدد المهاجرين الذين تم إيقافهم نصف الرقم لكامل السنة .

وقد عرفت السنة المنقضية إحباط 195 محاولة هجرة غير منظمة انطلق %38 منها من ضواحي ولاية صفاقس و%16 من ولاية نابل و%12 من ولاية بنزرت . وصفاقس تبقى الجهة الأهم في انطلاق هذه العمليات نظرا لقربها من السواحل الايطالية وخاصة جزيرة قرقنة حيث أن %39 من القوارب التي تم إيقافها انطلقت من الجزيرة .
كما يشير التقرير إلى تنامي لا فقط العمليات التي تم إيقافها في عرض البحر بل كذلك العمليات التي تم إحباطها على الأرض أي قبل وصولها إلى البحر . كما يشير كذلك التقرير إلى أن بلادنا ليست مركز انطلاق للهجرة غير الشرعية لغير التونسيين كما هو الحال في ليبيا أو في المغرب .فالتونسيون يشكلون الأغلبية المطلقة لجملة الهجرة غير المنظمة ويمثلون قرابة %91 من جملة هؤلاء المهاجرين .

كذلك يشير التقرير إلى أن النساء لا يشكلن إلا %2 من المجموع . كما آن التقرير يشير إلى أن القصر غير المصاحبين كانوا حوالي 544. أما الخمس مدن التي تأتي في مقدمة جهات المهاجرين فهي ولايات تونس الكبرى والقيروان ومدنين وصفاقس وقفصة وتطاوين .
ويشير كذلك التقرير إلى ثمن الهجرة غير المنظمة حيث يدفع كل شاب ما بين 4000 و5000 دينار لخسسة العصر الحديث مما يضطر عائلاتهم إلى التداين من اجل المساهمة في تمويل ما أصبح هوسا عند شبابهم .

ويشير كذلك التقرير إلى أن السلطات الايطالية قامت بتفعيل عمليات الطرد والتي وصلت خلال السنة المنقضية إلى طرد 2193 شخص لتكون بلادنا الثانية بعد ألبانيا من حيث المطرودين . وتتم عمليات الطرد في إطار الاتفاقيات التي تم إمضاؤها منذ نهاية التسعينات . وتنطلق عمليات الطرد الجماعية من مطار بالارمو إلى مطار النفيضة لتصل إلى معدل من 60 إلى 80 شخصا أسبوعيا .

كما تشير إحصائيات المنتدى إلى أن هذه الظواهر لم تتراجع منذ بداية السنة بل تفاقمت ليصل عدد المهاجرين غير المنظمين خلال الثلاثي الأول لهذه السنة إلى حوالي 3000 شخص .

تشير هذه الأرقام والعمل التحسيسي الهام الذي يقوم به المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الى خطورة الهجرة غير النظامية كرد من شباب فقد الأمل في قدرة بلادنا على الاستجابة لاهتماماته وآماله . وبالرغم من الكوارث التي عرفتها بلادنا في الأشهر الأخيرة وفواجع الهجرة السرية فإن القناعة لاتزال راسخة أن الوصول إلى الضفة الأخرى هو الحل أمام فقدان الأمل والحلم في بلادنا كلفهم كذلك ما كلفهم .

ونعود إلى حديث أحد الناجين من فاجعة قرقنة والذي يشير في نهاية حديثه إلى هذا الحل بالرغم من الأهوال والرعب الذي عاشه وهو في عرض البحر . فيقول : «ومالاخر صاحبي ورغم اللي عشته .. مازلت مكبش في الحرقة خاصة بعد اللي عشتو .. بلاد اللي ما تعرفش تنقذ الغارق وتغرق العوام .. ماهياش بلاد متع عيشة» كلمات تنخرنا كالسوط أمام عمق الأزمة والتهميش الذي يعيشه شبابنا ويجعلهم لقمة سائغة أمام تجار الموت في عرض البحر أو في العمليات الإرهابية والارتماء في أحضان مجموعات غريبة وبعيدة عن فهمنا المنفتح لديننا الحنيف .

هذه الصرخة تطرح أمامنا التحدي الأكبر وهو تحويل شعارات الثورة من حرية وكرامة وطنية إلى واقع ملموس يعيد الأمل إلى شبابنا في بلادنا وفي المساهمة في بنائها لتحقيق ذواتهم – هذه الصرخة تدفعنا إلى ترك صراعاتنا السياسوية ومطامحنا الشخصية جانبا وتوجيه كل طاقاتنا للفعل من اجل إعادة البسمة وارتسامات الأمل على وجوه شبابنا . هذا الانتماء

للوطن والانخراط في إعادة بناء المستقبل يجعلنا نغني من جديد مع آمال الحمروني وادم فتحي ونبراس شمام وكل أبنائنا :

«سآتي بوجهي وارجع ..
ممتطيا صهوات النشيد

قائلا للطيور
لا تخافي الجراح

قائلا للنخيل
قف برغم الرياح

قائلا للزياتين للبرتقال الوليد
فلنقم وطنا في الصباح الجديد

فلنقم
وطنا

للصباح
...الجديد .»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115