الحدث الابرز على المستوى العالمي. وقد صدرت النسخة الانقليزية سنة 2014 قبل أن تصدر الطبعة الفرنسية في سبتمبر 2015 عن دار Albin Michel في باريس ومنذ صدوره يتصدر هذا الكتاب قائمة المبيعات على المستوى العالمي إلى يومنا هذا ليصبح ظاهرة عالمية لم تعرفها دور النشر وصناعة الكتاب منذ عقود طويلة .
وحكاية هذا الكتاب وكيف تحول إلى best seller أو من أهمّ الكتب المباعة في العالم فيها الكثير من الطرافة.فكاتب الكتاب لم يكن من المؤرخين أو الجامعيين والباحثين الذين لهم شأن قبل صدور كتابه .وبدأت حكاية هذا الكتاب عندما طالب طلبة إحدى الجامعات في تل أبيب إدارة الجامعة بمدرس حول تاريخ الإنسانية. فقد انتقد الطلبة غياب هذا النوع من الدروس التي تساهم في التكوين الشخصي وثقافتهم وطالبوا بالتالي بإضافة هذا النوع من الدروس في تحصيلهم الدراسي إلى جانب الدروس العلمية والتقنية الأخرى.
وقررت إدارة الجامعة تلبية طلب الطلاب عن مضض باعتبار ضعف إمكانياتها ولتلبية هذا الطلب دون ضغط مالي كبير قررت الجامعة الاتصال بجامعي شاب ومغمور يمكنه القيام بهذا الدرس حول تاريخ الإنسانية دون المطالبة بمبالغ خيالية.
وتم الاتصال بيوفال هاراري الذي قبل هذه المهمة وأخذ المسألة بالكثير من الجدية وقام في فترة قصيرة بإعداد برنامج أثار إعجاب الطلبة ليصبح هذا الدرس قارا في برنامج التعليم الخاص بالمتابعين للعلوم الصحيحة.
وبعد سنوات من إعطاء هذا الدرس قرر الجامعي يوفال هاراري إصداره في كتابه في أول نسخة سنة 2011.إلا أن صدوره باللغة الانقليزية سنة 2014 سيكون وراء الشهرة الكبيرة التي سيعرفها هذا الكتاب منذ صدوره وترجمته إلى العديد من لغات العالم .وفي الحقيقة لابدّ من الإشارة إلى صورة عابرة ساهمت في شهرة هذا الكتاب. فقد نشرت بعض وسائل الإعلام صورة للرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما يحمل تحت إبطه هذا الكتاب مما ساهم مساهمة كبيرة في التعريف به.
إلا أنه وبالرغم من هذه الحادثة فإن شهرة ونجاح هذا الكتاب ترجع إلى قدرة الكاتب يوفال هاراري على إعطاء تلخيص هام لتاريخ الإنسانية في كتاب أصبح مرجعا وفي أقل من 600 صفحة. وقد دافع الكاتب على فرضية مهمة وهي أن ذكاء الإنسان مكنه على مدى القرون من تطوير حياته نحو الأفضل ومن القيام باكتشافات علمية وتقنية هامة كبيرة ساهمت في تحسين ظروف المعيشة . ولعلّ نجاح هذا الكتاب يكمن أيضا في قدرته على قراءة التاريخ الإنساني وتجميعه في ثلاث مراحل كبرى وهي الثورة المعرفية ،الثورة الفلاحية والثورة العلمية. وقد نجح في جعل قراءة هذا التاريخ ممتعة من خلال إضافة بعض الحكايات البسيطة لتأثيث كبرى هذه المراحل التاريخية.
ويمكن كذلك أن نفسر نجاح هذا الكتاب والرقم القياسي للمبيعات التي حققها في الحاجة الملحة لدى القراء التي ساهم في تغطيتها وهي العودة إلى القضايا الكبرى والتطورات التاريخية المهمة .فهيمنة القضايا اليومية والمشاغل الذاتية وسرعة التحولات التقنية وسيطرة اللحظة والآنية المفرطة خلقت حاجة فكرية جديدة عند القراء وهي العودة إلى القضايا الكبرى والإشكاليات الجوهرية والتاريخية لفهم واقعنا ومحاولة إيجاد الإجابات الضرورية على التساؤلات الكبرى والمخاوف الكبرى التي تعرفها الإنسانية اليوم .
ولئن بدأنا هذا المقال بالحديث عن الجامعي يوفال هاراري فلأن كتابه الجديد والذي صدر منذ أسابيع في نسخته الفرنسية عن دار Albin Michel تحت عنوان « Homo-Deus une brève histoire de l’avenir» و من هذه النوعية من الكتب والمساهمات والتي تطرح التساؤلات الكبرى وتسعى إلى إيجاد بعض الإجابات حولها .
