تونس في مفترق الطرق: من الاستقطاب الوجودي إلى تدبير الاختلاف

يواجه الخطاب السياسي في تونس اليوم مأزقاً هيكلياً

يتمثل في تحول النقاش العام إلى صدام "صفري"، تراجعت فيه القضايا الحيوية — كالأزمة الاقتصادية، والهجرة، والعدالة الاجتماعية — أمام معارك الهوية والشرعية. لم يعد الاختلاف تبياناً في وجهات النظر، بل تحول إلى صراع وجودي يُقصي الآخر ويراه تهديداً للدولة والمجتمع.
إن هذا الاستقطاب ليس قدراً محتوماً، بل هو نتاج طبيعي لبيئة سياسية جُففت منابع التعددية فيها طيلة ستة عقود من الحكم الفردي، مما أدى إلى تآكل وسائط الحوار وانهيار الثقة المتبادلة بين الفاعلين السياسيين والشارع.
أولاً: جذور الأزمة وميراث الاستبداد
إن إخفاق النخبة والأحزاب في بناء نقاش رصين لا يمكن فصله عن السياق التاريخي؛ فستة عقود من "التصحر السياسي" لم تُورث مؤسسات ديمقراطية، بل ورثت إدارة مركزية وثقافة سياسية لا تؤمن بالحلول الوسطى. ومن هنا تبرز ملامح الأزمة:
ثنائية التخوين والولاء: في غياب تجربة ديمقراطية تراكمية، ساد منطق يختزل النقد في "التآمر" والتأييد في "الانبطاح". هذا التبسيط يمحو حقيقة أن التونسيين يتشاركون هواجس مشتركة، لكنهم يفتقدون للآليات التي تحول هذا التشارك إلى فعل سياسي.
غياب "المساحات الوسطى": فُرض على الفكر السياسي التموقع في أقطاب حادة (مع أو ضد)، مما ألغى الحلول المركبة والواقعية التي تتطلبها تعقيدات المرحلة.
الانفعال الجماعي كآلية دفاعية: تحت وطأة الإحباط المعيشي، تحول النقاش من تحليل موضوعي للأزمات إلى تفريغ انفعالي واتهام أخلاقي، وهو نتيجة طبيعية لشعور المواطن بالإقصاء من دائرة الفعل.
ثانياً: دور الفاعلين في بناء البديل
إن الخروج من هذه الدوامة يتطلب إعادة تعريف أدوار المؤسسات والوسائط السياسية وفق مقاربة وظيفية:
الأحزاب السياسية: المطالبة اليوم بالانتقال من "خطاب المظلومية" أو "التعبئة الشعبوية" إلى دور "مختبرات الأفكار". إن وظيفة الحزب هي عقلنة المطالب الشعبية وتحويلها إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ، وتدريب كوادره على فن التفاوض التاريخي.
المجتمع المدني: يمثل "جسر الثقة" والرقيب النوعي. دوره يكمن في خلق فضاءات نقاش قاعدية تقرب وجهات النظر وتنتج حلولاً عملية بعيداً عن صراعات النخب في المركز، مما يعيد الاعتبار للفعل الجماعي.
مؤسسات الدولة: هي الضامن لحياد الفضاء العام. من خلال توفير البيانات الدقيقة (لغة الأرقام) وفتح قنوات التشاور قبل صياغة السياسات، يمكن للدولة أن تحول الصراع من الشارع إلى المؤسسات.
ثالثاً: نحو ثقافة سياسية واقعية
إن الرهان الحقيقي الذي تواجهه تونس ليس "إنهاء الخلاف"، فالاختلاف سمة المجتمعات الحية، بل في اكتساب "فن إدارة الاختلاف". الديمقراطية ليست مجرد إجراءات شكلية أو صناديق اقتراع، بل هي قدرة مؤسساتية ومجتمعية على تحويل تعارض الرؤى إلى قوة دفع للإصلاح.
إن الاعتراف بأن تعثر الأحزاب والوسائط هو نتيجة لغياب التجربة التاريخية (60 سنة من الانغلاق) هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح. فالمبتغى ليس استبدال الأسماء بأسماء، بل بناء وعي جمعي يرى في التعددية ثراءً، ويدرك أن قوة الدولة تكمن في قدرة مؤسساتها على استيعاب التناقضات لا قمعها.
تونس اليوم أمام مسؤولية تاريخية
إما الاستسلام لدوامة الاستقطاب التي لا تنتج إلا الشلل والجمود، أو البدء في بناء ثقافة حوار عقلانية تدرك أن عجز الأمة عن التحاور هو عجز عن الحكم الذاتي. إن نجاح الانتقال السياسي مرهون بقدرتنا على تحويل الصدام إلى تفاهم، والخلاف إلى محرك للتجديد الوطني الشامل.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115