الفكرية والقراءات السياسية والتاريخية بعديد المسائل والعناصر التي تفسر هذا التفرد في مسارنا التاريخي فإنها لم تعط للمبدعين وللفنانين حق قدرهم ولم تثمن مساهمتهم الهامة في نحت سمات شخصيتنا وتفردها من حيث انفتاحها على التجربة الإنسانية ومبادئ الحرية والتعدد والاختلاف والانفتاح على الآخر التي ميزتها.
وجملة هذه المقالات هي نتاج للقاءات ونقاشات شيقة مع عديد الأصدقاء المبدعين والذين اثروا بصفة كبيرة في بناء المشروع الثقافي التونسي وجعله في تناغم مع المشروع السياسي الإصلاحي الذي طبع تجربتنا التاريخية واثر فيها .وهذه اللقاءات هي إسهام بسيط في بناء وقراءة مساهمة الحركة الإبداعية في بناء ذاتنا.
وسأخصص حلقة هذا اليوم للحديث مع الابن المدلل للمسرح التونسي الممثل الكبير والفاعل الثقافي الهام رجاء فرحات – واللقاء مع رجاء وقضاء بعض الوقت معه شيق وممتع وتوده أن يتواصل إلى ما لا نهاية .فالرجل يسحرك بكلامه وبمعرفته وأناقته وذوقه وحسه الفني والوقت مع رجاء عاصف فالرجل يأخذك في دوامة من المسرح والشعر والتاريخ والسياسة بأسلوبه المسرحي وبكثير من التمازج بين الجد والهزل يجعلك لا تمل الوقت معه ولا تطلب إلا المزيد للاستفادة والمعرفة وشيء من الابتسامة والضحك في عالم تهزه الإحزان والحروب والماسي.
وحتى نفهم دور وأهمية رجاء هذا الشاب الذي اكتشف المسرح مع والده المرحوم الصحبي فرحات في سن الخامسة لابد أن نشير إلى انه أدار فرقة قفصة من سنة 1973 إلى سنة 1975 وهو في سن الرابعة والعشرين كما أدار إحدى أهم دورات مهرجان قرطاج وهو في سن السابعة والعشرين – هذا هو المسرحي الكبير الذي عانق الإبداع والتألق منذ صغر سنه.
وقبل الحديث عن دور رجاء فرحات وجيله من المسرحيين الهامين كرؤوف بن عمر والفاضلين الجزيري والجعايبي والمرحوم المنصف السويسي والسيدة جليلة بكار في بناء المشروع الثقافي التونسي لابد من العودة بسرعة إلى بعض المراحل الهامة في تاريخ المسرح في بلادنا – والبدايات تعود إلى المرحلة الاستعمارية حيث عرف المسرح في بلادنا ثلاثة منابع كبرى – المنبع الأول هو الفرق المسرحية المصرية والتي شكلت تونس إحدى مراحلها الكبرى ومحطاتها الهامة – فكانت اغلب الفرق المسرحية المصرية تزور بلادنا كل سنتين لتقدم عروضها في المسرح البلدي باللغة العربية والتي كانت تشفي غليل التونسيين.فزارنا أهم المسرحيين المصريين كسلامة حجازي لتقديم أهم أعمالهم مما مكن الجمهور في بلادنا من متابعة آخر الانتاجات وخاصة معرفة الاوبيرات حيث قدمت الفرق المصرية مسرحية روميو وجوليات وغيرها.
المنبع الثاني للعمل المسرحي في بلادنا كانت زيارات الفرق الفرنسية والتي كانت تقدم أهم المسرحيات الفرنسية للجالية الفرنسية الموجودة في بلادنا – كما كانت النخب التونسية الفرنكوفونية ترتاد هذه العروض وتتابعها باهتمام.
أمّا المنبع الثالث للعمل المسرحي في بلادنا فكانت النواتات الأولى للمسرح التونسي والتي كانت في اغلبها اقتباسا للمسرحيات الفرنسية .وقد ساهمت الإذاعة والمسرح الإذاعي في تطور هذه التجارب من خلال تخصيص مسرحيتين في الأسبوع في برمجتها .
فكانت مسرحية الثلاثاء باللغة العربية ومسرحية الجمعة باللغة الدارجة .وقد كانت مسرحية «المعرة» سنة 1945 بمناسبة ألفية المعري إحدى أهم العلامات المضيئة في التجربة المسرحية التونسية وشكلت إحدى أولى التجارب التي ساهم فيها المسرح في بناء الشخصية العربية الإسلامية .
وسيلعب المسرحي محمد الحبيب دورا هاما في هذه البدايات من خلال بعث مدرسة التمثيل العربي والتي سيتخرج منها عديد المسرحيين الكبار في بلادنا كالمنصف السويسي ونورالدين القصباوي ومنى نورالدين وعبد اللطيف الحمروني.
