قبل وفاته بسنة ونصف تقريبا وجه المناضل أحمد التليلي رسالة إلى الرئيس بورقيبة تعتبر من أهم الوثائق في تاريخ تونس السياسي. ولفهم أبعاد هذه الرسالة وأهميتها التاريخية لا بد من الرجوع إلى ملامح هذه الشخصية الفذة ودورها بالإتحاد العام التونسي للشغل وبالحزب الحر الدستوري التونسي.
وبالرغم أن أحمد التليلي كان حريصا على القيام بواجبه في إطار الكتمان وحتى السرية أحيانا فإن هذا لا يمكن أن يحجب عنا الدور الفعال الذي قام به في النضال السياسي والنقابي وفي تأطير الكفاح المسلح.
I) المسيرة النضالية للزعيم أحمد التليلي :
ولد أحمد التليلي يوم 10 أكتوبر 1916 بقصر قفصة، نشأ يتيما في عائلة متواضعة فعرف الخصاصة والحرمان. تمكن بفضل مساعدة «الجمعية الخيرية» من متابعة دراسته بتفوق حتى مستوى الباكالوريا لكن نشاطه السياسي دفع بالإدارة إلى رفته فانتقل للجزائر لمتابعة دراسته واشتغل هناك كاتبا عموميا أين تعرف على مناضلين جزائريين من حزب الشعب الجزائري بقيادة مسالي الحاج لكن مرضا ألم به أجبره على العودة إلى قصر قفصة.
مارس بعض المهن ثم أصبح مدرسا ثم دخل قطاع البريد أين تمكن من إقامة شبكة من العلاقات ستسهل له فيما بعد عمله النقابي والسياسي.
ترأس سنة 1943 شعبة قفصة للحزب الحر الدستوري التونسي الجديد ثم أصبح في غضون سنة 1944 - 1945 كاتبا عاما لجامعة قفصة.
وتمكن بمساعدة فرحات حشاد من تكوين الإتحاد الجهوي للإتحاد العام التونسي للشغل بمدينة قفصة وأصبح كاتبا عاما له وانتخب عضوا بالهيئة الإدارية للإتحاد.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى الإستقلال أصبحت شخصيته محورية في النضال الوطني والنقابي، ولا شيء يمكن أن يحدث بالجنوب الغربي وبمناطق أخرى بدون علم وموافقة أحمد التليلي. ومع تجذر النضال الوطني في نهاية الأربعينات أصبح التفكير في العمل المسلح أمرا ملحا خاصة بعد عودة الزعيم بورقيبة من المشرق سنة 1949 وعودة عدد من المقاتلين الذين تطوعوا لتحرير فلسطين خلال الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى سنة 1948.
ففي نهاية 1949 التقى المناضل أحمد التليلي بالزعيم بورقيبة في بيت هذا الأخير بتونس ودار الحديث حول ضرورة تكوين لجنة وطنية للمقاومة تضم 10 مسؤولين جهويين لإعداد الكفاح المسلح لدعم العمل العلني السلمي الذي يقوم به الحزب بمساندة النقابات والجمعيات الثقافية والكشفية والإتحادات الفلاحية والصناعية ومنظمات المرأة والشباب والمثقفين.
وأمضى أحمد التليلي سنة 1950 في الإعداد لهيكلة هذه اللجنة السرية وفي سنة 1951 زار القاهرة خلسة للحصول على دعم مالي للجنة السرية، ثم حضر بميلانو المؤتمر الثاني للسيزل CISL لتسهيل التقاء بورقيبة بحشاد وبالنقابيين الأمريكيين ثم زار باريس في شهير ديسمبر تاريخ صدور مذكرة 15 ديسمبر 1951 التي أقرت السيادة المزدوجة ورفضت المطالب التونسية التي تقدمت بها حكومة محمد شنيق. وأوقف الزعماء وأبعد وزراء حكومة شنيق إلى الجنوب واندلع الكفاح المسلّح.
ورغم إيقاف أحمد التليلي في 13 فيفري 1952 فإن المجموعات المسلحة التي كان وراء تكوينها أو تلك التي ساعدها بالمال والدعم استطاعت أن تصمد وأن تنفّذ مجموعة من العمليات الناجعة أقضت مضجع المعمرين والإدارة الإستعمارية الفرنسية بتونس.
