والبلدان الأوروبية اثر محاولة اغتيال رجل المخابرات الروسية السابق سكريبال وابنته في لندن. فقد أعلنت الوزيرة الأولى البريطانية عن مسؤولية روسيا واتهمت الحكومة الروسية وجهاز المخابرات بمحاولة اغتيال العميل السابق. وقد عقبت هذه الاتهامات أزمة ديبلوماسية خطيرة بين بريطانيا وحلفائها الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وروسيا من جهة ثانية وكان من نتائج هذه الأزمة انطلاق حرب طرد الديبلوماسيين من الجهتين .
ويرشح عدد كبير من الملاحظين والمحللين هذه الأزمة للتطور. وأمام تداعيات هذه الأزمة الجديدة من النواحي السياسية والديبلوماسية عاد العديد من المحللين إلى استعمال مصطلح الحرب الباردة وتوازن الرعب الذي ساد اثر الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في إطار المعسكر شمال الأطلنطي والمعسكر الاشتراكي وحلفائه في إطار معسكر فارسو للحديث عن تزايد التوترات والصراعات بين الجانبين فظهرت عديد المصطلحات مثل الحرب الباردة الجديدة والحرب الباردة 2.0 لقراءة الوضع الحالي والتناقضات والصراعات التي تشق السياسة الدولية .
ونريد الإشارة في هذه المقالة الى انه ولئن برزت هذه المصطلحات بمناسبة الأزمة الجديدة فهي ليست وليدة اللحظة بل ظهرت منذ سنوات مع تزايد الأزمات والصراعات بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.وقد استعمل الوزير الأول الروسي ديمتري ميدفيدف Dimitri Medvedev لأول مرة مصطلح «الحرب الباردة الجديدة» في خطاب له في فيفري 2016 لنقد الوضع العالمي والتهديدات المتواصلة بين الجانبين – كما اهتم كذلك العديد من المحللين والباحثين في الشؤون الدولية والجامعيين بهذا الوضع الجديد وبإضفاء الظلال المخيفة للحرب الباردة على الوضع الحالي – فظهرت العديد من الدراسات والكتب حول هذا الموضوع أتذكر منها الكتاب الجماعي تحت إدارة الجامعي الفرنسي Jean Robert Raviot تحت عنوان Russie :vers une nouvelle guerre froide ? أو «روسيا : نحو حرب باردة جديدة ؟ « وصدر عن دار النشر la documentation française والمختصة في الكتب العلمية سنة 2016. وقد جمع هذا الكتاب عديد المساهمات الهامة والثرية حول هذا الموضوع .
وسنحاول في هذه المقالة الحديث عن ثلاث مسائل هامة مرتبطة بهذه الإشكالية الجديدة وهذا التطور المخيف في العلاقات الدولية . المسألة الأولى تخص التطورات الاخيرة والمظاهر التي دفعت عديد الملاحظين والفاعلين الى الحديث عن حرب باردة جديدة – المسألة الثانية تخص الفوارق بين الحرب الباردة الجديدة والقديمة – والمسألة الثالثة تهم سبل الخروج من هذه التوترات التي قد تدفع العالم إلى ما لا تحمد عقباه .
المسألة الأولى تخص المظاهر التي بدأ يأخذها هذا الصراع بين الجانبين والتي يمكن الإشارة إليها في عديد النقاط الهامة – النقطة الأولى تخص عودة السباق نحو التسلح الذي انخفضت حدته في السنوات التي عقبت سقوط الاتحاد السوفياتي . فقد عرفت ميزانية وزارة الدفاع في روسيا نموا بـ %32 في 2018 لتصبح ثاني أهم ميزانية في قانون المالية لهذه السنة . ومن جهتها عرفت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية نموا بـ %7 خلال نفس السنة . ولم يقتصر هذا السباق نحو التسلح على الترفيع في ميزانية وزارة الدفاع بل يظهر كذلك في النمو الكبير للصادرات العسكرية للبلدين وخاصة في العالم العربي حيث تحافظ الولايات المتحدة الأمريكية على الصدارة بـ %34 من مجموع المبيعات بينما تمثل صادرات روسيا %22. كما يبرز هذا التنافس في ترميم القواعد العسكرية في الخارج أو إعادة بناء قواعد جديدة نذكر منها القواعد التي تم بناؤها من طرف منظمة حلف الأطلنطي في استونيا وعديد جمهوريات البلطيق . كما يمكن الإشارة في هذا المجال إلى تزايد المناورات العسكرية والتي أصبحت تستعمل عددا كبيرا من الجنود مما يجعلها تقترب أكثر فأكثر من واقع المواجهات والحروب .
