جدول اعماله « تقييم مسار وثيقة قرطاج ومشاركتنا في الحكومة « وكعادته كهيئة مركزية لحزب مسؤول سوف تشهد مداولاتها نقاشا حرا ومعمقا حول افكار متنوعة ومتعارضة في جزء منها تصب كلها في اتجاه واحد وهو البحث عما هو مفيد للمصلحة الوطنية . وقد سبق لنا في مناسبات مماثلة أن تقدمنا بمثل هذه المساهمات العلنية لإثراء النقاش وتعميق تبادل الرأي في حاضر ومستقبل بلادنا، يدفعنا الى ذلك الرغبة في تشريك اصدقاء الحزب والرأي العام الوطني في الاهتمام بالمقاربات والأفكار التي يتم تداولها داخل حزب المسار والتي تتمحور كلها حول هاجس يشترك فيه جميع مناضليه على اختلاف وجهات النظر وهو هاجس البحث عن الموقف الملائم لخدمة المصلحة الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا.
في خصوصيات المرحلة التي تمر بها بلادنا
تتهيكل الحياة السياسية في النظم الديمقراطية المكتملة حول نتائج الانتخابات فتكون الشرعية الانتخابية هي المحدد الوحيد الذي تبنى عليه منظومة الحكم وتتحدد بمقتضاه نوعية الحكومات حيث تسير الأمور إما من طرف الحزب الأغلبي او من طرف ائتلاف من الأحزاب. اما في المراحل الانتقالية مثل التي تعيشها بلادنا فان هذه الشرعية الانتخابية وحدها ليست كافية وان كانت لازمة وهذا بالضبط هو المعنى السياسي لمبادرة رئيس الدولة التي أطلقها يوم 2 جوان 2016 في دفع البلاد نحو المسار التوافقي حيث تم المزج بين المعطى الانتخابي والمناخ الاجتماعي والوضع السياسي و الذي افضى الى وثيقة قرطاج وتكوين حكومة الوحدة الوطنية لتنفيذه وبهذا المعنى فان هذا المسار التوافقي يبقى ضمانة اساسية للاستقرار السياسي وله اهمية تاريخية في تامين المرحلة الانتقالية واستكمال مهامها بحيث يكون موقف الدعم لحكومة الوحدة الوطنية هو وفاء للتمشي التوافقي و التزام بالمساهمة في توفير الاستقراروالمناخ الملائم لإنجاح استحقاقات الانتقال الديمقراطي.
ومن المفيد التذكيرهنا بان حزب المسار كان قد تقدم الى رئيس الدولة بمبادرة في هذه الاتجاه في شهر أفريل 2016 تدعو الى مؤتمر وطني للإنقاذ وكان ذلك اثر احباط الهجوم الارهابي على مدينة بن قردان ( مارس 2016) الذي بين ان مخططات الجماعات الارهابية وبعد الضربات الموجعة التي نفذتها -بسهولة عجيبة تثير الانشغال- في متحف باردو في مارس 2015 وفي النزل السياحي بسوسة في أواخر شهر جوان 2015 ثم في شارع محمد الخامس بالعاصمة في شهر نوفمبر 2015 اصبحت تستهدف مباشرة سيادة البلاد و حرمتها الترابية. كما يجب التذكير أيضا بان تلك التحديات الارهابية حدثت في ظرف عام اتسم بوضع اقتصادي متدهور وانخرام في الموازنات المالية للدولة والذي كان ينذر بالإفلاس المالي. أما العلاقات الاجتماعية فقد كانت متوترة ومبنية على التصادم والمراوغة والابتزاز اضافة الى حالة الشلل السياسي الذي بلغ ذروته مع ما شهده حزب حركة نداء تونس وهو الحزب الفائز في الانتخابات من انقسامات وشقوق وتجاذبات علنية تقودها المصالح الجانبية المعلنة والخفية و تغذيها الطموحات الفردية والصراعات الزعاماتية التي تصدرت المشهد الاعلامي واستعملت فيها الشتائم والتنابز وحتى الهراوات و كانت لها نتائج مدمرة على هيبة الحزب ونالت من علاقات الثقة والمصداقية مع شرائح واسعة من الرأي العام ومن بين ناخبيه وأضرت بهيبته و منعته من اداء وظيفته في المشهد الوطني كعنصر استقرار يبعث على الثقة والاطمئنان على قدرته في القيام بدوره لقيادة الحكم وفي نفس الوقت تتكاثر الاشارات الآتية من مونبليزير بعضها عادي ومشروع وأكثرها مفتعل تجتهد في اظهار حزب حركة النهضة امام الرأي العام الوطني ولدى شركاء بلادنا في الخارج بأنه الحزب المتماسك والمنسجم والمؤهل لقيادة البلاد وتتعدد التعليقات التي تكاد لا تخفي الشعور بالابتهاج والارتياح لشخصيات مؤثرة في الأوساط القيادية لهذا الحزب ويتم الحديث هنا وهناك وبكثير من التباهي على ان كتلته النيابية متراصة الصفوف وأصبحت تتبوأ المرتبة الأولى في مجلس نواب الشعب وفي مقدورها تعيين وإقالة الحكومات ولولا تغلب خيار الانخراط في التمشي التوافقي الذي فرضته القيادة المركزية لهذا الحزب لتطورت الاوضاع الى الانسداد السياسي.