وبقي أحمد التليلي في الإيقاف بالسجن المدني بتونس ثم في الإقامة الجبرية حتى 12 جويلية 1954 ووجهت له تهم خطيرة مثل المشاركة في الإغتيال.
وبعد خروجه أعاد مع الطيب المهيري بناء الحزب (أغلب الزعماء كانوا في السجون أو في المنافي) وأعدوا العدة لإنتفاضة مسلحة جديدة في صورة فشل مفاوضات الحكم الذاتي التي بدأت بعد خطاب منداس فرانس، بقصر قرطاج في 31 جويلية 1954.
وفي 2و3و4 جويلية 1954 انتخب غيابيا أمينا عاما مساعدا للإتحاد ثم نائب رئيس بالسيزال CISL وهذه الوظائف ستسمح له بالسفر والتنقل فسافر إلى جينيف أين التقى بصالح بن يوسف والباهي الأدغم وعلي البلهوان ثم إلى فرنسا أين التقى بالزعيم بورقيبة.
وفي نهاية سنة 1954 أشرف التليلي على لجنة تسلم أسلحة المقاومين مقابل تمتيعهم بالعفو. وبعد إعلان الإستقلال الداخلي وعودة الزعيم بورقيبة وقع تعزيز الديوان السياسي بأحمد التليلي والطيب المهيري ثم انتخب عضوا بالديوان السياسي وأمين مال للحزب في مؤتمر صفاقس (أكتوبر 1955) ووقف مع بورقيبة في صراعه مع صالح بن يوسف لكنه عمل على حقن الدماء ورفض الإقتتال.
وفي سنة 1958 أصبح رئيسا لبلدية قفصة ونائب رئيس المجلس القومي التأسيسي.
وعلى إثر الإنشقاق الذي جد صلب الإتحاد سنة 1956-1957 تم عقد مؤتمر تحت شعار “الوحدة” في 22 سبتمبر 1957 وانتخب أحمد التليلي أمينا عاما للإتحاد وأعيد انتخابه في المؤتمر الثامن أفريل 1960) وبقي على رأس الإتحاد حتى مارس 1963 تاريخ انعقاد المؤتمر التاسع.
وإلى جانب المسؤوليات الجسيمة التي تحملها على الصعيد الوطني كان أحمد التليلي بين 1955 و1962 المسؤول التونسي الأول عن القضية الجزائرية أي كل ما يتعلق بجبهة التحرير الجزائرية وجيش التحرير الجزائري (التموين والإتصال والمعسكرات واللاجئين) ورغم أن بورقيبة كان يهتم بالملف السياسي لهذه القضية والطيب المهيري بالملف الأمني داخل التراب التونسي إلا أن المخاطب الأول لجبهة التحرير بتونس كان أحمد التليلي.
كما لعب دورا هاما في الإعداد للأعمال العسكرية ضد الحضور العسكري الفرنسي بالجنوب(معركة رمادة) كما كان منسقا للمساندة التونسية للكفاح المسلح الأنغولي.
ولكن متى بدأ خلاف أحمد التليلي مع السياسة المتوخاة من قبل القائمين على دولة الإستقلال؟
يمكن اعتبار الدور الذي لعبه الحزب في الانشقاق الذي حصل بالإتحاد سنة 1956 - 1957 بداية لهذا الخلاف ثم تدعم شعور أحمد التليلي بأن خطر الحكم الفردي وضرب الديمقراطية بدأ يهدد البلاد عندما أقدم الحزب بأمر من بورقيبة على حل الفيدراليات (الجامعات) المنتخبة وتعويضها بمندوبين للديوان السياسي يقع تعيينهم وتسميتهم وكأنهم موظفون تابعون للحزب.
ثم جاءت مسألة إنشاء شعب مهنية داخل المؤسسات الإقتصادية لتضييق الخناق على الإتحاد خاصة وقد تم رفض مقترحاته الإقتصادية القاضية بإنشاء تعاضديات عمالية وتشجيع المؤسسات الصغرى والمتوسطة الخاصة وبعث صناعات تحويلية مشغلة ليد عاملة كثيرة وإنشاء بنك لدعم المشاريع الشعبية.
