من جديد، إلى هجوم مركز شنته هيئة الحقيقة والكرامة. انطلقت الحملة بتصريح شديد اللهجة لرئيستها، اتهمت من خلاله بناة الجمهورية، عبر صيغ ملتوية، بمنح فرنسا - بموجب اتفاقيات غير متكافئة- امتيازا حصريا لاستغلال كل الثروات الباطنية للبلاد.
ثم سارعت، في السياق ذاته، إلى إبراز «السبق الوثائقي» الذي أحرزته مصالح الهيئة «بوسائلها الخاصة» (هكذا)، باعتبارها نجحت في تحقيق ما عجزت الدولة عن إنجازه، وذلك باستجلاب أرشيفات سرية محفوظة بفرنسا تتعلق بتونس، وخاصة بالقاعدة الجوية والبحرية العسكرية ببنزرت. والتي كانت – حسب ما أكدته رئيسة الهيئة- ملاذا نوويا (هكذا)،أي قاعدة لإطلاق الصواريخ النووية الفرنسية عند الاقتضاء، في إطار الحرب الباردة.
وللتدليل على صحة اِدّعاءاتها، نشرت هيئة الحقيقة والكرامة على موقعها الرسمي توضيحين تاريخيين: يهم الأول قاعدة بنزرت، ويتعلق الثاني بما اعتبرته «سوء إدارة» مسؤولي الدولة منذ1955 لملف الثروات الطبيعية. استنادا إلى تفاصيل كثيرة حول «تواطؤ النظام» البورقيبي مع المستعمر السابق.
ويستفاد من تحليل بنية هذا الخطاب أن هيئة الحقيقة والكرامة وجدت في مثل هذه الملفات الحساسة «هبة سماوية» حرصت على إثارتها بصورة دورية لشد انتباه الرأي العام.
ليس في نيتنا مناقشة صلاحيات الهيئة بخصوص الحفاظ على الذاكرة، أو اهتمامها بحرب بنزرت، وانشغالها بمصير الثروات الطبيعية الوطنية، ولكننا نرى كما يرى عديد الملاحظين في تنصيب الهيئة نفسها محكمة عليا تصدر أحكاما غير قابلة للطعن حول نوايا وقرارات هياكل دولة الاستقلال ورجالاتها، انزياحا عن القواعد الأخلاقية التي تتأسس عليها مهامها.
وإجلاء لهذه الحقيقة، سنحاول تفكيك الخطاب الحجاجي للهيئة :
توجد في صميم هذا الخطاب فكرة ثابتة تتردد في صيغ مختلفة مفادها أنّ الدولة التونسية أخلّت، تحت تأثير المستعمر السابق، بعد إمضاء اِتفاقيات الاستقلال الداخلي سنة 1955 بواجب الدفاع عن المصالح الوطنية. وتواصل هذا الإخلال بعد إمضاء بروتوكول الاستقلال الذي أقرّ الامتيازات الكبيرة التي منحت سابقا لفرنسا، ما «جعلها تتدخّل إلى اليوم، في توجيه الخيارات الوطنية في مجال استغلال المناجم والطاقة» .
إنّ هذه المزاعم، رغم افتقارها لأيّ أساس، لا يمكن أن تمرّ دون ردّ. ودون أن ندخل في جدل عقيم لا طائل من ورائه، فإنّنا نسوق، استنادا إلى وقائع تاريخية ثابتة، عددا من الملاحظات لتفنيد بيان هيئة الحقيقة والكرامة، وتفكيك أركانه:
1 - لا بدّ من الإشارة أولا، إلى أنّ «السبق الوثائقي» الذي تتباهى به الهيئة- والذي سبق أن أحدث -منذ سنة تقريبا- ضجّة في الأوساط الأكاديمية التونسية- لا يعدو أن يكون محض افتراء، لأنّه لا وجود لأرشيف فرنسي متاح يُهمّ تونس لا يَعرفه المؤرّخون التونسيون.