وستكون بداية الخمسينات نقطة انطلاقة وبروز المسرح التونسي والذي سيلعب دورا كبيرا في بناء ونحت الشخصية التونسية – ففي هذه الفترة ستتكون فرقة مدينة تونس المسرحية والتي ستكون النواة الأولى للمسرح المحترف في بلادنا .كما ستساهم مدرسة التمثيل العربي في تكوين أجيال كبيرة من المسرحيين التونسيين سيساهمون بصفة كبيرة في بناء المسرح التونسي .إلاّ أن العامل المهم في هذه المغامرة الفنية التونسية سيكون ظهور المسرحي الكبير علي بن عياد والذي سيشكل العلامة الكبيرة في تطور هذه الحركة في بلادنا.فبعد سنوات من الدراسة في القاهرة على أيادي أهم المسرحيين هناك كيوسف وهبي وزكي طليمات في بداية الخمسينات سيعود علي بن عياد ليتربع على عرش المسرح التونسي وينتج أهم أعمال فرقة مدينة تونس في تلك الفترة كمسرحية هاملت سنة 1958.
إلا أن الثورة الحقيقية للمسرح في بلادنا ستكون اثر الاستقلال وستكون مؤسسات الدولة الحديثة الداعمة الأساسية للحركة المسرحية في بلادنا .وستكون كتابة الدولة للشؤون الثقافية والوزير المسؤول السيد الشاذلي القليبي ثم بعده المرحوم محمود المسعدي وراء لا فقط تطور العمل المسرحي لبلادنا بل خاصة وراء وضع وتحديد فلسفة الدولة الحديثة في المسرح وقد عبر الرئيس بورقيبة عن هذه النظرة في خطابه الشهير يوم 7 نوفمبر 1962 عندما قال «أعطوني مسرحا أعطيكم شعبا عظيما» وسيصبح منذ ذلك اليوم تطوير المسرح في المدارس والمعاهد أحد أهم اختيارات الدولة ليكون المسرح رافدا أساسيا في بناء المشروع السياسي التونسي ومساهما هاما في تفرد التجربة التونسية.
ولن تقتصر هذه التجربة وتطور الحركة المسرحية في بلادنا على المسرح المدرسي بل ستمر إلى تكوين مدارس التمثيل ثم بعث الفرق المسرحية الجهوية في صفاقس والتي أدارها جميل الجودي وفي الكاف مع المنصف السويسي وفي بنزرت مع عبد اللطيف الحمروني .
وسيقع كذلك تكوين جيل جديد من المسرحيين وإيفادهم إلى أهم المدارس العالمية فتم ابتعاث فاضل الجعايبي ومحمد إدريس الى باريس وفاضل الجزيري ورؤوف بن عمر إلى لندرة ورجاء فرحات إلى ايطاليا أين تكون في مسرح Piccolo teatro المشهور إلاّ أن هذه الفترة من بداية الستينات إلى نهاية السبعينات ستكون فترة مخاض فكري ومسرحي كبير .فالبرغم من مساهمة الدولة في دعم وتطوير المسرح إلاّ أنّه سينقلب على دولة الاستبداد وانطفاء حلم الحرية في الحركة الوطنية.وسيصبح التمرد والرفض والثورة السمات الأساسية للعمل المسرحي في بلادنا.
وستبدأ روح التمرد مع عميد المسرح التونسي علي بن عياد الذي كان معروفا بالمسرح التقليدي وتأثيرات المسرح الكلاسيكي الفرنسي وسيقطع علي بن عياد مع هذا الخط ليبدأ في إنتاج مسرحيات نقدية وتتميز بروح الثورة والتمرد.فكان إنتاج مسرحية مراد الثالث سنة 1966 التي كتب نصها الحبيب بولاعراس وكانت هذه المسرحية رائدة وتناولت بطريقة نقدية الحكم المطلق والبدايات الأولى للاستبداد وقد حضرها الرئيس بورقيبة بامتعاض كبير ولكن التغيير في مسرح علي بن عياد سيكون عند لقائه بأحد أهم روائيي الطليعة الكاتب عزالدين المدني والذي اشتهر في تلك الأيام بروايته الهامة «الإنسان الصفر» والتي يحكي فيها قصة ثائرة على النمط الحياتي والمجتمعي التقليدي المحافظ.واتفق علي بن عياد مع عزالدين المدني على إنتاج مسرحية «صاحب الحمار» عن الزعيم البربري الثائر ضد الدولة الفاطمية وقد افتتحت هذه المسرحية مهرجان مسرح المغرب العربي في المنستير سنة 1970.
وستكون المرحلة الثانية لهذه الثورة المسرحية في بلادنا عند عودة الأبناء المدللين للمسرح التونسي من الخارج وانغماسهم في الكتابة والإنتاج المسرحي في بداية السبعينات .وسيكون هؤلاء الشباب حاملي الثورة المسرحية التي ستعرفها بلادنا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي .وستحمل هذه الثورة في أحشائها قطعا مع المسرح الكلاسيكي وظهور كتابة مسرحية ودرامية جديدة .كما ستعمل من ناحية النص على طرح المواضيع الجديدة والنقدية للمشروع المجتمعي التقليدي.