واحتد الصراع بينه وبين أحمد بن صالح بعد أن أصبح هذا الأخير في الحكومة ومن الداعين لهيمنة الحزب على المنظمات الجماهيرية.
II) وضع البلاد والمسألة الديمقراطية
من خلال الرسالة:
كتبت الرسالة في 25 جانفي 1966 باللغة الفرنسية في 32 صفحة من الحجم المتوسط بالنسبة للصيغة المنشورة و49 صفحة بالنسبة للمخطوط الأصلي. وفيها تحليل للوضع السياسي بالبلاد ودعوة لرئيس الدولة لمراجعة أساليب الحكم التي قادت البلاد إلى وضع صعب يهدد مستقبلها.
ويعتقد المناضل أحمد التليلي أن الوضع الذي آلت إليه البلاد هو نتيجة الإبتعاد عن المبادئ التي قادت الحركة الوطنية التونسية في نضالها ضد الحضور الإستعماري وخاصة المبدأين التاليين :
• لا يمكن لأي نظام أن يفرض نفسه على شعب ما بالقوة ويرفض بالتالي تشريكه في تصريف شؤونه، وإن فعل فهو محكوم عليه بالفشل وأكبر دليل على ذلك فشل النظام الإستعماري الفرنسي في فرض سيطرته على الشعب التونسي وهو شعب صغير لا يملك من الإمكانيات الشيء الكثير.1
• لا يمكن تحقيق أي تقدم في أي مجال من المجالات الإقتصادية والإجتماعية في ظل نظام سياسي لا يسمح بمشاركة الشعب المعني الأول بتلك السياسات. 2
ويقول التليلي أن المبدئين وقع الإبتعاد عنهما مع بداية الستينات والنتيجة هي عدم الرضى أو الخضوع والإستقالة العامة داخل البلاد وداخل الحزب.
--------
1 - الرسالة صفحة 2
2 - الرسالة صفحة 3
ويمضي المناضل أحمد التليلي في الكشف عن الهنات والإنحرافات التي أصابت البلاد كشفا شاملا، عقلانيا وموضوعيا فكانت رسالة مرجعية في تاريخ تونس ويمكن أن نستخرج محاور أساسية تناولتها هذه الرسالة.
تتناول رسالة المناضل أحمد التليلي الوضع السياسي في البلاد بمختلف مستوياته وجوانبه وتبدو الصورة قاتمة والحصيلة هزيلة.
1) هيمنة السلطة التنفيذية على السلط الأخرى:
يلاحظ المناضل أحمد التليلي أن النظام القائم اتخذ صبغة بوليسية وأصبح لا يتردد في الضغط على الحريات ومراقبة المواطنين في الداخل والخارج والإعتداء على حقوقهم في التعبير وحق الإختلاف وحتى حق السفر.3 والنتيجة الغضب والرفض من قبل أعداد متزايدة من المواطنين- ولإنجاح هذه السياسة اللادستورية عمدت السلطة التنفيذية إلى تهميش دور السلط الأخرى.
أ ) السلطة القضائية:
يوجد بتونس تنظيم قضائي عريق. كما نصّ دستور 1959 على التفريق بين السلط لكن السلطة التنفيذية لم تحترم هذا المبدأ وأصبحت تتدخل في تسمية القضاة وترقيتهم ونقلتهم فعلى سبيل المثال «تمت ترقية قضاة لم يكونوا أحق من غيرهم ...» كما أن «حق الدفاع في تونس بقي نظريا خاصة عندما تكون الإدارة طرفا في القضية» كما تم في وقت ما «حل هيئة المحامين وسجن رئيسها وتعويض الهيئة بلجنة معينة ...». 4
----------------
3 - الرسالة ص 5 و 6
4 - الرسالة ص 8
ب ) أزمة الهياكل التمثيلية :
تتجلى الأزمة في فقدان عملية الإنتخاب لمصداقيتها بسبب غياب التعددية وعدم تمكين المواطن من حقه في الإختيار بين مرشحين مختلفي البرامج والتوجهات «فانتخابات 1964 أكدت غياب التنافس والتعدد في الحياة السياسية التونسية»5 وأصبحت قائمة واحدة تترشح وهي متأكدة من النجاح مسبقا.