مشاركة سياسية مفيدة للبلاد يؤكد من خلالها حزب المسار التزامه بالأولويات الوطنية
اتت المبادرة الرئاسية لتقدم بديلا سياسيا لإدارة الحكم لا يقتصر على شرعية نتائج الانتخابات التشريعية ولكنه لا يتجاوزها وإنما يضيف اليها شرعية التوافق بنفس الروح وان كان في ظروف مغايرة للحوار الوطني الذي اوصل البلاد الى انتخابات 2014. وهو ما يفسر التفاعل الايجابي الذي وجدته لدى المنظمات الاجتماعية ولدى قطاعات واسعة من الرأي العام وقد انخرط حزب المسار بحماس في هذا التمشي التوافقي و ساهم بفعالية في صياغة وثيقة قرطاج وفي تحديد محتوياتها على ضوء الاولويات الوطنية وشارك في حكومة الوحدة الوطنية ليتحمل مسؤوليته ويقدم مساهمته في اخراج البلاد من الوضعية الصعبة التي تكبلها يدفعه في كل ذلك الشعور بالمسؤولية ووضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار ونكران المصالح الحزبية الضيقة وهي كلها قيم تتماشى تماما مع خطه السياسي وتنسجم مع قراءته لمتطلبات المرحلة. يشارك حزب المسار في حكومة وحدة وطنية لها حيز هام من حرية المبادرة ومن الاستقلالية عن الاحزاب في تركيبتها وفي برنامج عملها وفي مبادراتها وهو ما اهلها لوضع الأولويات التي حددتها وثيقة قرطاج في جدول الأعمال وحققت انجازات نذكر منها:
1 -مواصلة دعم المجهود الأمني والعسكري لمكافحة الارهاب وتحقيق انجازات نوعية لتفكيك شبكاته ونسف خلاياه ومحاصرة تحركاته .
2 -اعلان الحرب على الفساد والتقدم بخطوات ملموسة وبمبادرات جديدة في المجال التشريعي و العمل الرقابي والبحث القضائي لمحاصرة ظاهرة الفساد والتي وضعت المجموعة الوطنية امام خيار الدولة ام الفساد.
3 - الدفع نحو تحسين الوضع الاقتصادي وتوفير الشروط لعودة الاستثمار ويجمع الخبراء على انه بالرغم من توتر الوضع الاجتماعي وتشنج الممارسة في الوضع السياسي فان المؤشرات الأساسية للوضع الاقتصادي في البلاد تفتح آفاقا متفائلة وان الموازنات المالية للدولة في طريقها نحو الاستقرار وان حالة الاوضاع الصعبة التي وجدتها حكومة الوحدة الوطنية يتم تجاوزها بخطى ثابتة ولو بشيء من البطء . ولا بد من الوعي ان جزءا من المخاطر اصبحت وراءنا وعلينا أن نتفهم ان القرارات المؤلمة التي تحمل أعباءها الجزء المنظم من الاقتصاد وكذلك المساهمات الاضافية التي فرضت على الاجراء وأعوان الوظيفة العمومية التي تضمنها قانون المالية للسنة الحالية - انما هي اجراءات ضرورية لتفادي ما هو اكثر وجعا اذا تواصل نهج الاعتماد على التداين الخارجي لشراء السلم الاجتماعي. غير ان ذلك لا يعفي الحكومة من واجب الاجتهاد في اقرار اجراءات مرافقة ناجعة تخفف من انعكاسات هذه الاجراءات على الفئات الضعيفة وكذلك على الشرائح المتوسطة التي تشهد انحدارا نحو الأسفل والتي تقع عليها مسؤولية ترسيخ الديمقراطية الناشئة وحماية الدولة المدنية.
3 -حسن ادارة علاقة الشراكة مع المنظمات الاجتماعية بتوخي سياسة الحوار أخذا بعين الاعتبار لما تستوجبه هذه الشراكة من توافقات والتزامات متبادلة وهو ما يشير الى ان حكومة الوحدة الوطنية تدرك جيدا ان انخراط المنظمات الاجتماعية في وثيقة قرطاج تعتبره ضمانا اساسيا لتحقيق الاستقرار وقد صرح الأخ نورالدين الطبوبي مؤخرا في صفاقس أن وثيقة قرطاج جنبت البلاد حدوث أزمات كبرى.