وسيكون رجاء فرحات احد رواد هذه الثورة المسرحية والثقافية بشكل عام في بلادنا .فعند عودته من ايطاليا سيتولى ادارة فرقة قفصة أين سينتج مسرحيتين هامتين الأولى هي « جحا والشرق الحائر» والثانية هي «البرني والعطراء» والتي ستعرف نجاحا جماهيريا كبيرا حيث ستقوم بأكثر من 300 عرض.وسيتواصل إشرافه على فرقة قفصة من 1973 إلى 1975 حيث سينتج عديد المسرحيات الأخرى ك»محمد علي الحامي» وهذه التجربة ستجعل من جهة قفصة البعيدة عن العاصمة وعن حركيتها الثقافية أحد أهم مراكز الإبداع المسرحي في بلادنا.
وسيساهم رجاء فرحات في المسرحية الحدث في بداية السبعينات وهي مسرحية «ثورة الزنج» والتي كتبها عزالدين المدني واخرجها المنصف السويسي وافتتحت مهرجان الحمامات سنة 1972 وهذه المسرحية هي دعوة لمحاكمة التاريخ الرسمي من خلال قراءة نقدية للطبري الذي يعتبر سلطان التاريخ الرسمي للدولة العباسية.
وستعطي هذه التجارب المختلفة الخيط الرابط للعمل الإبداعي لرجاء فرحات وهو النبش في التاريخ والقراءة النقدية للتاريخ الرسمي وهذه الأعمال والخط الدرامي الذي دأب عليه رجاء فرحات منذ أعماله الأولى هو دعوة الجمهور إلى الانخراط في هذه القراءة الجديدة للتاريخ لإعادة كتابته وتوليده وصياغته بدراما تورجيا جديدة .
وسيتواصل هذا الاتجاه في الأعمال الجديدة لرجاء فرحات في ثلاثيته عن الرئيس بورقيبة «التحرير» وبناء الدولة والسجن الأخير – ثم مع المسرحية الأخيرة «المنصف باي» والتي تناولت بداية النهايات للدولة الحسينية-وقد كانت هذه الأعمال فرصة للقيام بقراءة نقدية هامة للقرن العشرين مع ظهور النخب الجديدة في الفترة الاستعمارية في بلادنا وتقهقر النخب القديمة وكانت هذه الأعمال فرصة هامة لاستعادة الذاكرة وللمساهمة في بناء الذات التونسية وتفردها.
والى جانب أعماله المسرحية لعب رجاء فرحات دورا كبيرا في تنشيط الحركة الثقافية في بلادنا وعلى المستوى العالمي من خلال المسؤوليات التي تحملها في عديد المنظمات والمهرجانات – فكانت إدارة المهرجان قرطاج لابن السابعة والعشرين حيث تمكن من صياغة رؤية ثقافية جديدة وفتح هذا مهرجان على الطليعة الفكرية والثقافية في العالم.
فكانت استضافة Manu di bango على ركح قرطاج ومارسيل خليفة وسهرات الشعر العربي مع عبد الرحمان الابنودي ونزار قباني ومحمود درويش وكل الشعراء الشبان في بلادنا في تلك الأيام ومنهم المنصف المزغني والصغير أولاد احمد وغيرهما.
كما تحمل رجاء عديد المسؤوليات في كبرى المؤسسات الدولية كمعهد العالم العربي ومنظمة الفرنكوفونية وقد لعب رجاء فرحات دورا هاما في هذه الفترة الذهبية للمسرح التونسي والحركة الثقافية .وقد ساهمت هذه الحركية والإبداع في نحت المشروع الثقافي التونسي والذي سيكون احدى دعائم خصوصية وتفرد المشروع التاريخي والحضاري التونسي.ولعل الأهم في هذه التجربة الإبداعية انه في ظل تراجع المشروع السياسي عن مبادئ التعدد والحرية التي حملتها الحركة الوطنية وبدايات الاستبداد فان المبدعين والمسرحيين والفنانين سيحملون هذه المبادئ ليكونوا المدافعين عن بذرة الأمل والتمرد على البالي والقديم.
رجاء فرحات هو احد فرسان هذه المرحلة الخصبة في الإنتاج الفني والإبداعي قبل أن نصل إلى السنوات العجاف في نهاية الثمانينات لتغزو روتانا الساحة الثقافية محاولة القضاء على هذه الخصوصية.ومن خلال مسرحياته وعمله على استعادة ذاكرتنا الجماعية نجح فرحات في إثبات أن خصوصية نمطنا الاجتماعي ليست وليدة نزوة عابرة بل هي موغلة في القدم والتاريخ وهذه العودة إلى التاريخ لبناء المشروع الثقافي التونسي ساهمت في دعم مشروعنا السياسي وتفرد تجربتنا التاريخية وحمتنا أمام الدعوات الملحة بعد الثورة إلى الخروج من هذا المشروع والعودة إلى العصر الذهبي للدولة الإسلامية وكان هذا المشروع الثقافي رافدا اساسيا للمشروع السياسي وكان الملهم عند انغلاق السياسي على الاستبداد ورفض التعدد.