المؤرّخين التونسيّين من التجاوزات المنهجية لهيئة الحقيقة والكرامة والذي نُشر ضمن بيان أمضاه 60 مؤرّخا بجريدة «المغرب» بتاريخ 22 مارس 2018، تناقلت صفحات إلكترونية عديدة هذا التصريح على نطاق واسع، ووقع توظيفه للقدح في ذمّة المؤرّخين المذكورين من قبل عدد من السياسيين، وردّا على ذلك فإن المؤرّخين الجامعيّين التونسيّين الموقّعين على هذا النص يهمّهم بيان ما يلي:
• من حيث الشكل:
1 ) تضمّن تصريح السيد عبد الجليل التميمي إيحاءات سلبيّة تبخس قدر الممضين على العريضة جاءت في شكل عبارات مُبهمة من قبيل « وأنا أتأسّف من هذا البيان الذي لا يزن شيئا أمام القيمة العلمية والتاريخية لدور المؤرخ كما أن أسلوبه مهترئ وآسف مجددا لهذا الردّ الذي مثّل عنصرا سلبيّا في الدورة العلمية ولم يعط البعد الحقيقي للمؤرخ»؛
2 ) ونحن نلاحظ أن هذا التصريح لم يأت في صيغة بيان حجاجي يقارع الفكرة بالفكرة، ويردّ على الحجّة بالحجّة استنادا إلى مرجعيّة معرفيّة مضبوطة أو محاذير منهجيّة متفق عليها، وإنّما ورد في شكل ردّ انفعالي متضارب لا تربط بين مقدّماته واستنتاجاته أية روابط؛
3 ) ويهمّنا أن نشير إلى أن هذا الردّ جاء من خارج المؤسسة الجامعيّة خلافا لما هو متعارف عليه بخصوص نقد المواقف العلميّة، وقد أعقبه بيان آخر استهدف للمرة الثانية عددا من المؤرّخين الجامعيّين نُشر على موقع مؤسسة التميمي بمناسبة الإعلان عن تنظيمها «سيمنار حول الحقائق المغيّبة لوثائق الاستقلال» يوم 7 أفريل الجاري، ونحن نرجّح أن السيد عبد الجليل التميمي لن يتحجّج بخصوص هذا البيان بعدم الخروج عن النطاق الجامعي، باعتبار أن مؤسسته هيئة خاصّة غير مصنّفة ضمن المؤسسات الجامعيّة البحثيّة أو الخاصّة المعترف بها رسميّا؛
4 ) لعل أهم ما استرعى الانتباه في التصريح الأوّل أنّ السجل اللغوي الذي استعمله السيد عبد الجليل التميمي لا يمتّ للحقل الأكاديمي بصلة، فقد اعتبر أن بيان المؤرّخين «يقوم على «السفسطة والمغالطات ويغيّب الدور الحقيقي للمؤرخ و” خاصة ما قامت به مؤسسة التميمي في علاقة بتاريخ تونس المعاصر» ، والناظر في هذا التجريح يلاحظ أنّ مفرداته تندرج ضمن منطق يستند إلى ثنائيات الإدانة والتبرئة والتبخيس والتعظيم، ولا ترقى إلى مستوى اللغة الوظيفية الدقيقة.
• من حيث المضمون:
1 ) وإن كنّا لا ننكر الجهد التوثيقي الذي تقوم به مؤسسة التميمي، ونقدّر دورها في نشر أبحاث المؤرّخين الشبّان، وجمع الشهادات الشفويّة، فإننا نودّ تذكير السيد عبد الجليل التميمي ببعض المسلّمات، منها أن الذاكرة والتّاريخ حقلان مختلفان، وأن النشر المتواتر لأعمال «السيمنارات» ليس حجّة يعتدّ بها للتدليل على ضمان الجودة، وأن الناشر ، وإن كان مسؤولا عن مضمون ما ينشر، لا يمكنه أن ينسب لذاته أعمال غيره؛
2 ) إن عددا من المؤرّخين الذين قدح السيد عبد الجليل التميمي في ذمّتهم العلميّة سبق لهم نشر بعض أبحاثهم لدى مؤسسته؛ وهذا القدح يسيء له أكثر مما يسيء إليهم، لأن مؤسسته ممثّلة برئيسها قد قبلت بتلك الأبحاث وقامت ببيعها منشورة وقبضت معلوم بيعها كاملا، ثم أدار لهم صاحبها بهذه التصريحات ظهر المجن؛
3 ) نحن لا ننازع السيد عبدالجليل التميمي حقّه في دعوة من يرى من غير المؤرّخين المختصّين إلى مؤسسته، لكشف «حقائق الاستقلال الخفيّة» – على حد تعبيره- ولا نودّ البحث في دعاوى انخراطه في جوقة ناكري الاستقلال Négationnistes ، ولكننا نعرب عن استغرابنا من هذه «الصحوة المتأخّرة»، و نبدي اندهاشنا إزاء هذا «الوعي المفاجئ» بـ «زيف الاستقلال»، لصدور ذلك عن رجل سبق له أن تقلّد خطّة وظيفيّة في عهد «دولة الاستقلال»، وصار اليوم يدّعي اختصاصا في الميدان؛
