ليصبح صرحا كبيرا للثقافة والفلسفة العالمية – عرفنا سارتر المفكر والفيلسوف ودرسنا كتبه ومساهماته على مقاعد الدراسة ثم في أوقات فراغنا عندما كثر وازداد اهتمامنا بالقضايا الفلسفية والفكرية – كما اهتممت بسارتر المناضل السياسي والذي كان في طليعة المسيرات والمظاهرات في فرنسا وفي كل بلدان العالم لمساندة قضايا التحرر ومن ضمنها نضال الشعب الجزائري ومناضلي جبهة التحرير في حربهم البطولية ضد الاستعمار الفرنسي. لقد كان سارتر إلى حدّ غيابه في 15 افريل 1980 مثال المفكر والمثقف العصري كما حدد مفهومه انطونيو قرامشي في ارتباط التفكير بالممارسة الاجتماعية وبالانخراط في حركة وديناميكية النضال السياسي .
ولكن من الصعب العودة الى تجربة سارتر في هذه الأسطر القليلة فككل الشباب شكل لي هذا المثقف منارة هامة في السنوات الأولى للتكوين الفكري والسياسي لأربعة أسباب على الأقل – السبب الأول هو فكري وفلسفي باعتبار أن الرجل كان وراء ظهور تيار فلسفي هام وهو التيار الوجودي والذي أصبح له إشعاع كبير على المستوى العالمي ليصبح التيار الأهم في خمسينات وستينات القرن الماضي . وبالرغم من انحساره في نهاية الستينات مع ظهور التيار البنيوي (structuralisme) فقد بقي لهذا التيار بعض التأثير في عديد المنابر وعند الكثير من الشباب . وقد بدأ بروز الفلسفة الوجودية عند سارتر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وسيكون لكتاب «l’existentialisme est un humanisme» أو «الوجودية هي إنسانية» والصادر سنة 1945 هو نقطة الانطلاق والبيان التأسيسي للفكر الوجودي. ثم سيعقب هذا الكتاب مؤلف ثان حول نفس الموضوع بعنوان «Existentialisme et émotions humains» أو «الوجودية والمشاعر الإنسانية «والصادر سنة 1957. وسيساهم هذان المؤلفان في بناء الفلسفة الوجودية وفي بروز سارتر كأحد أهم الفلاسفة المعاصرين. ولعل ما اثر فينا وفي أجيال كثيرة من الشباب من الفكر الوجودي هو الجانب الكبير من الحرية التي يتمتع بها الفرد عند سارتر وفلسفته . فالوجودية ترفض فكرة الحتمية وخنوع الفرد وخضوعه لقوى وهياكل خارجة عنه والتي تشل حركته وحريته . وهذا الاختيار الفلسفي ونفس الحرية الذي يبعث من الفكر الوجودي يفسر إلى حد بعيد تأثير سارتر على أجيال عديدة من الشباب .
الجانب الثاني والذي يفسر تأثير سارتر على الشباب وعلى المفكرين هو تجربته الروائية . فقد اصدر عديد الروايات اذكر منها « la nausée» سنة 1938 و«le mur» سنة 1939 و»les chemins de la liberté» والتي عرفت نجاحا كبيرا في الساحة الأدبية – كما كتب سارتر عديد المسرحيات عرفت هي الأخرى الكثير من النجاح ويتم تقديمها إلى الآن في أهم المسارح العالمية. واذكر من هذه المسرحيات «les mouches» سنة 1943 و«Huis clos» سنة 1944 و«la putain respectueuse» سنة 1946.
وهذا الإنتاج الأدبي المتنوع والغزير جعل من سارتر حالة خاصة – فهو تقريبا من الفلاسفة القلائل الذين كانت لهم تجربة أدبية .
