للتوسّع في التشغيل العمومي، بما يؤكّد توجّهًا سياسيًا يجعل من الدولة مشغّل الملاذ الأخير في مواجهة العجز المزمن للقطاع الخاص عن امتصاص البطالة الهيكلية، ولا سيما بطالة حاملي الشهادات العليا. وقد تُرجم هذا التوجّه بإضافة صافية تفوق 23 ألف موظف، ليرتفع العدد الجملي لأعوان الوظيفة العمومية إلى 687 ألف عون سنة 2026 مقابل 663.757 عونًا سنة 2025. غير أنّ هذا الخيار يثير تساؤلات جوهرية حول مدى قابليته للاستدامة الاقتصادية ومدى انسجامه مع الأهداف الماكرو-اقتصادية المعلنة. ويكشف تحليل هذه الأحكام في ضوء النظريات الاقتصادية عن مفارقات سياسة تحاول في آنٍ واحد الاستجابة لضغوط اجتماعية ملحّة والالتزام بقيود مالية تزداد صرامة.
الدولة الراعية كمشغّل أخير: الأسس النظرية والحدود العملية
يندرج خيار الانتداب المكثّف في الوظيفة العمومية ضمن تقليد ما سمّاه الاقتصادي هايمان مينسكي «المشغّل الأخير» (Employer of Last Resort)، وهو مفهوم طُوّر في إطار النظرية النقدية الحديثة. ووفق هذا التصوّر، تمتلك الدولة الشرعية والأدوات التي تمكّنها من ضمان التشغيل الكامل عبر إحداث مواطن شغل مباشرة عندما يعجز القطاع الخاص عن استيعاب اليد العاملة المتاحة. وتؤدي هذه السياسة التدخلية المضادّة للدورات الاقتصادية إلى الحفاظ على الطلب الفعلي، وصيانة الكفاءات المهنية، والحدّ من التكاليف الاجتماعية للبطالة طويلة الأمد، مثل تدهور رأس المال البشري والإقصاء الاجتماعي والتوترات السياسية.
تكتسب هذه المقاربة بعدًا خاصًا في السياق التونسي. إذ يفرز النظام التعليمي سنويًا عشرات الآلاف من خريجي التعليم العالي، تصطدم تطلعاتهم المهنية بسوق شغل خاص ضعيف الديناميكية وموجّه في الغالب نحو وظائف منخفضة التأهيل. ويؤدي الارتفاع الهيكلي لبطالة حاملي الشهادات إلى ضغط اجتماعي كبير، يتجسّد دوريًا في حركات احتجاجية. يبدو الانتداب العمومي،في هذا الإطار، بمثابة صمّام أمان سياسي بقدر ما هو استجابة اقتصادية.
يترجم قانون المالية 2026 هذا التوجّه عبر جملة من الأحكام التي تستهدف فئات مختلفة من طالبي الشغل. إذ ينص الفصل 57 على إدماج حصة أولى من المعطلين من حاملي الشهادات العليا، دون تحديد عدد المناصب أو آليات الانتقاء. ويتناول الفصل 90 انتداب أعوان الآلية عدد 16، وهي آلية إدماج مؤقتة يُفترض أن تشكّل جسرًا نحو التشغيل الدائم. كما تعالج الفصول 92 و97 و100 و101 و107 و108 و109 على التوالي تسوية الوضعيات الهشّة في قطاعات الصحة والتعليم والجماعات المحلية والهيئات المستقلة.وها قد تم إصدار أياما معدودة بعد قانون الماليةالقانون عدد 18 لسنة 2025 المتعلّق بإرساء أحكام استثنائية لانتداب خريجي التعليم العالي الذين طالت بطالتهم بالقطاع العام والوظيفة العمومية.
كما تكشف هذه النصوص عن سمة أساسية في سياسة التشغيل العمومي في تونس، إذ هي لا تهدف فقط إلى استيعاب طالبي شغل جدد، بل تسعى كذلك إلى تسوية جماعية لوضعيات تشغيل هشّة تراكمت على مدى سنوات. حيث ينتظر آلاف الأعوان المتعاقدين والمؤقتين أو الخاضعين لأنظمة إدارية ضعيفة ترسيمهم، بما يشكّل «دينًا اجتماعيًا» تسعى الدولة إلى تسديده تدريجيًا.
غياب الاعتمادات الميزانية: اختلال بنيوي
تتمثّل المفارقة الأبرز في هذا التوجّه في الفجوة بين حجم الالتزامات المعلنة وغياب اعتمادات ميزانية صريحة وكافية لتمويلها. فقانون المالية، الذي يُفترض أن يترجم الخيارات السياسية إلى أرقام مالية، يعلن نوايا انتداب دون تحديد الموارد المقابلة. ولا يُعدّ هذا النقص مسألة ثانوية، بل يطرح إشكاليات عميقة تتعلق بمصداقية الميزانية وبمبدأ الصدقية، وهو من الركائز الأساسية للقانون الميزانياتي.