2 - فيما يخصّ الاتهامات التي وجّهتها الهيئة لدولة الاستقلال، فإننا لن نتوقف عند مسألة «بنزرت قاعدة نووية فرنسية» لأن مثل هذه الفرضية الساذجة والغريبة لا تستحقّ ذلك. وسنقتصر على مناقشة مسالة «التفريط» في الثروات الوطنية لصالح المستعمر السابق.
3 - لقد توصلت هيئة الحقيقة والكرامة إلى هذا الاستنتاج، بناء على تأويل موجه لاتفاقيّات الاستقلال الداخلي (3 جوان 1955) ، وخاصة للاتفاقية الاقتصادية والمالية التي تنصّ في الفصل 33 منها، على: «التزام الحكومة التونسية بمنح الأولوية للمؤسّسات التونسية أو الفرنسية في الحصول على رخص الاستكشاف والتنقيب (على الثروات الباطنية) في حال تساوي العروض».
و الواضح أننا لا نحتاج لعلم واسع لندرك أن هذا الفصل لا يُؤسّس لأيّ امتياز استثنائي. كما أنّه لا يهضم حق تونس في اللجوء للمنافسة الدولية لطلب أفضل العروض لاستغلالٍ ثرواتها. وبناء على ذلك فإن الأولوية لا تُمنح إلى المؤسّسات الفرنسية، إلاّ في حالة تساوي عروضها مع تلك التي يقدمها غيرها.
وعليه، فإنّ مقولة أنّ فرنسا تتمتّع حصريّا بامتياز استغلال الثروات الطبيعية التونسية ، تصبح دون معنى.
4 - وعلى فرض أننا اعتبرنا أنّ هذه الاتفاقيات لم تكن في صالح تونس، فالمعلوم للجميع أنها صارت مهجورة، ولفّها النسيان مباشرة بعد نشرها.
5 - بالعودة إلى موضوع الشركات المنجمية الفرنسية بتونس، نلاحظ أنّ هيئة الحقيقة والكرامة أساءت فهم الوقائع وتسلسلها الزمني ومحتوى الاتفاقيات التي تربط هذه المؤسّسات بالدولة التونسية؛ إذ ذهب في تصور الهيئة أنّ الاستغلال المنجمي انطلق سنة 1949 إثر صدور الأمر العلي المؤرخ في 13 ديسمبر 1948، الذي أقرّ تراتيب خاصة تهدف إلى التحفيز على استكشاف المناجم من قبل المؤسسات الفرنسية.
ومن المهم في هذا السياق وضع كرونولوجيا الاستغلال المنجمي في تونس في نصابها، باعتبار أن التشريعات التونسية في القطاع المنجمي لا تعود إلى سنة 1948، وإنما إلى سنة 1893. وقد وقع تدعيمها بالأمر المؤرخ في 15 جانفي 1896 ،الذي سحب حق التصرف في الملك العمومي على كل الأراضي الموات ( الجبال الجرداء والملاّحات والأراضي التي تحوي الفسفاط). ثم بالأمر الصادر في 29 ديسمبر 1913 والمتعلق بالمناجم.
يستفاد من ذلك أن أمر 13 ديسمبر 1948، لم يمنح أية امتيازات إضافية للشركات الفرنسية القائمة ولا لتلك التي سيقع إحداثها لاحقا، وإنماأقرّ تراتيب خاصة لتسهيل التنقيب واستغلال المعادن المصنفة في المجموعة الثانية (البترول) .
ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذا الأمر أصبح شبه مهجور بعد الاستقلال، تبعا لتنقيحه في إطار دعم حقوق تونس على ثرواتها الباطنية. وذلك في مناسبة أولى بمقتضى قانون 15 مارس 1958 الذي فرض على الشركات النفطية إتاوة ترتبط نسبتها بحجم الإنتاج. وحُدّدت عَتبتها الدنيا بالنسبة للمحروقات، بـ 15% من قيمة النفط الخام المستخرج، مع إتاوة أخرى تكميلية
تساوي نصف المرابيح التي تحققها الشركات النفطية من أنشطتها المرتبطة باستغلال النفط في تونس.