والى جانب تجربته الفلسفية والأدبية فقد اهتممت بسارتر كمال العديد من الشباب لمواقفه السياسية المساندة لقضايا العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني – فقد انتقد طيلة حياته التدخل الامبريالي الأمريكي . واقترب من الحزب الشيوعي الفرنسي ليصبح احد أعضائه ثم سيستقيل لرفضه دخول القوات السوفياتية في بودابست سنة 1956 للقضاء على الثورة الديمقراطية هناك . كما سيساند الشعب الجزائري في نضاله ضد الاستعمار الفرنسي حيث سيقف إلى جانب ما سمي في الخمسينات حاملي الحقائب أو «les porteurs de valise» وهم المواطنون الفرنسيون الذين قدموا خدمات كبيرة لجبهة التحرير الجزائرية . ولعل الحدث السياسي الأهم في مسيرة سارتر هو رفضه لجائزة نوبل لسنة 1964. وقد واصل سارتر إلى نهاية حياته مشاركته في النضالات السياسية ودعمه للحريات ونضالات الشعوب .ولعل الجانب الأخير الذي اثار اهتمامنا في مسيرة هذا الكاتب والمناضل هو علاقته مع شريكة حياته المفكرة والكاتبة سيمون دي بوفوار Simone de beauvoir والتي لعبت دورا مهما لا فقط في فرنسا بل كذلك على المستوى العالمي في ظهور الحركة النسوية ومطالبها بالمساواة.فقد شكلت لنا هذه الشراكة مثالا للعلاقة الزوجية العادلة والحرة والمستقبلية والتي تمكن الطرفين من تحقيق التكامل وتنفيذ برامج وبالتالي تقطع مع الرؤية التقليدية للمؤسسة الزوجية والتي تجهل وتهمش دور المرأة.
خطر ببالي الفيلسوف الكبير سارتر ورجع إلى تفكيري بشدة في الأيام الأخيرة اثر بعض الأحداث اليومية التي عشناها والتي دفعتني للعودة لتحليله وأفكاره لمحاولة فهمها وقراءتها .وأريد الإشارة هنا إلى حدثين هامين عشناهما في الأيام الأخيرة – الحدث الأول يهم الشاب المالي Mamoudou Gassama والذي خاطر منذ أيام بحياته لإنقاذ ابن الأربع سنوات في الطابق الثامن لإحدى العمارات الباريسية . قام بهذه المخاطرة الكبرى بدون تفكير ثم غاب وانسحب ولولا الصور التي أخذها بعض الحاضرين على عين المكان والتي مكنت السلط الفرنسية من التعرف عليه لاختفى هذا الشاب في الزحمة ليغيب ذكره نهائيا .
وعندما ظهر مامودو للأضواء اكتشفنا انه نازح مالي وصل حديثا إلى فرنسا بعد رحلة رهيبة ككل اللاجئين عبر الصحراء ثم قوارب الموت . ولم يترك الخجل مامودا حتى عند لقائه بالرئيس الفرنسي ماكرون والذي وعده بتسوية وضعيته القانونية وتمكينه من شغل . أثارت حكايته الكثير من التعاطف على الشبكات الاجتماعية والاهتمامية والإعجاب أمام هذا الشاب «العادي جدا» والذي تحول في لحظة فارقة إلى بطل أو أسطورة .