عرف هذا الكتاب الجديد في الأسابيع الأولى لترويجه نجاحا كبيرا وتمت ترجمته إلى اغلب اللغات في العالم .وقد ذكر هذا النجاح بالرواج والإقبال الكبير الذي عرفه الكتاب الأول .ومن أسباب نجاح هذا المؤلف الجديد هو اهتمامه بقضية أثارت الكثير من النقاشات وأسالت الكثير من الحبر وتهم مسألة مستقبل الإنسان في ظل التحولات التكنولوجية الكبرى التي يعرفها العالم .وهذا النقاش والصراع حول مستقبل الثورة المعلوماتية في الحقيقة ليس بالجديد.فقد شهد الكثير من المساهمات والكتب الهامة في السنوات الأخيرة .إلا أن كتاب يوفال هاراري الأخير ساهم في خروجه من دائرة المختصين والخبراء وإدخاله إلى دائرة النقاش العامة .ومن ناحية ثانية ساهم هذا المؤلف إلى جانب عديد المساهمات الأخرى في إخراج إشكالية مستقبل الثورة المعلوماتية من جانبها التقني والفني وإعطائها جانبا فلسفيا وأخلاقيا كان غائبا .
ولكن قبل الخوض في هذا النقاش الفلسفي والذي يخص مستقبل الإنسان دعونا نعود ولو بسرعة إلى أهم مراحل الثورة التكنولوجية التي نمر بها اليوم .وقبل هذه الثورة المعلوماتية عرف العالم ثورتين تكنولوجيتين - الثورة الأولى ظهرت في نهاية القرن 18 عشر مع ظهور المحركات البخارية والذي سيقود الثورة الصناعية في المجتمعات الأوروبية هذه الثورة دورا هاما في تطور النظام الرأسمالي في المراكز الأوروبية ثم في المستعمرات .
أما الثورة التكنولوجية الثانية فستنطلق في نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور التيار الكهربائي والمحرك الانفجاري (moteur à explosion).وقد ظهرت عديد الاكتشافات الأخرى خلال هذه الثورة اذكر منها الهاتف والراديو والسيارة والآلات المنزلية والآلات الفلاحية .وقد لعبت هذه الثورة التكنولوجية والاكتشافات التي صاحبتها دورا أساسيا في تطوير النظام الرأسمالي من خلال تحسين الإنتاجية وساهمت في ظهور العصر الذهبي لهذا النظام خاصة اثر الحرب العالمية الثانية.
أما الثورة التكنولوجية الثالثة فهي الثورة المعلوماتية التي نعيشها اليوم .وقد عرفت هذه الثورة أربع مراحل أساسية لتصل إلى العالم الجديد الذي نعيشه اليوم البدايات كانت في بداية السبعينات مع ظهور الحواسيب الشخصية أو les micro ordinateurs ودخولها إلى البيوت منذ بداية التسعينات .كما ستعرف هذه الفترة كذلك ظهور الانترنات ( Internet) أو الشبكات الالكترونية.
إلا أن هذين الاكتشافين كانا منفصلين ولن يحصل الربط بينهما إلا في بداية المرحلة الثانية للثورة التكنولوجية أي في بداية التسعينات وسيكون هذا الربط وراء ظهور الشبكات الاجتماعية. كما ستعرف الثورة التكنولوجية نسقا تصاعديا اكبر في بداية الألفية مع ربط هذه الاكتشافات الثلاثة مع بعض أي الحاسوب والانترنات والهاتف الجوال .
وكانت هذه الابتكارات وراء ظهور عديد التطورات الكبرى كالتجارة على النات أو e-commerce وظهور الشبكات الاجتماعية الجديدة أو web20 مع ظهور الفايسبوك سنة 2004 ويوتيوب سنة 2005 وتويتر سنة 2006 وانستاغرام (Instagram) سنة 2010.
وستعرف هذه الثورة التكنولوجية مرحلة جديدة مع ربط أجهزة الهاتف الجوال مع الانترنات والموسيقى والصورة والفيديو مع ظهور أول هاتف ذكي أو Smartphone من صنع Apple او Galaxy Iphone من صنع الكوري Samsung.
ولكن الهام في هذه الثورة التكنولوجية هو التطور الكبير الذي سيعرفه الذكاء الاصطناعي والذي سيبرز في روبوات (des robots) أو إنسان ألي- وستشهد هذه الآلات على مدى السنوات المنصرمة تطورات كبيرة لتحوز إعجاب الكثيرين لقدرتها على القيام بأكثر الأعمال الإنسانية تعقيدا ودقة.