ثم جاء قانون 14 سبتمبر 1985 الذي أقرّ إجراءات جبائية جديدة، تضمن للدولة ريعا أكثر أهمية( إتاوة تتراوح بين 10 % و20 % وأداء على المرابيح قيمته بين 50 % و75 %).
وفي 17أوت 1999، وقعت المصادقة على مجلة المحروقات التي كرّست مبدأ اقتسام الإنتاج مناصفة بين الشركات الحاصلة على رُخص تنقيب واستغلال المحروقات، والشركة الوطنية للأنشطة البترولية.
6 - وقبل غلق ملف النفط، لا بد من القول أننا لم نفهم لماذا تعمدت الهيئة حشر قضية النفط المستخرج من «عين أميناس»الجزائرية وتصديره عبر ميناء الصّخيرة التونسي في ملف «اتهام» الدولة التونسية !؟
فالمعلوم أن هذا الحقل النفطي الواقع في الصحراء الجزائرية على بعد 260 كم من الحدود التونسية وقع اكتشافه سنة 1955 من قبل شركة فرنسية، في زمن كانت فيه الجزائر واقعة تحت الاستعمار الفرنسي. من هذا المنطلق لا يمكن أن تكون لتونس صلاحيات النظر في شروط استغلال هذه الحقل ولا في جنسية الشركة التي ستقوم بضخ هذا النفط عبر الصحراء التونسية إلى ميناء الصخيرة (شركة «ترابسا» (TRAPSA).
لذلك اقتصر الأمر على التفاوض سنة 1958 حول قيمة اتاوة عبور انابيب النفط وفق ما تقتضيه مصلحة البلاد.
ومع ان قيمة هذه الاتاوة لم ترتفع بين 1960 و1971- كما هو الحال في كل مناطق الشرق الأوسط المنتجة للنفط في تلك الفترة- فإنّ ذلك لا يمكن أن يكون ذريعة لتخوين القائمين على شؤون الدولة آنذاك كما يوحي بذلك بيان هيئة الحقيقة والكرامة.
7 - وحتى ننتهي من مسألة الامتيازات النفطية ،وجبت الإشارة الى ان الشركات الفرنسية لم تحصل على أي امتياز حصري او استثناء في هذا المجال كما تدّعي ذلك الهيئة، فالمعلوم لدى الملاحظين ان الشركة الإيطالية «ايني» (ENI) هي الرائدة في مجال النفط في تونس منذ سنة 1960. حيث أمضت سنة 1961 مع الدولة التونسية اتفاقية أفضت الى احداث الشركة الإيطالية–التونسية لاستغلال البترول «سيتاب» (SITEP) ،في إطار مناصفة بين تونس والشركة (50% من رأس مال الشركة لكل طرف) .
وقد شرعت شركة سيتاب منذ تلك السنة في عمليات الاستكشاف التي توّجت سنة 1964 باكتشاف حقل البرمة، الذي دخل طور الإنتاج في 1966. وظلّ أهمّ حقل نفطي في البلاد الى سنة 1971، تاريخ اكتشاف حقل «عشتارت» البحري في خليج قابس، والذي دخل طور الإنتاج سنة 1974 من قبل شركة «آلف –اكيتان» (ELF-AQUITAINE) .
في الأثناء، تنوعت أصناف الشركات المستغلّة للنفط التونسي بشكل ملحوظ. ففي سنة 2012 مثلا، كان قطاع المحروقات في تونس يعدّ 49 رخصة استكشاف، و54 امتياز استغلال أسندت إلى شركات عديدة من جنسيات مختلفة (شال-برتش غاز-آلف أكيتان-بيتروفاك-آيني-ميرتون أويل- وغيرها...). وكانت الشركة الوطنية «إيتاب» (ETAP) تستأثر بمفردها ب23 رخصة استكشاف.