لذلك يمكن القول «أن مجلس الأمة أصبح كاريكاتوريا للهيكل الذي أقر وجوده الدستور».6
إن غياب التعددية ومعرفة نتائج الإنتخابات مسبقا أدى إلى نفور المواطنين من المشاركة في التصويت مما أدى إلى نشأة تقليد «إنتخابي» جديد في تونس وهو التصرف بكل حرية في نتيجة الإنتخابات من قبل المشرفين عليها وذلك للرفع من نسب المشاركة ولإعطاء رئيس الدولة أعلى النسب حتى وإن كان مترشحا لوحده.7 أما في خصوص مشمولات مجلس الأمة فيمكن القول أنه فقد دوره التشريعي.
يقول المناضل أحمد التليلي «أن المجلس لم يناقش إلى حد اليوم أي نص قانوني نابع منه وليس من الحكومة»8 وحتى النصوص التي اقترحها نواب المجلس وأرسلت للحكومة لإبداء الرأي فإنها لم تر النور.
----------
5 - الرسالة ص 20
6 - الرسالة ص 24
7 - الرسالة ص 23
8 - الرسالة ص 23 و24
كما يشير المناضل أحمد التليلي إلى قضية أخرى تعيق عمل المجلس وهو انتماء خمس نوابه تقريبا إلى السلطة التنفيذية (وزراء وسفراء ورؤساء دواوين) وهو ما يحد من استقلالية هؤلاء النواب تجاه السلطة التي اختارتهم لتلك المسؤوليات.
إذا فالسلطة الوحيدة الموجودة هي السلطة التنفيذية والتي خلقت فراغا من حولها.
2) علاقة جهاز الدولة بالمجتمع المدني:
أ ) الحزب الحر الدستوري التونسي:
يحدد المناضل أحمد التليلي سنة 1958 كتاريخ فاصل لتحول الحزب الحر الدستوري التونسي من حزب ديمقراطي التنظيم والعمل إلى حزب غابت داخله الديمقراطية.
فقد تم إلغاء الإنتخاب عند اختيار مسؤولي الحزب بالجهات وتم حل الفيدراليات (الجامعات) وتعويضها بمندوبين يعينون من القمة ولهم كل الصلاحيات.9
كما أن الديوان السياسي أصبح لا يجتمع بكامل أعضائه ولا يناقش القضايا الحيوية وإن إجتمع فالمصادقة على قرارات أخذت من قبل أو للموافقة على رفت عضو من أعضائه وغالبا ما تتم اجتماعاته بلا جدول أعمال ولا محضر جلسة10 وتحول الحزب من حزب يضم مناضلين إلى هيكل يضم موظفين مطالبين بتطبيق التعليمات.
ففقد الحزب دوره السياسي وترك فراغا كبيرا في الحياة السياسية لم تستطع المنظمات الجماهيرية ملأه لأنها هي الأخرى تعرضت للتدجين خاصة بعد مؤتمر بنزرت الذي أقر مبدأ الهيمنة على المنظمات الإجتماعية ومن ورائها المجتمع برمته.
--------
9 - الرسالة ص 11
10 - الرسالة ص 13
و يعتقد المناضل أحمد التليلي أن الحزب الحاكم كان أول المتضررين من حظر نشاط كل من حزب الدستور القديم والحزب الشيوعي التونسي لأن وجودهما يساعد الحزب في الإنتباه لأخطائه وإصلاحها خاصة وأن وزن الحزبين لم يكن يمثل خطرا سياسيا على الحزب الحاكم.11
ب ) الإتحادالعام التونسي للشغل والمنظمات الجماهيرية الأخرى :
عرف الإتحاد في 9 سنوات من الإستقلال ثلاث أزمات (1956 - 1963 - 1965) ناتجة كلها عن رغبة الحزب والقائمين عليه في الهيمنة على الإتحاد. ويعتبر أحمد التليلي أن معركة الإستقلالية النقابية هي في صلب قضية الديمقراطية ويذكر بتاريخ الإتحاد الطويل في النضال الوطني وفي معركة البناء مبينا أن الحركة النقابية التونسية لا تنادي بديكتاتورية البروليتاريا بل هي حركة بناءة تنادي بالحوار بين الأطراف الإجتماعية وتدعم السلم الإجتماعية.12
إن السعي لتحويل الإتحاد لمجرد هيكل تابع لا روح ولا حياة فيه لا يمثل منخرطيه ولا يدافع عنهم خطأ فادح.
