من المؤكد أن عام 2025 لن يُحفر في الذاكرة كنقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم. لا "سقوط جدار برلين" الذي أعلن نهاية حقبة وبداية أخرى، ولا "11 سبتمبر" الذي أعاد تشكيل خريطة الأمن العالمي، ولا "حجر صحي عالمي" فرض على البشرية إعادة التفكير في نمط حياتها. ومع ذلك، فإن غياب اللحظة الفارقة هو بالضبط ما يحدد خصوصية هذا العام ويمنحه دلالته العميقة.
بمصطلحات الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben)، صار الاستثناء أمرًا مألوفًا: ما كان يُعتبر سابقًا أزمة مؤقتة تستدعي تدخلاً طارئًا أصبح اليوم أسلوبًا ثابتًا لإدارة العلاقات الدولية. لم يعد عدم اليقين حالة طارئة يُغلق عليها في أدراج الأزمات العابرة، بل أصبح الإطار الدائم الذي تُقاس من خلاله كل الممارسات السياسية وتُتخذ في ظله القرارات المصيرية.
ما يكشفه عام 2025 ليس تسارعًا وحشيًا للفوضى العالمية بقدر ما هو اعتياد جماعي على طبيعتها الهيكلية. فقدت الصراعات وضعها كحوادث شاذة تستدعي الحل العاجل، لتصبح ممتدة على المدى الطويل، متفرقة الجبهات، ومتشابكة الخيوط بشكل يصعب فك عقده. حتى الحرب نفسها تغيرت على المستوى الأنثروبولوجي العميق: توقفت عن كونها لحظة استثنائية تُعلق فيها القوانين المعتادة، وصارت نموذجًا دائمًا للسلطة المتدهورة. ما وصفه المفكر الألماني كارل شميت (Carl Schmitt) بـ"القرار السيادي" فيما يتعلق بالاستثناء، يختفي تدريجيًا في إدارة دائمة ومستمرة لحالة الطوارئ التي لا تنتهي.
دبلوماسية تواجه عجزها البنيوي
في هذا السياق المضطرب، من دونباس إلى الشرق الأوسط، ومن منطقة الساحل الإفريقي إلى المضائق الهندية الباسيفيكية، تكاثرت مسارح الحرب والتوتر دون أن تتمكن أي هيئة دولية من فرض وساطة فعالة أو تحقيق سلام دائم. يظل وقف إطلاق النار هشًا وقابلاً للانهيار في أي لحظة، وتتعثر المفاوضات في متاهات المناقشات الإجرائية التي لا تنتهي، وتكتفي المنظمات الدولية بإدارة الوضع الراهن دون القدرة على تغييره جوهريًا.
العجز في الدبلوماسية ليس مجرد إخفاق تقني يمكن معالجته بتحسين الآليات، بل هو أزمة شرعية حقيقية تطرح سؤالاً محوريًا: من الذي يملك الحق اليوم في الادعاء بتمثيل المصلحة العامة بعيدًا عن توازنات القوة الخام؟ من يستطيع أن يقف فوق الصراعات ويحكم بعدالة في عالم فقد مرجعياته المشتركة؟
الدبلوماسية، التي كانت في السابق فن تحويل الصراع المسلح إلى حل وسط دائم ومقبول من الجميع، تحولت في عصرنا إلى ممارسة بسيطة للحد من الأضرار. لم تعد تبني أفقًا سياسيًا واعدًا يمكن للجميع التطلع إليه؛ إنها الآن تماطل وتؤخر وتخفف من حدة الأزمات دون حلها. يعكس هذا التراجع الوظيفي استنفاد الخيال السياسي نفسه: ذلك الخيال الذي افترض إمكانية اجتماع المصالح الوطنية المتباينة بعقلانية نحو نظام مشترك يحقق مصلحة الجميع.
كما توقع المفكر الفرنسي ريمون آرون (Raymond Aron) في كتاباته الاستشرافية، فإن السلام لا ينبع ميكانيكيًا من الحسابات العقلانية للدول ومصالحها المادية؛ إنه يتطلب بنية مؤسسية قوية وإرادة سياسية حازمة، وكلاهما غائب اليوم بشكل صارخ عن المشهد الدولي.
تراجع القوى الضامنة للنظام
تمر القوى الكبرى في عام 2025 بمرحلة من التراجع الاستراتيجي الذي يصعب تسميته بدقة أو تحديد ملامحه الواضحة. رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي الكاسح، تظل الولايات المتحدة أسيرة استقطابها الداخلي الحاد الذي يشل قدرتها على التحرك بفعالية على الساحة الدولية. أوروبا، المنخرطة عميقًا في تناقضاتها المؤسسية والهوياتية، تكافح بصعوبة بالغة لتحويل قوتها المعيارية والأخلاقية إلى قدرة فعلية على التأثير في مجريات الأحداث.
أما روسيا، فقد حبست نفسها في منطق التحمل والصمود حيث تحل المقاومة الصلبة محل الاستراتيجية المرنة، في حين يظهر حذر الصين الدبلوماسي وعيها الحاد بالهشاشة الملازمة لصعودها السريع والتحديات الداخلية الكبيرة التي تواجهها.
تشير هذه الظاهرة المركبة إلى مفهوم المؤرخ البريطاني بول كينيدي (Paul Kennedy) حول "الارتباط الإمبراطوري المفرط": فالاحتفاظ بالنظام الدولي وصيانته أصبح أكثر كلفة اقتصادية وسياسية من فوائده المحتملة، ولا تظهر في الأفق قوة مهيمنة جديدة قادرة على ملء الفراغ كما كان الحال في انتقالات الإمبراطوريات الكلاسيكية عبر التاريخ.