وقد أبرز الاقتصادي يورغن فون هاغن، في أعماله حول المؤسسات الميزانية، أهمية الصرامة الميزانياتيةالمتواصلة في الزمن لاستدامة المالية العمومية. فعندما تلتزم الحكومة بنفقات دائمة، كأجور الموظفين، دون تحديد مصادر تمويل واضحة، فإنها تُنشئ ما يُعرف بـ«الديون الضمنية» التي ستثقل كاهل الميزانيات المستقبلية. وفي الحالة التونسية، ستولّد 23 ألف وظيفة جديدة أعباء أجور سنوية، قد تمثّل، بالنظر إلى الأجور المتوسطة والاشتراكات الاجتماعية والترقيات الآلية، مئات الملايين من الدنانير سنويًا على مدى عقود.
وتجسّد هذه الوضعية ما وصفه مانكور أولسون بانحياز السياسات العامة نحو المنافع المركّزة والمرئية على المدى القصير، مقابل التكاليف الموزّعة والمؤجلة زمنيًا. فانتداب موظف جديد يولّد فائدة فورية ومحدّدة (خروج عاطل من البطالة)، في حين يتوزّع عبئه المالي على الزمن وعلى مجموع الميزانية، ما يخلق لا تماثلًا زمنيًا يشجّع التوسّع المستمر في التشغيل العمومي بما يفوق قدرة الدولة على التحمّل.
كتلة الأجور العمومية: هل تجاوزت عتبة الاستدامة؟
مع بلوغ نفقات التسيير 63,6 مليار دينار سنة 2026 مقابل 54,5 مليار سنة 2024، تتّسم البنية الميزانية التونسية بدرجة عالية من الجمود. وتمثّل كتلة الأجور العمومية، رغم عدم تفصيلها رقميًا في الوثيقة الميزانية، الجزء الأكبر من هذه النفقات. وتعتبر المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، أن تجاوز كتلة الأجور العمومية نسبة 10 إلى 12% من الناتج الداخلي الخام في البلدان النامية يطرح إشكاليات جدّية تتعلق بالاستدامة المالية.
وتنصّ نظرية «الإزاحة» (crowding out) في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي الجديد على أن تضخّم القطاع العمومي يؤدّي إلى إقصاء القطاع الخاص عبر عدّة آليات: أولًا، استحواذه على جزء كبير من الموارد المالية المتاحة، ما يحدّ من التمويل الموجّه للاستثمار الخاص المنتج؛ ثانيًا، استقطابه للكفاءات والمهارات على حساب المؤسسات الخاصة؛ ثالثًا، تكريسه لثقافة «البحث عن الريع»، حيث تنصبّ الجهود الاجتماعية على النفاذ إلى الوظائف العمومية بدل المبادرة والابتكار.
وقد بيّن وليام بومول، في نظريته الشهيرة حول «داء التكاليف»، أن القطاعات ضعيفة النمو في الإنتاجية، كالإدارة العمومية، تشهد ارتفاعًا هيكليًا في تكاليفها بوتيرة أسرع من القطاعات الإنتاجية. فالأجور العمومية مطالبة بمواكبة تطور الأجور في الاقتصاد ككل لجذب الكفاءات، لكن دون مكاسب إنتاجية مقابلة، ما يخلق ضغطًا ميزانيًا دائمًا. وفي تونس، تتفاقم هذه الظاهرة بفعل آليات الترقية الآلية والمنح المتعددة التي ترفع كتلة الأجور بمعزل عن تطور عدد الأعوان.
يؤدي هذا الجمود الميزانياتي إلى تقليص هامش التحرك في السياسة الاقتصادية بشكل حاد. إذ يُخصّص 63,6 مليار دينار للتسيير مقابل 6,3 مليارات فقط للاستثمار العمومي، ما يعكس بنية ميزانية استهلاكية ترهن آفاق النمو طويل الأمد. ويصبح الاستثمار العمومي، الضروري للبنية التحتية والتعليم والصحة، متغير تعديل يُضحّى به باستمرار للحفاظ على النفقات الجارية.
المعادلة السياسية مقابل العقلانية الاقتصادية
لا يمكن لتحليل التوسّع في التشغيل العمومي أن يتجاهل بعده السياسي. فقد أظهرت أعمال الاقتصاد السياسي، ولا سيما أبحاث ألبرتو أليسينا وآلان درازن حول تأخّر برامج هيكلةالمالية العمومية، أن الحكومات الخاضعة لقيود سياسية قوية تميل إلى تأجيل الإصلاحات الضرورية، مفضّلة الحفاظ على السلم الاجتماعي قصير الأمد على حساب الاستدامة الماكرو-اقتصادية بعيدة المدى.
وفي تونس ما بعد الثورة، حيث الهشاشة المؤسسية والتعبئة الاجتماعية حول مسألة التشغيل، كانت الضغوط السياسية الداعية للانتداب العمومي شديدة. حيث تخلق الاعتصامات أمام الوزاراتوالإضرابات والاحتجاجات المتكررة للمعطلين من حاملي الشهادات كلفة سياسية فورية ومرئية لرفض الانتداب، في حين تبقى الكلفة الميزانية طويلة الأجل مؤجّلة وغير ملموسة.