4 - التوصل الى ايجاد مخرج باقل التكاليف للازمات الاجتماعية الحادة التي عرفتها البلاد يلبي طلبات المحتجين و يحفظ مصالح الدولة ( قرقنة-الكامور-قبلي- الحوض المنجمي- الخ )
5 - استرجاع الثقة في منظومة الحكم وطمأنة الرأي العام في الداخل ولدى شركاء بلادنا في الخارج بان تونس تواصل سيرها بثبات لاستكمال مهام الانتقال الديمقراطي وهو ما يحتم التمسك بهذه الحكومة ومواصلة المشاركة فيها والعمل على اقناع الأطراف التي غادرتها وهذا من حقها أو التي عارضتها أن المصلحة العليا تقتضي الحرص على الاستقرار السياسي حتى يتم انجاز الاستحقاقات الانتخابية واستكمال القوانين والمؤسسات الدستورية في أجواء تتمتع فيها الدولة بالاحترام الضروري.
مواصلة المشاركة لتطوير وثيقة قرطاج والإسهام في انجاح مهام حكومة الوحدة الوطنية
هذه امثلة لانجازات حققتها حكومة الوحدة الوطنية وعليها ان تواصل تحقيق نجاحات جديدة في الملفات الحساسة المرتبطة بالمضمون الاجتماعي للثورة وان لا يغيب عن انظارها ان شرعية الاداء هي التي تعزز شرعية التوافق وتبين لأوسع الشرائح الاجتماعية والسياسية جدواه ونجاعته في مواجهة صعوبات المرحلة وتعقيداتها. وعلى الأطراف المكونة لهذه الحكومة ان تعي انها تساهم في انجاح تجربة جديدة في تونس في التعايش السياسي انطلاقا من الأولويات المرحلية التي تضمنتها وثيقة قرطاج. ورغم ظهور بعض مظاهر التوتر والتنافس بين الأحزاب التي تشارك في تركيبتها فان الواجب الوطني يفرض على الحكومة ايجاد المعادلة الصحيحة لهذه العلاقة مع الأحزاب. فالحكومة مدعوة إلى الأخذ بعين الاعتبار لآراء ورغبات الأحزاب المكونة لها ولكن يتحتم على تلك الأحزاب أن تترك للحكومة هامشا من المبادرات التي يمكن اتخاذها خدمة للأهداف الوطنية العامة. لقد بينت التجربة انه كلما تحررت حكومة الوحدة الوطنية من ضغط الاحزاب كانت لها مبادرات جريئة جلبت لها دعم الرأي العام وعززت تفاؤله في المستقبل مثل مبادرات الحرب على الفساد ومحاصرة التهريب والتضييق على الاحتكار. كما نرى أنه من صالح حكومة الوحدة الوطنية ومن صالح البلاد ان يتم الاصغاء باهتمام وسعة الصدر الى ما تتداوله المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وتنسيقيات الاحتجاجات الاجتماعية وخاصة ما تقدمه الحركات والروابط الشبابية من افكار ومقترحات ومواقف حيث تقع على الحكومة مسؤولية البحث عن حلول للمشاكل الاجتماعية المتراكمة والوعي بأن حكومة الوحدة الوطنية مطالبة بان تأخذ دوما بزمام المبادرة وتفتح الآفاق وتبث الأمل ويقع عليها واجب تحسين أدائها الاتصالي وتفسير مقترحاتها حتى المؤلمة منها عبر ارساء الحوارات وتكثيف الزيارات الميدانية وعليها أن تخرج من دائرة تصريف الأعمال التي تكبلها.
ان انجاح مثل هذه المهمات الوطنية العاجلة والمتوسطة المدى تتطلب قدرا أساسيا من الاستقرار السياسي الذي يجب ان يكون أولوية وطنية تشترك فيها القوى السياسية والاجتماعية مهما كانت مواقفها من الحكومة الحالية لأن الاستقرار السياسي يمثل احدى شروط تواصل ادارة الصراع والتنافس السلمي الذي تضمنه الدولة المدنية الراعية للمواطنة. وفي هذا الاطار فان استمرار مشاركة الشخصيات المستقلة و الأحزاب السياسية في الحكومة - ومن ضمنها حزب المسار- يمثل دعما ضروريا لمواصلة عمل حكومة الوحدة الوطنية وهو يمثل في رأينا النهج السياسي الأفضل حاليا للمساهمة في ترسيخ الاستقرار السياسي الضروري لتجاوز تعقيدات الوضع الانتقالي الذي تمر به بلادنا. ومهما يكن من أمر ورغم الصعوبات التي لا يخلو منها أي وضع انتقالي لا نرى بديلا عن التمشي التوافقي باعتباره واجبا وطنيا يتحتم على كل القوى الوطنية أخذه بعين الاعتبار مهما اختلفت مواقعها وآراؤها من الحكومة. انه اختبار ملموس لقدرة الاحزاب السياسية على تجاوز مصالحها الضيقة والانصهار في المصلحة الوطنية ولي كل الثقة في ان حزب المسار بما قدمته أجيال من مناضليه من اسهامات في خدمة الصالح العام وبما يمثله من قيمة اعتبارية –رغم الخيبات الانتخابية وتقلص دوره البرلماني حاليا- سوف يجد الموقف المناسب لما تطلبه المرحلة من تضحيات من الجميع وسوف يكون وفيا لالتزاماته الوطنية تجاه وثيقة قرطاج وفي مواصلة المشاركة الواعية واليقظة وفي دعمه المباشر لحكومة الوحدة الوطنية.