فهو يتم وسط جدال هام وحادّ حول بعض المسائل المتصلة بالمساواة بين الرجال والنساء، ونعني بالطبع مسائل الإرث والمهر وغيرهما وهي تمثل تقريبا آخر العقبات التي تحول دون تمكّن نساء تونس من افتكاك المساواة في المجال القانوني. كما أنه يتمّ وسط انتظار ما ستسفر عنه أعمال «لجنة الحريات الفردية والمساواة»، التي بعثتها رئاسة الجمهورية بمناسبة الذكرى 61 لصدور مجلة الأحوال الشخصية، من نتائج بصدد المسائل المذكورة. ووسط هذا الجدل والانتظار تستعد القوى التقدمية لتجعل من 8 مارس هذه السنة فرصة للحسم مع التشريعات التمييزية وإعلان المرأة التونسية متساوية في الحقوق مع الرجل لتبدأ المعركة الجديدة والأهم معركة المساواة في الواقع لا في القانون فقط.
خطوات على طريق التحرر...
لقد قطعت نساء تونس خطوات مهمة على طريق فرض الاعتراف بحقوقهن، ولكنهن لم يستكملن بعد هذه الطريق. فمظاهر الميز بسبب الجنس/النوع الاجتماعي، ما تزال قائمة في أكثر من مجال. ولا يمكن الاعتقاد بأن هذه المظاهر ستزول بشكل عفوي أو بمنّة من «نداء» تونس أو من حركة النهضة الإخوانية، بل إن ذلك سيتطلّب جهدا وتضحية من نساء تونس ومن قواها التقدمية للانتصار على قوى الردّة والمرور بمجتمعنا إلى مرحلة جديدة يكون فيها ضمان نفس الحقوق للرجال والنساء جزءا من ثقافة هذا المجتمع وعنصرا من عناصر هويته. ولا نخال نساء تونس وقواها التقدمية إلا قادرة، الآن وهنا، على بذل هذا الجهد وتقديم هذه التضحية ومن ثمة قطع الخطوة الحاسمة التي ينبغي قطعها وكسب معركة المساواة. ويوجد في تاريخ بلدنا خلال الفترات السابقة ما يؤكد ما ذهبنا إليه. كما يوجد من الشروط في واقعنا الراهن ما يجعل الانتصار أمرا ممكنا.
إن معركة الدستور التي تلت إسقاط الدكتاتورية ما تزال حية في الأذهان. لقد بينت هذه المعركة أن نساء تونس وقواها التقدمية قادرة على المواجهة وعلى فرض إرادتها بما يحقق أهداف ثورتنا ويدفع مجتمعنا إلى مزيد التمدّن. لقد فشلت حركة النهضة وحلفاؤها من سلفيين ومحافظين رجعيين في الالتفاف على مكاسب المرأة التونسية والعودة بمجتمعنا إلى الوراء. لقد حاولوا استبعاد مفهوم المساواة من الدستور وتعويضه بمفهوم «التكامل» القائم على الحفاظ على نفس التقسيم الجنسي التقليدي بين الرجل والمرأة. وتصدى الشارع لهم وهزمهم. كما حاولوا فرض الشريعة أي المنظومة الفقهية التقليدية، مرجعا رئيسيا للتشريع في تونس ليكون ذلك مدخلا أساسيا للتصدي لأية خطوة تقدمية تخطوها بلادنا بل ولمراجعة كل خطوة سابقة وإلغائها بدعوى أنها مخالفة للشريعة. وفشلوا في ذلك أيضا وصدر الدستور ناصّا على مبدأ المساواة بين الجنسين وعلى مدنية الدولة وإلزامها باتخاذ كل الإجراءات الضرورية للقضاء على مختلف مظاهر الميز الجنسي/النوعي الاجتماعي، المبثوثة في التشريعات التونسية وخاصة منها التي تهم الزواج والعائلة.
ولم تكن هذه المرة الأولى أو الوحيدة التي تخسر فيها القوى الماضوية معركة من معاركها المتكررة من أجل الالتفاف على حقوق النساء في بلادنا. ففي عام 1985، وبعد سنوات من الدعاية ضد مجلة الأحوال الشخصية وشيطنتها، دعت حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا) بمناسبة الذكرى الرابعة لتأسيسها وعلى لسان عبد الفتاح مورو، إلى تنظيم استفتاء
حول مجلة الأحوال الشخصية بهدف مراجعة البنود التحررية التي تتضمنها والتي تعتبرها الحركة منافية للشريعة الإسلامية (منع تعدد الزوجات، إقرار حق المرأة في اختيار شريك حياتها، وفي طلب الطلاق مثلها مثل الرجل، إقرار التبني الخ...).