إن أطوار أزمة 1965 تتمثل في أن توالي سنوات الجفاف وتراجع أسعار الفسفاط والتخفيض من قيمة الفرنك الفرنسي دفع بالحكومة التونسية إلى التخفيض من قيمة الدينار
بنسبة 21 % وهو ما انعكس سلبا على القدرة الشرائية للأجراء فانعقدت الهيئة الإدارية للإتحاد وطالبت بتعويضات للعمال. وقد أثار هذا الموقف غضب الحكومة التي شنت صحافتها حملات إعلامية ضد الإتحاد ومسيريه وتزامنت هذه القضية مع مؤتمر بنزرت للحزب الحر الدستوري التونسي الذي أصبح يسمى الحزب الاشتراكي الدستوري وأقر في مؤتمره سياسة الهيمنة على المنظمات الجماهيرية.
-----------
11 - الرسالة ص 10
12 - الرسالة ص 19
ووقع استغلال حادثة الباخرة «الحبيب» التابعة لشركة «أحياء جزر قرقنة» ليتم رفع الحصانة البرلمانية عن الحبيب عاشور لمحاكمته. وفي الجلسة التي عقدها مجلس الأمة لرفع الحصانة تناول المناضل أحمد التليلي الكلمة 17 مرة لتطويق الأزمة والدعوة للتعقل حفاظا على الإتحاد وعلى مصلحة البلاد لأنه كان متيقنا من أن المستهدف لم يكن الحبيب عاشور بل الإتحاد.
وبعد فشل مساعيه ووفاة رفيقه الطيب المهيري وزير الداخلية قرر أحمد التليلي أن يغادر البلاد وأن يختار المنفى مؤكدا للحبيب عاشور قبل سفره أن مستقبل البلاد مظلم. وفي اليوم الذي تلى دفن الطيب المهيري نهاية (جوان 1965) غادر التليلي البلاد وتم بعدها إلقاء القبض على الحبيب عاشور وعقد مؤتمر استعجالي للإتحاد تولى على إثره والي تونس مسؤولية الكتابة العام للإتحاد.
أما الاتحاد العام لطلبة تونس فقد عانى هو الآخر من الهيمنة على هياكله وتوجيه سياساته مما دفع بقطاعات واسعة من الشباب إلى النفور والرفض أو اللامبالاة.
يمكن أن نقول الشيء ذاته بالنسبة لاتحاد الفلاحة والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة. 13
وفي هذه الظرفية تحولت الصحافة من سلطة رابعة وظيفتها الإعلام النزيه والنقد والتنبيه للأخطاء والتجاوزات إلى مجرد بوق للدعاية وترديد الشعارات الرسمية وقلب الحقائق. 14
-----------
13 - الرسالة ص15
14 - الرسالة ص 9
فالصحافة أصبحت أضعف مما كانت عليه زمن الإستعمار عددا ومضمونا فالعناوين الموجودة هي ربع ما كان موجودا في الثلاثينات وكما أنها أصبحت تتسم بغياب النقاش والآراء الحرة داخلها.
