والردود عليها شهادة استنفرت تصريحات وتصريحات مضادّة، وتعليقات وتعليقات على النقيض، ولكنّها بقيت في اتجاه واحد رغم التباين في رواية الأحداث والاختلاف في تحميل المسؤوليّة.
ما تمّ لحدّ الآن هو تضخيم الثانويّ على الرئيسيّ، والتمويه بالآثار والتبعات على أصل الأمور والمقدّمات:
- تحليلات من قبيل إخلال المرزوقي بواجب التحفّظ المحمول عليه إلى حدّ الساعة تحليلات وجيهة، ولكنّها تبقى ثانويّة.
- الاتّهامات المتبادلة بين الرئيس السابق منصف المرزوقي ووزير الدفاع الأسبق عبد الكريم الزبيدي ورئيس الأركان السابق رشيد عمار وتعقيبات وزير الداخلية الأسبق علي العريّض بخصوص الموافقة على قدوم عدد من جنود المارينز لمقرّ السفارة بالبحيرة ساعات بعد السيطرة على الأحداث فجر 15 سبتمبر اتهامات مفهومة في سياق إجلاء الحقيقة وتحمّل المسؤوليّات، ولكنّها تبقى جانبيّة.
ما حفّ بهذه المرويّات من تحريف أو تضخيم أو توجيه أو توظيف مسألة فيها نظر. ويمكن التوقّف عندها لتفكيك استراتيجيات الخطاب النرجسي والانتقائيّ والتبريري والتفسيري والاعتذاريّ والدعائيّ من أجل التوصّل إلى تخليص الحقيقة من الوهم، ولكنْ..
قبل المسائل السياسيّة كواجب التحفّظ المحمول على رئيس سابق للجمهوريّة، أو السياديّة كحرمة السيادة الوطنيّة لا بدّ من الإقرار بلا تردّد بأنّ غزوة السفارة الأمريكية يوم 14 سبتمبر 2012 كانت، بمعنى مّا، غزوة دولة رسميّة. غزوة تمّت الدعوة والتعبئة والشحن والتجييش لها على منابر المساجد وفي بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ. وشاركت في الحثّ عليها والإعداد لها رموز دينيّة وقيادات سياسيّة تدور في فلك حكومة الترويكا.
المناخ العامّ عشيّة 14 سبتمبر 2012 كان مناخا يستثمر في الشعبويّة والغرائز الدينية البدائيّة. وبالرغم من الودّ القائم، وقتئذ، بين حركة النهضة وجزء مؤثّر في الإدارة الأمريكيّة، فقد راهنت الحركة التي كانت تقود ترويكا الحكم على خطّة مزدوجة. فهي، بمناسبة الاحتجاجات التي اندلعت في عدّة بلدان من العالم ضدّ فيلم أمريكي قصير قيل إنّه يسيء للرسول، أرادت أنْ ترخي العنان للجموع الهائجة للتنفيس عن مكبوتاتها الهستيريّة، وبذلك تحتوي مزيدا من المشاعر السلفية والغوغائيّة إلى حلفها (المعروف، وقتئذ، بحلف الشرعيّة !). وكان في الحسبان، من ثمّة، أنْ تتدخّل الأجهزة الأمنيّة في الوقت المناسب لمنع أيّة اعتداءات على السفارة والمدرسة الأمريكيّتيْن، وبذلك، تعزّز ثقة الإدارة الأمريكية في أهليّة «الإسلام السياسيّ» للحكم في المنطقة ولعب دور الحليف الجديد. كان وزير الداخليّة علي العريض قد أعطى تعليماته لمرافقة الحشود الهائجة حتى ينفّذوا وقفتهم الاحتجاجية قبالة السفارة «نصرة لرسول اللّه». وكان يحسب أنّه سيظفر بهم من قُبُل فجاؤوه من دُبُر كما قد علمنا في العبارة التي صارت مضرب الأمثال !
كانت «التعليمات» أنْ تتوجّه الجموع بعد صلاة الجمعة من ذلك اليوم إلى السفارة الأمريكيّة. وكان المشهد مريبا غريبا حين انطلقت الجحافل من أمام المساجد الكبرى وانضمّت إليها في أثناء الطريق أعداد من الغوغائيّين من المشاة والراكبين والعزّل والمحمّلين. وسار الجميع مخفورين بسيّارات الأمن ودرّاجاتهم على طول الطرقات المؤدّية إلى موقع السفارة الأمريكيّة بالبحيرة.