الحدث الثاني اكتشفته منذ أيام لما كنت عائدا إلى المنزل اثر إحدى السهرات الرمضانية . وقررت التوقف أمام التلفاز قبل النوم . فاكتشفت فلما وثائقيا بثته إحدى القنوات الفرنسية شدني لأهميته للساعات الأولى من الصباح . وهذا الشريط عنوانه «City of Ghosts» أو «مدينة الأشباح» للمخرج الأمريكي Matthew Heineman والذي تحصل على عديد الجوائز العالمية . والفيلم من النوع الوثائقي وقد اهتم بمجموعة من الشباب الذين كونوا في مدينة الرقة السورية أثناء سيطرة مجموعة إرهابيي داعش على المدينة مجموعة أطلقت على نفسها تسمية «الرقة تذبح بصمت» قامت هذه المجموعة بعمل كبير لفضح جرائم داعش منذ بدايات سيطرتها على المدينة –وقد قامت بتصوير هذه الجرائم وإخراجها إلى العالم عن طريق الشبكات الاجتماعية منذ 2014. وقد ساهم هذا العمل المهم والذي قامت به هذه المجموعة من شباب المدينة في فضح هذه الجرائم والتعريف بالمأساة التي عاشتها المدينة منذ سيطرة الجحافل الإجرامية عليها . وقد لعب عمل هذه المجموعة دورا كبيرا في تفنيد الفكرة التي شاعت في تلك الأيام والتي تفيد أن أهالي الرقة رحبوا بوجود الدولة الإسلامية وساهم في تسليط الضوء على معاناة أهالي المدينة أمام الترهيب الذي سلطته عليهم هذه العصابات .
وبسرعة أصبحت مجموعة «الرقة تحترق» أهم مصدر إعلامي موثوق به عن الرقة – وتحصلت هذه المجموعة على الجائزة الدولية لحرية الصحافة سنة 2015 اعترافا لها بأهمية العمل الذي تقوم به .
في الحقيقة وبالرغم من متابعتي للأوضاع المأساوية في سوريا فاني لم اطلع على عمل مجموعة «الرقة تحترق» إلى حد مشاهدتي هذا الشريط . وقد تابعت هذا الشريط إلى نهايته لا فقط لحرفيته وبنائه بل كذلك لأهمية العمل الذي قامت به هذه المجموعة للدفاع عن مدينتها في ظروف صعبة وفيها الكثير من المخاطرة .
وقد اكتشفت في هذا الشريط أن هذه المجموعة متكونة من زمرة من الشباب العاديين من مدينة الرقة قرروا الوقوف إلى جانب مدينتهم في هذا المصاب الجلل الذي حلّ بها.فليس بينهم مناضلون سياسيون في أحزاب بل جلهم أو اغلبهم لم يكن لهم تجارب سياسية في السابق . التقوا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ مدينتهم وقرروا الخروج من صمتهم ومن نمط حياتهم العادي والدخول في مغامرة العمل السياسي بكل ما يعنيه ذلك من مخاطرة وتحد لجبروت احد أكثر التنظيمات الإرهابية شراسة في التاريخ الحديث . لم يكن هذا القرار سهلا وكانت تبعاته خطيرة ومليئة بالماسي لهم ولعائلاتهم . إلا انه بالرغم من هذه المآسي فقد واصل هؤلاء الشباب بطولاتهم طيلة سيطرة هذه المجموعات الإرهابية على مدينتهم لينضافوا بالتالي إلى قائمة طويلة من الأبطال من الناس العاديين .
وقد دفعتني بطولة مامودا قساما ومجموعة «الرقة تحترق» إلى طرح التساؤل حول بطولات الناس العاديين. كيف يخرج بعض الناس من سياق حياتهم العادي للقيام بأشياء أو تصرفات تعرض حياتهم للمخاطر وحتى للموت من اجل إنقاذ شخص آخر أو الدفاع عن مبادئ معينة وما يدفع هؤلاء الناس للمرور من حياتهم العادية إلى مواقع الأبطال الخارقين للعادة .
ولفهم هذه التساؤلات وإيجاد بعض بدايات الإجابات لابد من العودة إلى الفلسفة والتي اهتمت بسيرة الأبطال وفهم أدوارهم ودوافعهم . وأشار عديد الفلاسفة إلى تحديد صورة البطل فهو الإنسان ذو الطاقات الخارقة والتي تتجاوز المعتاد . إلا انه ولئن اختلف المفكرون في تحديد صورة البطل وتعبيراتها التاريخية فإنهم يتفقون في مسألة هامة وهي أن الأبطال يحملون ويجسدون الحلم الجماعي في المجتمعات والذي يتشكل في جملة من المبادئ والأفكار التي يحملونها ويدافعون عنها والتي تصبح أساس المخيال الجمعي للمجتمعات .
