تحصّلت إثره يومية ألمانية على 11,5 مليون وثيقة من مكتب المحاماة البانامي «موساك فونسيكا» تهم تحويلات آلاف الأشخاص نحو الملاذات الضرائبية أو« les paradis fiscaux » ولاستثمار هذه الوثائق اتصلت الصحيفة الألمانية بالمجمع العالمي للصحافيين الاستقصائيين الموجود مقرها في واشنطن التي اختصت منذ مدة في تحليل التسريبات والوثائق المهربة. وقد قام هذا المجمع في سرية مطلقة بتنظيم عملية تسريب ونشر هذه الوثائق والمعلومات. وقد قام المجمع بتوزيع هذه المعلومات على 107 صحيفة ووسيلة إعلامية و370 صحفيا من كل بلدان العالم. وتم الاتفاق على أن يكون يوم الاثنين 4 أفريل وعلى مدى أسبوع كامل موعد الانطلاق في تسريب محتوى هذه الوثائق على مستوى العالم وتقديم أسماء الشخصيات المتهمة بهذه التسريبات.
وقد كشفت المعلومات المسربة إلى حد الآن عن تورط عدد كبير من الشخصيات المعروفة في ميادين السياسة والفن والسياسيين في البلدان العربية وحتى في البلدان المتقدمة. وقد اضطر رئيس وزراء إسلندا، والمعروف باحترامه لقوانين الشفافية ومحاربته ورفضه لكل مظاهر الرشوة، إلى الاستقالة من منصبه بعد تورطه في هذه الفضيحة. كما اضطر رئيس وزراء بريطانيا إلى الاعتراف بتورطه ومسكه لمساهمات في شركة موجودة في الملاذات الضرائبية. وأشارت هذه الوثائق كذلك إلى تورط عديد المسؤولين في العديد من الأحزاب السياسية المعارضة في البلدان المتقدمة كأحزاب اليمين واليمين المتطرف في فرنسا وحتى قادة سابقين ووزير سابق في الحزب الاشتراكي.
وأثبتت هذه الوثائق تورط بعض الرياضيين كلاعب برشلونة ميسي وبعض المسؤولين الرياضيين من ضمنهم ميشال بلاتيني اللاعب الفرنسي الدولي السابق ورئيس الجامعة الأوروبية لكرة القدم وخاصة الرئيس الجديد للجامعة الدولية لكرة القدم جياني انفنتينوا وكان لهذه التسريبات انعكاسات سياسية هامة باعتبار تورط عديد المسؤولين السياسيين الكبار في وقت تعرف ميزانيات كل الدول بفعل الأزمات الاقتصادية نموا كبيرا في عجزها ونقصا كبيرا في مواردها وتحتاج بالتالي للأموال التي يقع تهريبها إلى الملاذات الجبائية.
ولم تنج بلادنا من هذه التسريبات فقد أشارت عديد المصادر إلى تورط عدد من التونسيين في هذه العملية المنظمة للتهرب الجبائي مما دفع بعض الجهات الحكومية كوزارات المالية والعدل وأملاك الدولة إلى فتح تحقيقات في الغرض كما قرر مجلس نواب الشعب تكوين لجنة تحقيق برلمانية في هذه المسألة.
وقد صاحب هذه الفضيحة والزلزال السياسي الذي صاحبها في عديد البلدان عديد التعليقات والمواقف السياسية وعديد التحاليل السياسية التي أكدت عجز الدول والنظام الدولي عن وضع حد لهذه المظاهر من التهرب الجبائي والفساد ونهب المال العام. وقد أكدت هذه المقالات والتحاليل أن هذا العجز ناتج عن انخراط النخب السياسية والمالية والمسؤولين السياسيين وتورطهم مع المال الفاسد مما يجعلهم غير قادرين على محاربة هذه المظاهر من الفساد والتهرب الجبائي والوقوف أمام هذه الشركات التي اختصت منذ سنوات في تمكين هذه الشخصيات والعديد من المؤسسات والبنوك من الوصول إلى الملاذات الجبائية وإيداع أموالها فيها بكل طمأنينة وبمأمن من كل أجهزة المراقبة الوطنية والدولية. وقد ساهمت هذه التحاليل والقراءات في دعم
الخطاب الشعبوي تحت شعار «كلهم مذنبون وفاسدون».
ما نريد التأكيد عليه في هذه المساهمة أن عهد التهرب الجبائي والعصر الذهبي للملاذات الجبائية قد ولى وانتهى وهذه الفضيحة تؤكد أن هذا التطور الهام الذي عرفه العالم في التعاطي مع هذه الملاذات والتهرب من الجباية باعتبار أن بانما اليوم هي من آخر الملاذات التي تعتبرها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية من غير المتعاونة. ولقد أصبحت اليوم محاربة التهرب الجبائي من أهم الأولويات للمنظمات الدولية وأصبحت هذه المسألة على جدول أعمال القمم العالمية كقمة مجموعة الثمانية والعشرين. ولم يقف هذا الاهتمام على مستوى النقاش بل تجاوزه إلى تقديم عديد المقترحات والبدء في تطبيقها على مستوى الواقع. هذا بطبيعة الحال لا يعني أنه تم حل كل المشاكل والعراقيل لتطبيق قواعد صارمة لتحقيق الشفافية الجبائية والتأكد من أن كل الشركات والأشخاص الطبيعيين يؤدون واجبهم الجبائي إلا أنه في تقديرنا فإن المؤسسات الدولية والدول قاما بخطوات هامة في هذا المجال مما سيجعل التهرب الجبائي والملاذات الجبائية صعبة في المستقبل وهذا في رأيي دعم للنظام الديمقراطي والعدالة التي .....