نتكلّم عن غزوة دولة رسميّة – إن جازت العبارة - لأنّنا كنّا بصدد حشود هائجة وجهتها معلومة، وشعاراتها وهتافاتها وتكبيراتها مرفوعة، وعدّتها من العصيّ والزجاجات الحارقة والحجارة كانت تحت سمع الدولة وبصرها معلومة.
إذن، كان المناخ الذي هيّأته آلة الترويكا الدعائيّة لتهييج ذراعيْها السلفيّ (من جماعة أنصار الشريعة ومن لفّ لفّهم) والثورجي (روابط «حماية» الثورة) مناخا ملائما جدّا لا لشنّ تلك الغزوة على السفارة الأمريكيّة فحسب، ولكنْ لممارسة عربدتهما الاستعراضيّة وجرائمهما العلنيّة ضدّ جموع التونسيّين بالتواطؤ مع عناصر من الأمن الموازي، وتحت إمرة رسميّة لأجهزة الدولة التنفيذية المحكومة من حركة النهضة أيضا.
لنذكّر بحقيقة بدأت تختفي طيّ النسيان. إنّ غزوة السفارة الأمريكية لم تكن نشازا تاريخيّا بل كانت تنويعا بديهيّا على حوادث تلك الأيّام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
• الهجمات الإرهابيّة على كلّية الآداب بمنّوبة طيلة شهور من نوفمبر 2011 إلى أفريل 2012 بإشراف مباشر من الإرهابي أبو عياض ..(تعطيل الدروس والامتحانات، الاعتداء على العميد وعلى المدرّسين والطلبة، معركة النقاب والمصلّيات، رفع الراية السوداء على بوّابة الكلّية بدلا من العلم الوطني..)
• التنكيل بمتظاهري 9 أفريل 2012.
أحداث العبدلّية التي تفجّرت بداية من 10 جوان 2012 وتواصلت في الأيّام الموالية بزعم ما عرف بـ»الرسوم المسيئة إلى الرسول». وكان لوزير الأفاريات الدينية، وقتها، نور الدين الخادمي دور كبير في مزيد تأجيجها..
• سحل الشهيد لطفي نقض حتّى الموت في أكتوبر 2012 بتطاوين.
• حملة الشيطنة ضد الاتحاد العام التونسيّ للشغل وإلقاء الفضلات على أبواب مقرّاته، ثمّ انتهاء بالهجوم على ساحة محمّد علي للانقلاب على قيادته يوم 4 ديسمبر 2012.
• أحداث الرشّ بسليانة ديسمبر 2012..
• اغتيال الشهيد شكري بلعيد يوم 6 فيفري 2013 بعد حملة شيطنة رسميّة وغير رسميّة..
بدل الانخراط في موجة رثاء جماعي لـ «هيبة» الدولة التونسية التي مرّغها المنصف المرزوقي في التراب، وقبل العنتريّات والمزايدات الرافضة لنزول جنود المارينز على أرض السفارة الأمريكيّة، وقبل القيل والقال وخواء المقال لا بدّ من تصحيح البوصلة نحو صميم الموضوع.
بمعزل عن الفيلم الذي زعموا أنّه «مسيء إلى الرسول»، وبمعزل عن التفاصيل الإيتيقيّة والسياسيّة والديبلوماسيّة للفاعلين السياسيّين في تلك الفترة على أهمّيتها، فإنّ غزوة السفارة الأمريكية لا تعدو أنْ تكون حراكا إرهابيّا وغوغائيّا نشأ وترعرع في ظلّ «التدافع الاجتماعيّ» الذي كان يُحْتَكم إليه في تدبير الشأن العامّ بالبلاد.
قدّرت حركة النهضة فتواطأت، وأخطأت حتّى أجرمتْ باسم الدولة. وهذا ما يجعل الغزوة ترقى إلى أن تكون جريمة دولة. والتونسيّون الذين تكبّدوا فوق ما يحتملون من تعويضات للأمريكيّين بالمال والأرض، فضلا عن الإساءة البالغة التي لحقت بلادهم بسبب هذه المقامرات الغوغائيّة والإرهابيّة يرفضون القبول بسياسة الإفلات من العقاب، ويحتفظون بحقّهم كاملا ضدّ من كان سببا لحمله على الاعتراف بالمسؤوليّة، والاستعداد للمساءلة، عوض سياسة الهروب إلى الأمام والإنكار.