ولكن ردة فعل القوى الديمقراطية والتقدمية جعلت الحركة تتراجع عن دعوتها بل وتتبرّأ مما جاء على لسان أمينها العام. وفي وقت لاحق، حاولت الحركة استهداف مبدأ التبني، وتعويضه بمفهوم الكفالة الذي يحرم المكفول من الحقوق التي يتمتع بها المتبنّى، وكانت وقتها حركة النهضة في «صحفة العسل» مع بن علي الذي أيدت انقلابه واعتبرته «منقذا لتونس». وكان هو ذاته مترددا وقد تكون راودته فكرة تقديم هذا التنازل لحركة النهضة. ولكنها فشلت في هذه الخطوة أيضا.
أعداء المساواة خسروا كل المعارك...
إن «الإخوان» وأبناء عمومتهم من أعداء المساواة فشلوا في كل المعارك التي دارت حول حقوق المرأة في تونس واضطروا في كل مرة إلى التراجع رغم أنهم جعلوا من معارضة مجلة الأحوال الشخصية جزءا من هويتهم ومن إسقاطها هدفا أساسيا من بين أهدافهم المعلنة والخفية.
إن هذا كله دليل على أن الخطوات التي خطتها بلادنا في مجال الإصلاح الاجتماعي ليست مسقطة من فوق، كما يدعي أعداء التقدم، بل هي نابعة من تحولات عميقة اعتملت وما تزال تعتمل داخل مجتمعنا وهيئته وما تزال تهيئه لتجاوز هذا المظهر أو ذاك من مظاهر التخلف، ولا نخال هذه التحولات إلا قد ازدادت إلحاحا بعد الثورة التي ساهم فيها النساء بشكل نشيط.
وإذا كانت نساء تونس وقواها التقدمية قد تمكنت في وقت سابق، سواء في عهد الدكتاتورية أو لاحقا في فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة، من إفشال أهم المناورات التي استهدفت حقوق المرأة، فلا نخالها إلا أقدر اليوم على تحقيق المزيد لاستكمال المساواة القانونية بين الجنسين والتصدي لممانعة حركة النهضة وتردد القوى البورجوازية الليبرالية التي تخضع القضايا المبدية للحسابات السياسوية الضيقة. وليس أدل على ذلك من التمديد في أعمال لجنة الحريات الفردية والمساواة إلى ما بعد الانتخابات البلدية بعد أن كان من المقرر أن تقدم نتائج أعمالها في شهر فيفري المنصرم. فهذا التمديد لا تفسير له غير الحسابات الانتخابية الضيقة سواء في هذا الاتجاه أو ذاك. فالرئاسة تخشى ردة فعل النساء الانتخابية إذا كانت مقترحات اللجنة هزيلة، لا تحقق المساواة في الإرث ولا تلغي المهر ولا تعدل في مسألة اللقب العائلي الخ... وهي تخشى من جهة أخرى أن تستغل حركة النهضة أي إجراء جريء تقرّه اللجنة لتتهم «نداء تونس» بـ»الاعتداء على تعاليم الإسلام».
إن القوى الثورية والتقدمية مطالبة في اللحظات الحاسمة أن تكون جريئة وأن تتحمل مسؤوليتها بالكامل وتقف إلى جانب نساء تونس في آخر خطوة لتحقيق المساواة التامة في الحقوق. وهنا لا ينبغي الاعتقاد أن المعركة من أجل المساواة في الإرث أو من أجل إلغاء مؤسسة المهر وغير ذلك من مظاهر الميز أو اضطهاد النساء هي أصعب من المعارك السابقة ضد تعدد الزوجات وضد التطليق ومن أجل الحفاظ على مؤسسة التبني الخ... لقد استعملت القوى الظلامية والرجعية في كل هذه المسائل نفس «الحجج» التي تستعملها اليوم لتبرير اضطهاد النساء وتأبيد استعبادهن وإبقائهن في وضع دوني. ففي الدفاع عن تعدد الزوجات استنجدت تلك القوى بـ»الدين» معتبرة أن «ما أحلّه الله لا يحرّمه البشر». كما استنجدت بـ»الأخلاق» مدعية أن في تعدد الزوجات «درءا للزنا». وفي النهاية استنجدت بـ»العلم» زاعمة أن الرجل أكثر «شهوة جنسية» من المرأة وأن هذه الأخيرة أقدر على التحكم في غرائزها من الرجل، جاعلين من الرجل في نهاية الأمر حيوانا جنسيا لا تحركه إلا الغرائز البدائية.