وستكون هذه التطورات التكنولوجية ونتائج الثورة المعلوماتية وراء تساؤلات ونقاشات فلسفية كبرى.وقد تابعت هذه النقاشات منذ سنوات باهتمام كبير وكثير من الشغف عديد الكتب خلال السنة المنصرمة في هذا المجال اذكر منها إلى جانب كتاب يوفال هاراري على الأقل ثلاث كتب هامة وهي كتاب : Laurence devillers تحت عنوان
«Des robots et des hommes Mythes, fantasmes et réalités» والصادر عن دار النشر Plon سنة 2017 والثاني للعالم Jean –Gabriel Ganascia بعنوان
«Le mythe de la singularité-Faut-il craindre l’intelligence artificielle »
عن دار النشر Seuil والثالث للكاتب Gérard Berry بعنوان «L’hyperpuissance de l’informatique» عن دار النشر Odile Jacob والمختصة في الكتب حول المسائل العلمية .
ماذا تقول لنا هذه الكتب والنقاشات الحامية الوطيس والدائرة بين كبار المفكرين والفلاسفة حول نتائج الثورة المعلوماتية . المسألة الأولى والتي يتفق حولها الجميع أن هذه التطورات التكنولوجية التي تعيشها الإنسانية هي نتيجة حتمية لطموح الإنسان بل قل هوسه لبلوغ السعادة ودرجة عالية من الكمال .وقد جعل من العلم والتكنولوجيا عبر تاريخ الإنسانية الطويل أدواته لبلوغ هذه المراحل ولعل السر الدفين للإنسان هو ليس فقط بلوغ الكمال بل تحدي الموت ووصول إلى درجة من الخلود تجعله اقرب إلى مكانة الالاه الخالق.وقد حملت فلسفة الحداثة عنه بعض مفكريها وفلاسفتها الراديكاليين هذا الأمل والمبتغى والذي سيكون وراء النقد الذي سيوجهه ناقدو الحداثة كنيتشه وهيدغر.
أما النقطة الثانية التي يشير إليها هذا النقاش فهي التطور الكبير الذي ستحدثه الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي من خلال ظهور الآلة ودخولنا لعصر جديد هو عصر الآلة التي ستنهي دور الإنسان باعتبار قدرتها على انجاز كل المهام التي كان يقوم بها .
وهنا سيكون بؤس هذا المسار الإنساني فوراء محاولته بلوغ درجة الكمال والخلود وتحدي الموت والقرب من صورة الخالق يصل إلى نفق الإنسانية من خلاله قبوله دخول عصر الآلة وانتهاء الإنسانية .
وكي نعود إلى كتاب يوفال هاراري والجدل الكبير الذي أثاره يعود إلى تأكيده إلى أن الإنسانية من خلال هذه الثورة التكنولوجية هي في طريقها لبلوغ مرحلة «Homo Deus» أو «الإنسان الاه» من خلال دخولها إلى مرحلة عصر الآلة حيث يرتقي الإنسان إلى الكمال والخلود من خلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي .
ويشير يوفال هاراري إلى ثلاثة احتمالات ممكنة لتطور الإنسانية على ضوء نتائج الثورة التكنولوجية - الاحتمال الأول هو قدرة الروبوات او الآلات الذكية على التخلص من هيمنة الإنسان لتتمكن في فترة لاحقة من استعباده ووضعه تحت تصرفها .وسيكون في هذا السيناريو نهاية الإنسان- الاحتمال الثاني هو قدرة الإنسان على مواصلة مسكه وهيمنته على التطورات التكنولوجية القادمة ليصل إلى درجة كبيرة من الكمال .أما السيناريو الثالث فهو الاحتمال الوسط وهو الخلط بين الإنسان والآلة التي خلقها لنوجد عالما جديدا نتيجة هذا التوافق .ويبقى السؤال الأساسي والمركزي الذي تطرحه هذه النقاشات تحوم حول مستقبل الإنسان بعد دخولنا عصر الثورة المعلوماتية وقدرة الآلة على الاستقلال بنفسها لتخضع الإنسان لإرادتها وهيمنتها وتنهي بالتالي الإنسانية والأحاسيس والآمال التي حملتها منذ البدايات لتغيير العالم لتجد نفسها سجينته.
تطرح الثورة المعلوماتية تساؤلات كبرى وأساسية حول مستقبل العالم والإنسانية ولكن يرى الكثيرون أن دخولنا عصر الآلة ونهاية الإنسان هي أسطورة بعيدة المنال لان الآلة لا يمكنها الاستقلال بنفسها وستبقى حبيسة الإرادة الإنسانية ،فانه لابد لنا من طرح هذه الأسئلة ووضع خاصة أدوات المراقبة الجماعية والاجتماعية حتى لا يتحول حلم الإنسانية في بناء المجتمع الأفضل إلى السراب وللخراب .