ويستفاد من هذا التنوع أن تونس صارت بمنأى عن «احتكار المستعمر السابق لثرواتنا» كما تزعم هيئة الحقيقة والكرامة !
8 - بقيت مسألة الشركات المنجمية، فقد كانت هذه الشركات تحتكر قبل 1956 حوالي 42% من إجمالي رؤوس الأموال المستثمرة في تونس. وكانت تلك التي تستغلّ مناجم الفسفاط والحديد أهمّ هذه الشركات. وكان أغلبها يحظى بضمانات قانونية ومالية هامّة، تجعل عملية تأميمها مكلفة للغاية.
وقد مثّل ذلك- في الحقيقة- تحدّيا هاما للدولة الوطنية الناشئة التي كانت تواجه تراجعا كبيرا في الاستثمارات، زاده حدّة هروب رؤوس الأموال إثر الاستقلال.
من جانبها - وبحكم طبيعتها الاستعمارية- فإنّ الشركات المنجمية الفرنسية، التي كانت غالبية أنشطتها متركّزة في المناطق القريبة من الحدود الجزائرية، سارعت بالتقليص من استثماراتها جراء تصاعد الحركة النقابية وتحسبا لما قد يحدث من انفلات أمني بعد اندلاع الثورة الجزائرية، وكانت النتيجة أزمة اجتماعية حادّة.
ولم يكن في وسع تونس المستقلة التي كانت تتطلع لتطوير اقتصادها أن تتعامل مع إرث هذه الشركات بالشكل الذي كان عليه. فبادرت الدولة إلى تونسة أهمّ شركة فرنسية في القطاع، وهي شركة الفسفاط والسكك الحديدية بقفصة سنة 1960. والحقيقة أن هذا القرار اتّخذ منذ 1957، لكن تطبيقه تطلّب مسارا طويلا ومعقّدا، انتهى بمفاوضات مكّنت الدولة التونسية في
مرحلة أولى من 51 % من رأس مال الشركة. وقد سمح هذا «التأميم السّلس» بتغيير جنسية الشركة، ونقل مقرّها الاجتماعي من باريس إلى تونس، وتسمية عزّ الدين العبّاسي رئيسا مديرا عامّا وأحمد التليلي نائبا له. وأسندت للدولة التونسيّة نصف مقاعد مجلس إدارة الشركة وذلك في انتظار تأميمها التّام لاحقا.
هذا وستندرج بقية الشركات المنجميّة، في المسار ذاته وفي مرحلة لاحقة.
لقد حاولنا - من خلال هذا العرض السريع- تقديم بعض المعطيات التاريخية المقتضبة لإتاحة مقاربة أقل «تشنّجا» وأكثر شفافية للتاريخ الاقتصادي لبلادنا.
فمن المؤسف أن تعمد هيئة الحقيقة والكرامة -في إطار سعيها إلى تكريس قراءة موجهة للأحداث التاريخية- إلى تحريف الواقع و بناء ضرب من «الميث»، في تجاهل كامل للقواعد الأساسية للسردية التاريخية، ما أفضى إلى إنتاج خطاب تاريخي مضلّل تشوبه هنات منهجية كثيرة، لعل أبسطها التضارب الصارخ بين المنطلقات والنتائج، فضلا عن اجتزاء الوقائع والغموض المخل.
وليس خافيا على أحد أن الداعي لهذا «التاريخ-الموازي»، هو السخط الشديد الذي يدفع البعض إلى التعريض بنظام بورقيبة. والمرجح أن الهيئة لا تدرك أن المغالاة تضعف الحجة. لأنّه، وكما قال «تالايرون» (Talleyrand): «كلّ ما هو مبالغ فيه تافه».
.Tout ce qui est excessif est insignifiant
بقلم: نورالدين الدقي