وفوق ذلك كله لا ينبغي الاعتقاد أن ظروف اليوم أصعب من ظروف الأمس التي مُرّرت فيها مجلة الأحوال الشخصية مثلا. ففي واقع اليوم توجد عوامل قوة يمكن أن تدفع نحو استكمال ما تبقى من خطوات لتحقيق المساواة القانونية بين النساء والرجال. ومن بين هذه العوامل هو أننا أنجزنا ثورة شاركت فيها النساء بقوة. وأن وعي اليوم بقضايا المساواة أهم بكثير من وعي 1956 بحكم تمدرس النساء وتطور خروجهن إلى الشغل ومساهمتهن المتميزة في مختلف الميادين الثقافية والرياضية والعلمية. وأن لنا شبابا يحرّكه طموح كبير للتحرر والقطع مع العادات والتقاليد البالية التي تحد من حريته ومن حقوقه الإنسانية. وإلى ذلك كله فنحن لنا دستور صوتت عليه أغلبية ساحقة بما فيها نواب حركة النهضة وهو يقرّ المساواة التامة في الحقوق. كل هذا في المستوى المحلي. أما على الصعيد العالمي فإن التوجه العام هو اليوم مع المساواة وضد التمييز. فقد أصدرت الأمم المتحدة عدة مواثيق واتفاقات تدين التمييز بسبب الجنس وتدعو الدول إلى القضاء عليه بل إن مقاومة التمييز أصبحت أحيانا من المعايير التي تُحكِّمُها الهيئات الدولية والعديد من الدول والمؤسسات الإقليمية في معاملاتها.
الوقت مناسب لفرض المساواة...
إن الوقت مناسب اليوم لتحقيق المساواة في الحقوق. ومن واجب نساء تونس وقواها التقدمية أن تكون لها الجرأة بهذه المناسبة، مناسبة اليوم العالمي للنساء بأن تصرخ بصوت واحد: «كفى ميزا وقهرا ومهانة لنساء تونس... المساواة في الحقوق الآن وهنا». ولا بد من إدراك أن المساواة في الحقوق، على محدوديتها، تمثل خطوة ضرورية وبالغة الأهمية على طريق تحرير نساء تونس. فهي توفّر لهن أرضية مناسبة للمطالبة بتحويل تلك الحقوق من نصوص قانونية إلى واقع. وهو ما سيفتح لهن الباب على مصراعيه لإدراك طبيعة المعارك الجديدة التي سيخضنها ضد العقلية الذكورية وهي معارك مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنضال ضد الرأسمالية المتوحشة القائمة أصلا على التمييز بين البشر وعلى اللامساواة. وعليه فبقدر ما تكون المساواة القانونية تامة وفي مختلف المجالات تكون الصورة أوضح وأدق.
وإنه لمن الخطأ الجسيم بل من الطفولية القاتلة اعتبار معركة المساواة في الحقوق معركة لا تهم غالبية نساء تونس بل الأقلية البورجوازية منهن بدعوى أن النساء الكادحات والفقيرات يهمهن أولا وقبل كل شيء مصالحهن الاقتصادية والاجتماعية. إن المساواة في الحقوق هي معركة العاملات والكادحات والفقيرات أيضا وأساسا لأنهن الأكثر عرضة للميز والاضطهاد من النساء الثريات القادرات بحكم سلطتهن المادية على تجاوز العديد من العراقيل القانونية التي تعترضهن. إن المرأة الريفية مثلا التي تعمل في الحقل العائلي معنية بالمساواة في الإرث أكثر من بنت جنسها الثرية التي يمكنها أن تحصل بأكثر سهولة على ما يضمن مستقبلها ويقيها من الفقر والجوع ويمنحها شيئا من الاستقلالية التي تمكنها مثلا من اتخاذ قرار الطلاق في صورة عدم التفاهم مع زوجها.
المساواة في الحقوق ولا شيء أقل من المساواة في الحقوق. هذا ما سيدفع نساء تونس إلى الأمام ويطوي صفحة من صفحات تاريخ اضطهادهن الطويل ويلحق بلدهن نهائيا بركب المدنية الحديثة. فلا حرية بلا نساء متحررات ولاديمقراطية بلا نساء يشاركن في الشأن العام وفي اتخاذ القرار ولا نهوضا اقتصاديا بلا نساء يساهمن في إنتاج الثروة ولا عدالة اجتماعية بلا نساء يتمتعن باستقلاليتهن المادية وبحقوقهن الاجتماعية كاملة ولا تحريرا حقيقيا للنساء دون تحريرهن من أعباء شغل البيت ومن تحمل مسؤولية تربية الأطفال بمفردهن.
فيا نساء تونس خذن أمركُنّ بأيديكن فلا أحد أقدر منكن على افتكاك حريتكن فلا تتركن بابا من أبواب النضال لا تطرقنه.
إلى الأمام من معركة إلى معركة حتى تحريركن الكامل الذي سيعلن نهاية حقبة طويلة من الوحشية.
إن الأحرار من أبناء بلدكن الذين لا يرون من معنى لإنسانيتهم دون إقرار المساواة التامة والفعلية بين الجنسين، لا موقع لهم إلا معكن.
إنّ ذا عصْرُ ظُلْمَةٍ غير أَنِّي
من وراء الظلام شِمْتُ صباحَه