إن غياب الديمقراطية وحرية التعبير والعمل الجمعياتي المستقل أدى بالمثقفين وبأصحاب الشهادات إلى مغادرة البلاد أو إلى رفض العودة إليها بعد إتمام دراستهم بالخارج. ويورد المناضل أحمد التليلي في رسالته مثالا يتمثل في جمع من الأطباء الأكفاء الذين يعملون بأحد مستشفيات باريس حيث قال له أحدهم «إني أرفض العودة لا لأسباب سياسية بل لأني مقتنع أنني لا أستطيع ممارسة مهنتي بكل حرية لأنه في تونس كل من له سلطة سياسية يستطيع أن يتدخل في كل شيء حتى في أمور تقنية تتطلب تخصصا وخبرة. 15
كما أدى هذا الوضع إلى بروز ظاهرة المحسوبية والإنتهازية والرشوة واستغلال النفوذ فقد أصبحت هذه الممارسات تقليدا متداولا لأنها تتم دون خوف من القانون والعدالة
كما نشأت طبقة جديدة تسعى للإثراء على حساب الشعب وتتسابق من أجل بناء القصور وشراء الضيعات وتهريب العملة وأصابت الإدارة أمراض المحسوبية والجهوية في تعيين
المسؤولين وفي الإنتداب وفي الترقيات 16 وأصبحت الإدارة غير ناجعة امتلأت صفوفها بإعداد متزايدة من الموظفين لم تكن هناك حاجة لانتدابهم أحيانا سوى تطبيق قرار اتخذه مسؤول حزبي أو حكومي.
---------------
15 - الرسالة ص 9
16 - الرسالة ص 17 و25
والقطاع الثقافي أيضا تضرر من هذا الوضع الذي آلت إليه البلاد فالإنتاج ضعيف وموجه للمدح والدعاية وأصبح التونسي يتجه لاستهلاك الإنتاج الأجنبي. 17
بعد هذه الصورة القاتمة التي رسمها المناضل أحمد التليلي اعتمادا على الوقائع والحقائق الثابتة ما هي الحلول التي يقترحها للخروج من هذا الوضع؟
في خاتمة الرسالة اقترح المناضل أحمد التليلي على بورقيبة ما يلي :
- إعادة الحياة للحزب وللمنظمات الوطنية عن طريق إعادة الديمقراطية لهياكلها ولعملها وتمتيعها بالاستقلالية؛
- الفصل بين المسؤولية الحزبية والمسؤولية في السلطة التنفيذية؛
- الغاء كل القوانين التي تكبل الحريات وتحد من حقوق المواطن؛
- الإعداد لانتخابات حرة وديمقراطية تحت إشراف نزيه؛
- إعلان عفو عام عن المساجين السياسيين والمحكوم عنهم بالداخل والخارج وتتم بذلك إتاحة الفرصة لكل التونسيين لخدمة بلادهم بدون تمميز. 18
إن المسيرة النضالية للزعيم أحمد التليلي تؤكد على أنه كان رجل مبادئ رفض الخضوع والإكتفاء بجمع المال. ويمكن اعتباره أول معارض ديمقراطي يستحق هذه التسمية في تاريخ تونس المستقلة لأنه رفض الإنسجام وعارض لا من أجل مصلحة شخصية بل من أجل مبادئ سامية أثبتت الوقائع التاريخية أن نظرته كانت ثاقبة وأن الأفكار التي احتوتها رسالته أو
تلك التي عبر عنها في مختلف المناسبات بتونس وبالخارج لا تزال أفكارا معاصرة جديدة ومتجددة إلى اليوم.
وهذه الأفكار والمبادئ هي أساس قضية الديمقراطية وترتكز على:
- التوازن بين السلط الثلاث التي حددها الدستور والتفريق بينها؛
--------
17 - الرسالة ص 26
18 - الرسالة ص 32 و33
- إشاعة السلوك الديمقراطي داخل الحزب الحاكم حتى يكون قدوة في خلق تقاليد ديمقراطية،
- ضمان استقلالية المنظمات الجماهيرية والجمعيات عن الأحزاب السياسية وعن جهاز الدولة حتى تستطيع أن تكوّن مجتمعا مدنيا يتسم بالتوازن والتضامن ويحتكم للقانون؛
- المساواة أمام القانون وتوفير الفرص لكل التونسيين بدون تمييز في التكوين والتشغيل والترقية؛
- إطلاق حرية الصحافة حتى تقوم بدورها كسلطة رابعة تنبه للأخطاء وتنقد السلبيات.
• قدم هذا النص في ندوة نظمها الاتحاد الجهوي للشغل بقفصة في جويلية 2000