إلى جانب سباق التسلح يمكن الإشارة إلى تزايد التدخلات العسكرية كمظهر آخر من مظاهر الحرب الباردة 2.0 فقد خرجت روسيا عن تراجعها الذي عقب سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفياتي لتعود إلى سياساتها التدخلية العسكرية بطريقة مباشرة كما هو الحال في بعض الجمهوريات المحيطة بها والدائرة في فلك نفوذها كجورجيا وأوكرانيا أو بعض البلدان الأخرى كسوريا أين لعبت دورا كبيرا في فك عزلة نظام الأسد واستعادته لهامش المناورة العسكرية . ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين لم يكتفوا بدور المتفرج بل اطنبوا في تدخلاتهم العسكرية .فبعد حروب الخليج المتعددة والتدخل في أفغانستان بداعي محاربة الإرهاب واصلت الولايات المتحدة تدخلها في الوطن العربي اثر الثورات العربية بصفة خاصة في سوريا بتنسيق مع حلفائها الأوروبيين والجهويين لضرب نظام الأسد ودعم المعارضة العسكرية وبصفة خاصة الحركات السلفية وإعطائها الدعم اللوجستي الضروري لتصبح قادرة على هزم قوات النظام .
المظهر الثالث من هذه الحرب الباردة المعركة الديبلوماسية والعودة النشيطة التي تسجلها كذلك روسيا في عديد المناطق من العالم .فلئن حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على تواجدها وتأثيرها فلقدت عرفت روسيا الكثير من التراجع بعد سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية والتي مثلت لفترة طويلة محيط تأثيرها الطبيعي. وقد استرجعت روسيا في الأشهر الاخيرة بعضا من قواها خاصة تركيا وايران والعالم العربي في سوريا ولبنان ومصر وحتى في بلدان الخليج في فترة تصاعد الخلافات مع إدارة باراك اوباما – كما عرفت روسيا تطورا لحضورها في إفريقيا وبعض المناطق الأخرى .
مظهر آخر من مظاهر الحرب الباردة الجديدة هي المعركة الاقتصادية التي تدور رحاها بين الجانبين. ولئن تراجع دور روسيا الاقتصادي منذ فترة طويلة فقد مكنتها الموارد الطبيعية وبصفة خاصة حيازتها لمدخرات هامة من البترول والغاز الطبيعي لتستعملها كورقة ضغط بصفة خاصة على البلدان الأوروبية في نزاعاتهما السياسية .
جانب آخر من هذا الصراع بين الجانبين يخص الجانب المخابراتي والذي ولئن لم ينته اثر سقوط جدار برلين فلقد عرف في السنوات الأخيرة تصاعدا كبيرا ولعل الأزمة الأخيرة اكبر دليل على ذلك .
المظهر الأخير الذي نود الإشارة إليه من هذا الصراع الخفي بين الجانبين هو المظهر الجديد إذا قارنا هذه الحرب الباردة الجديدة بالحرب الباردة القديمة ويخص الهجومات على الشبكة العنكبوتية العديدة التي عرفناها في الأشهر الاخيرة .وقد استهدفت هذه الهجومات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي عديد البلدان الأوروبية أهم مراكز صنع القرار السياسي وكبريات الشركات والبنوك – وقد نجحت هذه الهجومات على الأنظمة الالكترونية والمعلوماتية في شل حركة هذه المؤسسات الحيوية وقد وجهت الولايات المتحدة وعديد البلدان الأوروبية أصابع الاتهام إلى المخابرات الروسية واعتبرتها وراء هذه الهجومات .
لكن وبالرغم من هذا التشابه ونقاط الالتقاء بين الحرب الباردة الأولى والحرب الباردة 2.0 فانه لا بدّ لنا من التأكيد على بعض نقاط الاختلاف والتعارض.النقطة الأولى لهذا الاختلاف تهم غياب الإطار الإيديولوجي القديم لهذه الحرب. فاثر الحرب العالمية الثانية كانت الشيوعية وفكرة بناء نظام اشتراكي كنظام بديل للرأسمالي الأساس الفكري والإيديولوجي الذي وحّد بلدان المنظومة الاشتراكية ومن جهة أخرى فلقد كانت فكرة الحرية والديمقراطية الأساس الذي وحّد المنظومة الرأسمالية تحت المظلة الأمريكية . وبالتالي كان للحرب الباردة طابع إيديولوجي بين نظامين سياسيين واقتصاديين متناقضين .
