تقلق كلما اقترب شهرا ديسمبر وجانفي؟ هل اعتقادا من أن ما يمتحن الحكم تقليديا في تونسلا يحدث إلا في الشهرين المذكورين؟ من زاوية نظر موضوعية، فإن الأمر لا يتعلق بتاتا بالأشهر ولا بالأسابيع، بل بتوتر في صلب الجمهور، فيتصاعد القلق بتصاعد ذلك التوتر، ويكون بذلك اعترافا به، بل بالعجز الكامل عن اتقاء شروره. تواصليا، تزيد بروبغندا السلطة كلما زادت أزمتها، حيث أن سلطة ناجعة لا تحتاج من البروبغندا إلا نزرا يسيرا. ولكن ينبغي أن يكون لتلك البروبغندا رصيد، ولو كان قليلا، حتى تحقق الهدف منها. إنكار الأزمة هو بداية الإنحدار، وهو الذي يفشل البروبغندا حتى قبل أن تبدأ، ويفشل كذلك أي محاولة للمراجعة والإصلاح.
"ليس هناك أزمة". مع ذلك فإن القلق موجود، وهو يتعاظم بمناسبة مظاهرة للمعارضة، أو صدور أحكام في قضايا السلطة الكثيرة ضد معارضيها، أو بمناسة أزمة في قابس أو في القيروان أو المزونة. من الطبيعي أن تخشى أي سلطة انتشار احتجاجات معينة، وخروجها من منطقتها، وتجاوزها لأسباب اندلاعها المباشرة. عدم الإنزعاج هو أمر غير طبيعي. لكن هذا الإنزعاج يزيد تصاعديا عندما تكون السلطة غير متأكدة من رسوخ أقدامها في بيئة الحكم وغير واثقة من التقبل غير المشروط لسلطانها داخل الجمهور. ليس لهذا التقبل علاقة بالقوة المادية للسلطة وخضوع الناس لتلك القوة. لذلك فمنبع القلق ليس غضب الجمهور، وإنما عجزتلك السلطة عن أن تنجز له أشياء تدفعه بعيدا عن مسالك الغضب والإحتجاج.
هناك عامل آخر يفترض أن يخفض من منسوب القلق، وهو عندما يكون كل المعارضين أو أغلبهم أو أكثرهم خطورة، في وضعية عدم القدرة على الإيذاء، مثل أن يكونوا في السجن، أو أن يكونوا خارج البلاد. منطقيا، لا يتوافق قلق السلطة مع وجود المعارضين "خارج نطاق التغطية". لكن هناك، مع ذلك، قلقا. وهذا القلق لا يعود حتما لشعبية أولئك المعارضين، أو لقيادتهم أحزابا يتزاحم على أبوابهاالجمهور ، بل لمسلمة منطقية بسيطة تقول أن المعارضة تستفيد موضوعيا من فشل السلطة، وأنه كلما عجزت السلطة عن تقديم منجزات للجمهور تغير حياته نحو الأفضل، فإن ذلك الجمهور سيصغي، عاجلا أم آجلا، لتلك المعارضة. هذا قانون طبيعي لا ينفع معه 54، ولا قناة وطنية أولى، ولا جولات ليل أو فجر. بل إنه حتى إذا ما كانت تلك المعارضة غير قادرة على التعبير عن الإنتظارات وعن خيبة أمل الجمهور، فإن الجمهور سيختار من يحمل عنه يأسه أو غضبه أو في الحد الأدنى لا مبالاته. الحاجة هي ما ينتج المعارضة، فإنها تخترعها حتى لو لم توجد.
تملك سلطة اليوم كل شيء تقريبا: حكومة وميزانية، قوة صلبة فعالة ومطيعة، إعلاما ودودا، بل تكاد تتحرك في فضاء خال تماما مما ينغص عليها غبطتها بما أوصلت إليه البلاد من "نظام وحرية وعدالة". لكنها مع ذلك تضيف إلى ترسانة أدواتها التظاهر في الشارع، وتضع نفسها في مقارنة مع المظاهرات "الهزيلة"، رسميا، للمعارضة.لا يفترض أن سلطة تملك كل شيء تضع نفسها مثل هذا الموضع، وتدعو الناس للمقارنة بين عدد أنصارها في الشارع، وعدد معارضيها، خاصة عندما تكون تجارب سابقة قد بينت لها خطأها في دخول مثل هذا التنافس غير المفيد لصورتها وغير المقنع حتى لأشد أنصارها إخلاصا. لماذا تلجأ سلطة اليوم، التي تملك كل شيء وتحكم كما تريد بلا حاجز ولا حد، إلى مثل هذا السلوك؟ في نظام حكم عادي، لا تحتاج حكومة إلى التظاهر، فالصراخ اختصاص المعارضين المغلوبين على أمرهم والذين لم ينتخبهم الشعب، أو الذين أصبحوا "خارج التغطية". هي تضع سياسات وتنفذها فحسب، وهذه السياسات تفعل فعلها في الواقع فتقنع الجمهور بأنها سلطة منجزة وفعالة، وهي رسالة أبلغ بكثير من التظاهر على درج مسرح متهالك. لا يفسر ذلك مرة أخرى سوى القلق. قلق من عدم وجود ما يلقم المعارضة الأحجار المطلوبة، وقلق من أن ينفض الجمعمن حول الدولة القوية والعادلة وذات السيادة إلخ... تنجح السلطة بذلك في إثارة قلق أنصارها من حيث كانت نيتها أن تطمئنهم، لأن سلطة قلقة لا تنتج في نهاية الأمر غير القلق.
الحقيقة أيضا أن سلطة تنجز لا تزعجها معارضة تتظاهر أو وسائل إعلام غير منحازة أو حرية تعبير "منفلتة"، فقدرتها على الإنجاز كفيلة بإفشال كل خطط معارضيها مهما تظاهروا وصرخوا ونددوا، فإذا خشيت منهم كل ذلك فبسبب أن الرياح لا تجري بما تشتهيه. في الحالات العادية تتوقف السلطة لمراجعة نفسها حتى تعثر على موطن الخلل فتصلحه إن استطاعت، ويفترض أنها تستطيع. إذا لم تتفطن السلطة إلى مكامن الخلل، أو إذا لم تتوقف لفحص آلتها، فهذا مبرر إضافي للقلق، لأن المحكومين يتنبهون دون تأخير إلى أن المشكل أبعد وأعمق وأعسر على الحل... وهذا مدعاة لأخطر أنواع القلق.
بقلم: عدنان المنصر
قلق
- بقلم المغرب
- 15:09 25/12/2025
- 58 عدد المشاهدات
مالذي يجعل أنصار السلطة اليوم والسلطة نفسها أيضا