وتشير الدراسات التاريخية إلى ظهور ثلاثة أجيال أو أنماط من الأبطال . والنمط الأول هو الذي ورثناه من المجتمعات البدائية إلى حدود المجتمعات الحديثة حيث سيطرت صورة البطل المحارب والمقاتل وذو الطاقات الجسمية والبدنية الخارقة للعادة والخارجة عن المألوف. ثم ظهرت الصورة الثانية للبطل بعد عصر الأنوار والثورات الأوروبية والتي سادت إلى العصور المعاصرة وهي صورة البطل / الإنسان المثالي المدافع عن مبادئه والحريات الجديدة التي أتت بها الثورات .
ثم نصل إلى الصورة الثالثة للأبطال والتي أتت بها العولمة وهي صورة البطل العابر للحدود والذي يحمل في طياته المبادئ والمخيال الجديد الذي تنبأت به العولمة من انفتاح وتعدد ومبادئ كونية .
يبقى في هذا المجال من التفكير بطولات الناس العاديين والتي لم تحظ بالقدر الكافي في رأيي من التفكير والتمحيص . ويبقى الفيلسوف سارتر من الوحيدين الذين أعطوا بعض الملاحظات حول هذه المسألة في كتابه الأهم «l’existentialisme est un humanisme» فقد أشار عديد المفكرين إلى أن البطولة في نهاية الأمر هي مسألة جماعية وهي نتاج المبادئ والعلاقات الاجتماعية ومن هنا التأكيد على الدور الاجتماعي للأبطال ومساهماتهم في بناء المخيال الجمعي للمجتمعات .
إلا أن سارتر غرد خارج السرب والإجماع الفكري ففي فلسفته الوجودية وخاصة في كتابه «الوجودية هي إنسانية» وجه سارتر نقدا كبيرا للفلسفة الماركسية ولفكرة الحتمية التي تحدد مصير الفرد كما حركاته وسكناته بجملة المؤسسات والهياكل الخارجة عن إرادته . رفض سارتر هذه الحتمية وانتقدها بشدة في فلسفته الوجودية ليجعل من الحرية المبدأ الأساسي لسلوك الفرد وحريته . ويسحب سارتر هذا التحليل كذلك على بطولات الأفراد . ففي هذا الكتاب يؤكد أن الفرد ليس بطلا أو جبانا بالفطرة أو من خلال الصيرورة التاريخية . بل الجبن أو البطولة يتأتيان من خلال الأعمال والممارسات التي يقوم بها الأفراد –وبالتالي فإن بطولات الناس العاديين هي جزء من حرياتهم والتي تدفعهم للخروج عن مساراتهم العادية لانجاز أفعال غير معتادة وخارقة للعادة . وهذه الحريات تعطينا أناسا مثل مامودا قساما أو مناضلي مجموعة «الرقة تحترق» والذي خرجوا عن نسقهم العادي لانجاز بطولات كبيرة في لحظات تاريخية مفصلية .
إن بطولة مامودا قساما ومجموعة «الرقة تحترق» تطرح مسألة هامة وهي بطولات الناس العاديين وخروجهم عن المألوف في مراحل تاريخية معينة للقيام بأشياء أو أخذ مواقف غير عادية . وكما أشار سارتر فإن الحرية الكبرى التي يتمتع بها الفرد تدفعه في بعض المراحل والمواقف إلى المخاطرة للخروج عن السائد لتغيير الواقع نحو الأفضل .
قد يبدو هذا الرأي محل نقاش وجدل لكننا نحبذ أن نكون مخطئين مع سارتر على محقين مع آرون كما يقول بعض المثقفين الفرنسيين في ستينات وسبعينات القرن الماضي أي «Plutôt avoir tort avec Sartre que raison avec Aron «