تُفضي هذه الوضعية إلى ما يُعرف بـ«مشكلة عدم الاتساق الزمني»، التي صاغها فاين كيدلاند وإدوارد بريسكوت. فالحكومة المثلى على المدى القصير (الانتداب لتهدئة الاحتقان الاجتماعي) تختلف عن الحكومة المثلى على المدى الطويل (الحفاظ على الاستدامة المالية وتهيئة شروط نمو يقوده القطاع الخاص). وفي غياب آليات التزام قوية، تنتصر دومًا أولوية الحاضر.
ما البدائل؟ إعادة التفكير في دور الدولة في خلق فرص العمل
تشير نظريات التنمية الحديثة، وخاصة أعمال دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون حول المؤسسات الشاملة، إلى أن خلق فرص عمل مستدامة وذات جودة يمرّ حتمًا عبر ديناميكية القطاع الخاص. فدور الدولة لا يتمثل في التشغيل المباشر، بل في توفير الإطار المؤسسي والتنظيمي والبنية التحتية التي تمكّن المؤسسات الخاصة من النمو والتشغيل.
ويفترض هذا الخيار إعادة توجيه جذرية للاستراتيجية الاقتصادية التونسية، عبر:
• تحسين مناخ الأعمال: تبسيط الإجراءات، تقليص الآجال، استقرار القواعد التنظيمية، ومكافحة الفساد. وهي عناصر حدّدها البنك الدولي كعوامل حاسمة للاستثمار الخاص، ولا تزال تعاني من اختلالات في تونس رغم عقود من الإصلاحات.
• تطوير البنية التحتية الإنتاجية: النقل، اللوجستيك، الاتصالات، والمناطق الصناعية الحديثة، وهي حاجيات أساسية لا يمكن تلبيتها في ظل استثمار عمومي محدود بـ6,3 مليارات دينار.
• ملاءمة التكوين مع حاجيات الشغل: المفارقة التونسية تتمثل في تزامن بطالة مرتفعة لحاملي الشهادات مع نقص في الكفاءات في بعض القطاعات، ما يستوجب إصلاحًا عميقًا للمنظومة التعليمية.
• دعم ريادة الأعمال والابتكار: عوض إحداث وظائف عمومية، يمكن للدولة توجيه خطوط التمويل المنصوص عليها في قانون المالية نحو بناء منظومة حقيقية لدعم المبادرة الخاصة لدى الشباب.
خاتمة: مأزق نموذج بلغ حدوده
تعكس سياسة الانتداب المكثّف في الوظيفة العمومية الواردة في قانون المالية 2026 إنهاك نموذج اقتصادي قائم. ففي مواجهة عجز القطاع الخاص عن خلق فرص شغل كافية، تحاول الدولة سدّ الثغرات بتدخلها المباشر، وهو ما يولّد حلقة مفرغة: كلما توسّع التشغيل العمومي، استُنزفت الموارد المخصّصة للاستثمار المنتج، وكلما تراجع نمو القطاع الخاص، تصاعدت الضغوط لمزيد من الانتدابات العمومية.
وهذا المسار غير قابل للاستدامة. فمختلف المدارس الاقتصادية، الكينزية والكلاسيكية والمؤسساتية، تتقاطع عند حقيقة واحدة: خلق الثروة وفرص العمل على المدى الطويل لا يمكن أن ينبع إلا من قطاع إنتاجي ديناميكي وتنافسي. ويمكن للدولة أن تلعب دورًا محوريًا، لكن بصفتها محفّزًا ومنظمًا ومستثمرًا استراتيجيًا، لا كمشغّل جماعي.
تقف تونس اليوم عند مفترق طرق. فمواصلة النهج الحالي تقود إلى تفاقم أزمة المالية العمومية، وتدهور إضافي في جودة الخدمات العمومية، وتآكل القدرة التنافسية. أما البديل فيتطلّب شجاعة سياسية حقيقية: القبول بخيبة أمل قصيرة الأمد من أجل بناء مستقبل مستدام.
إن 687 ألف موظف عمومي سنة 2026 لا يعكسون قوة الدولة بقدر ما يكشفون هشاشة الاقتصاد. فالتحدي الحقيقي ليس امتصاص البطالة داخل الإدارة، بل تهيئة الظروف التي تجعل من القطاع الخاص المحرّك الرئيسي للتشغيل. ودون هذه التحوّل، ستبقى تونس حبيسة توازن عقيم: دولة مثقلة بالديون، وظيفة عمومية متضخّمة، وشباب لم تُستثمر طاقاته بعد.
بقلم: أنيس الوهابي : خبير محاسب ومحلل اقتصادي
الانتداب في الوظيفة العمومية: بين الاستعجال الاجتماعي وعدم قابلية استدامة الميزانية
- بقلم المغرب
- 15:13 25/12/2025
- 44 عدد المشاهدات
يخصّص قانون المالية لسنة 2026 حيّزًا هامًا من أحكامه