تحسب الدولة أن بمثل هذه التقرّب وبما أتت من طوع، سوف ترضي حلفاءها والمعارضات والمنظّمة. تعتقد أنّها بما أهدت من وظيف ومن منح سوف تقدر على امتصاص الغضب... تخطئ الدولة الحساب ولن ترضى عنها الأطراف ولا المنظّمة ولا عامّة الشعب. ستزداد مطلبيّة الأحزاب والمنظّمة وسوف يحصل تهافت عند الناس وفي الجهات أشدّ وأقوى. كلّ يدعو الى مزيد من الكسب، الى مراكز قرار أخرى فيحصل انتفاخ في الدولة وتتكاثر هياكلها وتزداد أعداد موظّفيها دون أن يشتدّ لها عود، دون أن يكون لها تمكّن. كيف التمكّن وهذه الدولة شتات مختلف..
لمّا تنظر اليوم في الوزراء، في موظّفيّ الدولة، في ما يقولون وفي ما يصبون اليه ترى خليطا من البشر، أفرادا شتاتا، فرقاء، لا يجمعهم خيط ولا تربطهم صلة. كلّ لنفسه يسعى. يناور سرّا وجهرا خدمة لمصالحه، إرضاء لمن كان له سند... لا ولاء للدولة عند أهل الدولة. لا انضباط ولا وفاق ولا قواسم مشتركة. كلّ الولاء يأتونه للحزب، للمنظّمة. في تونس، اليوم، رئيس الحكومة صورة متحرّكة. لا قدرة له وليس هو بمسيطر. بعض الوزراء هم أقوى باعا وذراعا. بعض المرؤوسين هم أطول يدا منذ الثورة، حزب النهضة هو المسيّر. منذ الثورة، المنظّمة الشغّيلة هي الأقوى...
لمّا يتفكّك الحكم، تفرض الأحزاب والمنظّمة الشغّيلة ما ارتأت من توجّه، من وزير، من اطار، من وال. أحيانا، ترى الأطراف المشاركة في الحكم وفي المعارضة تنفخ في الشارع الغضب، تشعل نار الفتنة. تهيّج عمّال فسفاط قفصة أو أهالي قرقنة أو تلهب نارا في الجنوب، فينتفض الشارع وتضطرب المصالح وتعجز الدولة وتجبر على التراجع، على التفاوض، على التلبيّة. أحيانا، تعمد بعض الأطراف الى الدفع بالحكومة عمدا في الطرق المسدودة حتّى تخبو وتفشل...
أحيانا، كما هو الحال في التعليم الثانوي، تدعو النقابة ومعها رئيس المنظّمة الى طرد الوزير، الى تسميّة آخر، ترتضيه المنظّمة. يعيّن الوزراء وموظّفو الدولة حسب ما شاءت النقابة. تمشي السياسات حسب هوى المنظّمة. ان عارضت الدولة المنظّمة سوف تحصل في القطاع اضرابات وفي الجهات اعتصامات وعصيان مدنيّ. تحرق الأرض حتّى تهزم الدولة وتنتصر المنظّمة...
تعلم الدولة أنّها مهما أتت من تنازل ومهما تقرّبت لهذا التنظيم أو تزلّفت لذاك الحزب فهي لن تفلح في المسعى ولن ترضى عنها المنظّمة ولا الأحزاب... ما سوف يحصل هو العكس. هذا ما كان لمّا تراجع بورقيبة في ثمن الخبز وما كان من بعد من تفكّك ومن تبعثر. هذا ما رأيناه في مناسبات عدّة. الكلّ يعلم أنّ كلّ تراجع في القرار، كلّ تنازل تحت الضغط هو علامة مسجّلة على ضعف الحكم وفيه تأجيج للمطلبيّة وحثّ على الفوضى...
منذ أيّام قليلة، صرّح وزير الشؤون الاجتماعيّة، أن كلّ شهيد مات في 7 مارس 2016 في بن قردان سوف تنال عائلته هبة من الدولة بـ40 ألف دينار وسوف ينتدب واحد من عائلته في الوظيفة العموميّة... هل يظنّ الوزير بما فعل سوف يرضي بن قردان ويطفئ شوارعها الملتهبة؟ هل يظنّ أنّه أنصف وأرضى؟ يعلم الوزير أنّه بما منح قد ألّب الناس وألهب نار الجهات الأخرى...
ذاك هو حال الدولة الضعيفة. لقمة سائغة، محلّ عفس ورفس. تنهشها الأيدي. تسحلها الأرجل. يأكلها الكلّ دون تحفّظ. ذاك هو حال الدولة في تونس، منذ الثورة. حكومات ضعيفة، مفكّكة. سعيها منثور وقولها مردود... في انتظار أن يخرج في الناس رادع، قويّ، ينهي الهتك ويوقف التهافت في انتظار «المهدي»، يظل الحال في تونس مرتبكا، منذرا ولسوف يتواصل السوء طالما ظلّ الحكم ضعيفا، مهتزّا...
أمّا التنميّة فلن تحصل في ظلّ الحكم الضعيف. لن يكون هناك عيش مشترك ولا استثمار ولا تشغيل ولا نموّ. من أين للسلطة أن تدفع بالتنميّة وهذه الموازين في انخرام ومداخيلها في تراجع؟ من أين المال وقد استوفت الدولة ما لها وما كان من قرض؟ كيف الزيادة في الاستثمار في أرض تأكلها الاضطرابات وهذه أحزاب تغنم ومنظّمة تحمش؟