التي لحقت بقطار الثورة واستفادت منه دون أن تتخلى عن جانبها العقائدي ذي المرجعية الإخوانية.
تحرص حركة النهضة منذ أشهر على الظهور في صورة الحزب المسؤول والقوة الهادئة التي لا تنشغل كثيرا بالرد على سهام المنتقدين أو كيد الكائدين. كما تحرص على عدم الخوض في أزمة شريكها الرئيسي في الحكم، حزب النداء، وعدم المسارعة باستغلال تفككه وضعفه. هي ليست على عجلة من أمرها، وتحسب كل الحسابات ولذلك تنتظر أن تسقط الثمرة من تلقاء نفسها، ناضجة كانت أو متعفنة. المهم بالنسبة لها الآن هو إنجاح مؤتمرها عبر تكريس التسويات الداخلية والخارجية التي توصلت إليها ومصادقة جميع مكوناتها عليها إلى جانب استشراف آفاق المرحلة القادمة والتهيء لها.
لقد كنا من أول من اهتم بدراسة الظاهرة الإسلامية وحركة النهضة على وجه الخصوص منذ ثلاثين سنة ونيف، وعرفنا بمقاربتنا التفهمية لمسار الحركة ورفضنا للمواقف الإستئصالية منها. ولئن حافظنا على مشاعر التقدير التي تجمعنا بعدد من قياديي النهضة، فإن ذلك لا يمنعنا من انتهاج المنظور النقدي في تحليل ذلك المسار خاصة وقد مكنتنا معاينة الممارسة الفعلية وتقلباتها من تجاوز معالجة لم يكن لنا فيها من معطيات سوى أدبيات الحركة وهجومات خصومها. فما الذي يمكن أن نقوله اليوم عن مسار النهضة ومراجعاتها له وهي تستعد لعقد مؤتمرها العاشر ؟
1 - الطائفة بين جاذبية المشروع ألإخواني وإكراهات البيئة المعلمنة:
كان نشوء الحركة الإسلامية في تونس من نتائج انقسام النخبة التونسية بين تيارين : الأول يحافظ على أولوية المقدس الديني ويجعل من الموروث الديني الإطار العام للإصلاح والعمل الوطني والاجتماعي، والثاني يدافع عن مقدسات جديدة هي الوطن والحريات ويتعاطى مع الموروث على مقتضى ذلك. هذا التباين الذي ظهر بشكل جنيني منذ اصلاحات خيرالدين باشا تعمّق خلال المرحلة الاستعمارية ليتخذ عند الاستقلال شكل نزاع حول نمط المجتمع وحول السلطة.
في عداء لنخبة السلطة ولإصلاحاتها الجذرية وما صاحبها من بسط وصاية الدولة المبشرة بالحداثة على المجتمع الأهلي/المدني ومن إقصاء للمناهضين للمشروع البورقيبي، تكوّنت معارضة تضم شبابا نقم على قيادة الدولة ما اعتبره اجتراءا على الدين وهدما للمؤسسات الإسلامية وسبيلا للتغريب الثقافي والانحلال الاجتماعي، شباب حظي بتعاطف عدد من مشائخ الزيتونة المحافظين واكتشف في مشروع الإخوان المسلمين برنامج عمل ورؤية بديلة.
تكوّنت الحركة في بدايتها كجماعة دعوية متأثرة بمطاعن المشائخ الزيتونيين المعارضين وأسلوب جماعة الدعوة والتبليغ لتتحول بسرعة إلى طائفة سياسية دينية مأخوذة بفكر الإخوان وعلى رأسهم المؤسس حسن البنّا. وتتأسس صفتها كطائفة بالمعنى الذي يعطيه علم الاجتماع لهذا المفهوم على خاصيتين أولهما التمرد على الإسلام السائد الذي يوفق بين المالكية والصوفية وتعويضه بمذهب سلفي طهري ومعاد للتقاليد، وثانيهما رفض النظام الاجتماعي القائم باعتباره نظاما فاسدا ولاأخلاقيا والدعوة إلى تغييره جذريا بدل إصلاحه التدريجي. ولذلك قدمت الجماعة نفسها كفصيل رسالي جاء لإنقاذ المجتمع من الضلال. وفي ذات الوقت انتظمت صلب حزب ينشط في السر ويجد كل المبررات لذلك في واقع الاحتكار والاستبداد السياسي الذي أسسه الحزب الدستوري وزعيمه بورقيبة. إلا أن الحركة كانت تتوفر على رأسمال هام لا يشاركها فيه أي من التنظيمات المعارضة، وهو اعتمادها على خزّان الإيمان الديني والموروث العقدي السنّي الذي اتخذته راية تعبئ الأنصار وإيديولوجية للتبرير ودافعا للفعل بخلاف الأحزاب المدنية أو المعلمنة.