إلا انه مع سقوط جدار برلين وانهيار المجموعة الاشتراكية فقد أفل نجم الإيديولوجية الشيوعية وغاب. وقد حاولت روسيا العودة إلى المبادئ التقليدية والفكر الديني لجعله الأساس الإيديولوجي لصراع اليوم . ولئن كان لهذه العودة لمبادئ روسيا القديمة شيء من التأثير على بعض الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا فانه لا يمكن أن يشكل أساسا فكريا قادرا على جذب الشعوب والتأثير فيها كما كانت الاشتراكية في السابق . وبالتالي فإن غياب هذا الأساس الإيديولوجي الجذاب سيجعل روسيا وحيدة في مواجهة هذا التحالف بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا .
نقطة التعارض الثانية تهم غياب تحالف دولي واضح المعالم ومساند لروسيا فاثر الحرب العالمية الثانية ونظرا للدور الأساسي الذي لعبه في سقوط النازية نجح الاتحاد السوفياتي في إقناع مجموعة من الدول بالاصطفاف حوله في إطار المنظومة الاشتراكية في المواجهة التي جمعته مع الولايات المتحدة في الحرب الباردة. إلا أن روسيا اليوم وفيما عدا عدد محدود من البلدان فإنها تفتقد لهذا الحزام العالمي من البلدان الذي أعطاها قوة كبيرة وتأثيرا كبيرا في مواجهة القطب الآخر .
نقطة التعارض الثالثة تخص القوة الاقتصادية لروسيا والتي تآكلت اثر سقوط جدار برلين ولتجعل منها قوة اقتصادية ثانوية لا تمتلك المقومات التي مكنت الاتجاه السوفياتي من مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية اثر الحرب العالمية الثانية وحتى السنوات السبعين .
هذه الاختلافات بين الفترتين تشير إلى تراجع قوة وتأثير روسيا مقارنة بالاتحاد السوفياتي مما سيؤثر على حدة الصراع وعنف الحرب الباردة 2.0 مقارنة بالحرب الباردة التي عرفناها اثر الحرب العالمية الثانية إلا انه وبالرغم من هذه الاختلافات فإن تزايد التوتر والصراعات وظهور بوادر حرب باردة جديدة تشكل خطرا كبيرا على السلم العالمي وعلى الشعوب كما رأينا ذلك في سوريا أو في بعض مراكز الصراع الأخرى .
إن الأخطار التي تحيط بالأمن والسلم العالمية جراء تزايد الصراعات والتوترات في إطار هذه الحرب الباردة الجديدة تتطلب منّا التفكير في طرق تجاوزها والخروج منها حتى لا تتحول إلى صراع مفتوح قد يجر العالم إلى حرب عالمية جديدة – وفي رأيي لابدّ من الضغط على الجانبين كما كان ذلك اثر الحرب العالمية الثانية من اجل الدفاع عن السلم وتجنب الحروب والمواجهات وهذا الضغط والتدخل يجب أن يتم على ثلاثة مستويات . المستوى الأول من التعبئة والحشد هو شعبي ومواطني مثل حركة السلام الآن اثر الحرب العالمية الثانية . وهنا لابدّ من تجميع اكبر عدد ممكن من الحركات المواطنية القادرة على إيقاف الأخطار والصراعات التي تهدد السلم العالمية .
المستوى الثاني من التعبئة يهم الدول ويعمل على تحييد عدد كبير منها مثل دول عدم الانحياز اثر الحرب العالمية الثانية وهذه المجموعة من الدول المحايدة يمكن أن تشكل ورقة ضغط على جانبي الصراع وتفرض عليهما الحفاظ على السلام .
المستوى الثالث يهم المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والمؤسسات الجهوية وبعض التكتلات الأخرى والتي يمكن أن تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على الأمن والضغط على الجانبين لتفادي الصراع والحفاظ على السلم في العالم .
بالرغم من الاختلافات الهامة بين المراحل التاريخية فان تزايد التوتر وتطور الصراعات يذكرنا بتوازن الرعب الذي عرفه العالم اثر الحرب العالمية الثانية وهذا الوضع يتطلب تكاتف القوى الشعبية والمواطنية والدولية والمؤسساتية لتفادي تطور هذه الصراعات والتجاذبات إلى حرب مفتوحة ومن اجل الحفاظ على الأمن والسلم في العالم.