4 ) إن واجب التحفّظ الأكاديمي يمنعنا من الخوض، عبر وسائل الإعلام، في المسارات المهنيّة وتقييم الإضافات العلمية، ولكن واجب إنارة الرأي العام يفرض علينا إجلاء بعض الحقائق المعروفة، أوّلها أن الأكاديمي مٌلزم باحترام مجال اختصاصه والتقيّد بالضوابط المنهجيّة التي يفرضها الحقل المعرفي الذي اختصّ فيه، وتأسيسا على ذلك لا بد أن نشير إلى أن السيد عبد الجليل التميمي الذي أعدّ أطروحة حول «الحاج أحمد باي وبايليك قسنطينة 1830-1837»؛ واشتغل بصورة رئيسية بالتاريخ العثماني لم يقترب من التّاريخ التّونسي المعاصر إلا بصفة عرضيّة ومن خلال أبحاث غيره؛
5 ) إن التباهي بكثرة المنشورات التي أصدرتها مؤسسة التميمي يطرح مشكلا منهجيا دقيقا، فهذه المؤسسة تهدف وفق البيانات المسجّلة ضمن موقعها إلى البحث في « تاريخ الولايات العربية أثناء العهد العثماني والبحث العلمي والآثار العثمانية والدراسات الموريسكية-الأندلسية والتاريخ المعاصر المغاربي والعربي والتركي، بما في ذلك فترة حكم الرئيس الحبيب بورڤيبة، وعلم الأرشيف والمكتبات والمعلومات»، ويهمّنا أن نتساءل عند هذا الحدّ كيف يمكن أن تدّعي مؤسسة خاصّة الاشتغال على كل هذه المحاور المتباينة من دون توفرها على هيئة علمية معروفة أو سند مالي معلوم؛ فقُصارى ما يعرفه الملاحظون حولها ينحصر في بعض المعطيات الشحيحة، منها أن إحداثها تمّ من قبل موظف عمومي قبل سنوات من إحالته على التقاعد وأنه اختار لها مقرا فاخرا يقع خارج العاصمة (زغوان)؛
6 ) إن المتعارف عليه في الأوساط الجامعية أن مخابر البحث ومؤسساته، ومنها المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، تشتغل بفرق بحث متفرّغة وفق برامج مرسومة تضعها مجالسها العلمية وترصد لها الدولة أو الشركات الخاصّة عند الاقتضاء، تمويلات معلومة ومضبوطة بقوانين، بعد اخضاع أشغالها المعرفيّة للتقييم والمصادقة، وذلك في إطار الشفافية التامة؛
لجميع هذه الاعتبارات ولغيرها لم يعمد أي هيكل بحث جامعي في مجال التاريخ، إلى دعوة أعضائه إلى ارتياد مثل هذه «المعارك الظرفية والوهمية» التي تقف وراءها جهات معلومة، خلافا لما دأبت عليه مؤسسة التميمي التي حقّقت رقما قياسيّا في تنظيم اللقاءات و«السيمنارات»؛ والحال أنها تفتقد للموارد البشرية اللازمة والكفاءات العلمية الضرورية، فلا أحد يعلم من يشتغل فيها بصفة دائمة، ومن يقيّم برامجها البحثية ومن يموّل خططها؛ وهذا كاف للقول أن هذه المؤسسة التي صارت تدعو غير المؤرّخين لكشف «خفايا تاريخ الاستقلال» التي «غفل عنها» المؤرّخون المحترفون ( سيمنار 7 أفريل 2018 الذي نظمته مؤسسة التميمي نموذجا) لا يمكن أن تكون ناطقا باسم المدرسة التاريخية التونسية؛
7 ) على أننا نودّ أن نذكر في ختام هذا الردّ أن المؤرّخ يستمد شرعيته المعرفيّة، أولا وبالذات، من اعتراف الوسط الأكاديمي بقيمة أبحاثه وليس من الاصطفاف الظرفي وراء أصحاب النفوذ.
• الإمضاء:
نورالدين الدقي، لطفي عيسى، علي نورالدين، الحبيب الجنحاني، عبدالواحد المكني، الهادي التيمومي، حبيب الكزدغلي، خليفة شاطر، الهادي جلاب، فوزي محفوظ، بشير اليزيدي، منيرة شابوتو الرمادي، عبدالكريم العلاقي، مصطفى التليلي، جمال بن طاهر، فيصل الغول، رياض بن خليفة، حسين الجعيدي، رضا بن رجب، حبيب البقلوطي، خالد عبيد، كمال جرفال، محمد المريمي، عبد الحميد الهلالي، سلوى بالحاج صالح، علي الطيب، محمد سعيد، فيصل الشريف، مروان العجيلي، رضا السهيلي، رضا كعبية، سفيان بن موسى، فتحي العايدي، كريم بن يدر، بوراوي الطرابلسي، سامية الزغل اليازيدي، ناصر الصديقي، عبد الحميد فنينة، عبد الحميد سعيد، عادل بن يوسف، عبد المجيد بالهادي، حبيب الجموسي، ميّة الغربي، لطيفة الأخضر، عميرة علية الصغير، حياة عمامو، نبيل قلالة، عبد الحميد هنية، سليم بروطة، بثينة مرعوي، ليليا خليفي، هند قيراط، رضا السهيلي.