هكذا ومنذ تشكلت الجماعة الإسلامية بتونس في نهاية الستينات ابتدأ مسار غلبت عليه في المنطلق الاهتمامات الدعوية الدينية والأخلاقية ليبرز خلال بضع سنوات الاهتمام بالشأن السياسي ولتفضي العملية إلى تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي التي قدمت نفسها كفاعل في الساحة السياسية ولكنها في العمق حركة ذات طبيعة مزدوجة: سياسية-دينية. تأسست إيديولوجية الحركة ومشروعها السياسي على جملة من المسلّمات من بينها فكرة شمولية الإسلام أو بالأحرى المدلول الذي اتخذه هذا المبدأ عند الإخوان المسلمين: أي كون الإسلام أكثر من دعوة دينية بل هو كذلك دولة ونظام شامل للحياة. ووفقا لهذا الفهم تعني الشمولية ليس فقط أن أفعال المسلم ومؤسسات المجتمع المسلم ينبغي أن توجهها أو تحكمها الرؤية الإسلامية والقيم الإسلامية وإنما كذلك أنه لا مجال للفصل، بل للتفريق بين الدين والسياسة. وبناء على هذا المنظور العضوي فقد رفضت قيادات حركة الاتجاه الإسلامي/النهضة باستمرار ما وجّه إليها من تنبيه إلى مخاطر الخلط بين المجالات المذكورة وعاملته كدعوة للفصل ومحاولة لإبعاد الإسلام عن الشأن العام وتحويله إلى دين كنسي يقتصر على الروحانيات.
على هذا الأساس تشكلت رؤية الحركة وتقييمها لحالة المجتمع التونسي وللنظام الذي يحكمه وللمهام المطروحة عليها. علما بأنها عاشت منذ البداية حراكا واختلافات وتوترات وتفاعلت مع كثير من الخيارات التي سارت فيها قيادة الدولة الوطنية فقاومتها قبل أن تتكيّف معها وتستوعبها ضمن منظورها، من ذلك ترقية وضع المرأة ومساواتها بالرجل ومساعدتها على التحوّل إلى طرف فاعل في النشاط الاجتماعي، وكذلك إصلاح الأحوال الشخصية وإرساء قاعدة الاختلاط بين الجنسين في المدرسة والمؤسسة والشارع، طبعا بما يتماشى مع أخلاق الإسلام.
وفي سياق تجاوز ردود الفعل المحافظة والمتأزمة تخلت حركة الاتجاه الإسلامي كذلك عن مواقفها الأولية الرافضة لمفاهيم الحرية والديموقراطية واعتبارها أوثانا جديدة ونيلا من الحاكمية الالاهية. كما أدرجت هذه الإرهاصات ضمن رؤيتها مع السعي للتقريب بين الديموقراطية والشورى. بيد أن هذه التفاعلات التي قرأنا فيها منطلق علمنة جزئية وانفتاح على قيم الحداثة لم تكن شاملة لمكونات الحركة التي بقيت تتأرجح بين المرجعيتين القديمة والجديدة.
2 - الديموقراطية في الفكر السياسي لحركة النهضة: بين طوبى دولة الشرع ودكتاتورية دولة الحداثة
في سنة 1981 وإثر انكشاف التنظيم السري للجماعة سارعت إلى المطالبة بحق العمل القانوني في إطار التعددية السياسية الوليدة. كانت ثقافة الاتجاه الإسلامي كثقافة الاتجاهات الماركسية والقومية معادية للديموقراطية الليبرالية. إلا أن.....