العالم لا يتحول من مركز هيمنة إلى آخر بطريقة خطية؛ إنه يتراجع عن فكرة المركز ذاتها، ويتجزأ إلى كتل إقليمية، ويتسيّل في تحالفات مؤقتة وهشة. يذكرنا هذا الوضع غير المسبوق بصيغة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (Gramsci) الشهيرة حول فترات الانتقال التاريخي الكبرى: "العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد بطيء في الظهور، وفي هذا الشفق الغامض تظهر الوحوش".
تلاشي التوازن الدولي السابق
البنية المؤسسية الموروثة منذ عام 1945، التي بُنيت على أنقاض الحرب العالمية الثانية، ما زالت قائمة رسميًا وتمارس أعمالها اليومية، إلا أن نفوذها الحقيقي على الواقع يتضاءل يومًا بعد يوم. مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشلول تمامًا بفعل الإغلاقات المنهجية وحق النقض (الفيتو)، وتتحول قمم مجموعة السبع ومجموعة العشرين إلى مجرد بيانات ختامية طنانة بلا أثر ملزم أو إجراءات تنفيذية فعلية، بينما تُتجاهَل قرارات المحاكم الدولية بكل بساطة من قبل الدول القوية.
هذا التآكل المؤسسي لا ينشأ عن رفض صريح ومباشر للنظام الدولي، بل عن تجاوز تدريجي وصامت؛ إذ تميل الدول المعاصرة إلى التحالفات المخصصة لكل قضية، والترتيبات الثنائية أو متعددة الأطراف خارج الأطر التقليدية، والمنتديات غير الرسمية التي تتشكل وتتفكك حسب الحاجة.
يكشف هذا التحول عن عمق التغير في العلاقة مع القانون الدولي: لم يعد هناك افتراض مسبق بوجود قانون عالمي سامٍ يحدد السيادة ويضبط سلوك الدول، بل يعمل العالم المعاصر وفق قواعد مرنة ومتغيرة تولد من الفاعلين أنفسهم لكل قضية على حدة. يفسح التماسك العالمي الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين المجال لتوازنات محلية غير مستقرة وقابلة للمراجعة في أي وقت.
ندخل اليوم في ما كان سيسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (Zygmunt Bauman) بـ"السيولة الدولية"، حيث تصبح الالتزامات قابلة للتراجع عنها والتحالفات قابلة للاستبدال كالبضائع في سوق مفتوح.
المدى القصير كأفق سياسي وحيد
تكمن إحدى المفارقات الكبرى في عصرنا في تعايش فترتين زمنيتين متناقضتين بشكل صارخ. من جهة، القضايا الهيكلية الكبرى – مثل الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية، والتحولات الديموغرافية العميقة، والتطورات التكنولوجية المتسارعة – تمتد على المدى الطويل وتتطلب استجابات منهجية ومتسقة عبر عقود. ومن جهة أخرى، يظل الحكم الفعلي والممارسة السياسية اليومية أسير الحاضرية القصوى، حيث تُتخذ القرارات تحت ضغط الأسواق المالية المتقلبة ووسائل التواصل الاجتماعي الفورية والمواعيد الانتخابية القريبة.
يولد هذا التنافر الزمني الحاد شكلاً خطيرًا من أشكال العجز الاستراتيجي. يصبح المستقبل مجرد فئة بلاغية جوفاء، يتم استدعاؤه بكثرة في الخطابات الرسمية والتصريحات الإعلامية ولكن يتم التضحية به بشكل منهجي في التحكيمات الملموسة والقرارات الفعلية.
أوضح المؤرخ الألماني رينهارت كوسليك (Reinhart Koselleck) في أعماله النظرية كيف تميزت الحداثة الكلاسيكية بتوسيع "أفق التوقع" والثقة في إمكانية صنع المستقبل، بينما نشهد اليوم الظاهرة المعاكسة تمامًا، حيث يضيق نطاق الاحتمالات الممكن تصورها ويتقلص الأفق الزمني للسياسة.
الخوف كدعامة للسياسة المعاصرة
بالإضافة إلى الحركات الشعبوية، التي تمثل مجرد طبقة سطحية ومظهرًا خارجيًا من أزمة أعمق بكثير، يهيمن الخوف الآن على السلوكيات الجماعية ويشكل خلفيتها النفسية: خوف الطبقات الوسطى من فقدان مكانتها الاجتماعية والاقتصادية، وخوف القوى المراجعة من الحصار والاحتواء، وخوف الدول الهشة من الانزلاق نحو الفوضى الكاملة، وخوف الديمقراطيات المسنّة من التقادم وفقدان الفعالية.
هذه المشاعر المتراكمة ليست نتيجة تلاعب متعمد من نخب سياسية معينة، بل هي نتاج تراكم تاريخي طويل فقدت فيه البوصلة والمعالم الواضحة التي كانت توجه المجتمعات.
جعل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (Hobbes) الخوف أساس العقد الاجتماعي في نظريته الشهيرة: من أجل الهروب من العنف المعمم في "حالة الطبيعة"، يوافق الأفراد على التنازل عن جزء من حريتهم لسلطة سيادية قوية تحميهم. لكن الخوف المعاصر لم يعد يجد سيادة واضحة وقادرة على استحضاره وتوجيهه نحو عقد اجتماعي جديد.
يتفشّى الخوف اليوم في فضاء سياسي مفكك ومجزأ، بلا هيئة مركزية قادرة على تأمين الأمن بشكل كامل وشامل. وهنا يظهر بوضوح السعي اليائس نحو تبسيط الأمور الذي تحمله الخطابات الشعبوية: فهي تمنح في مواجهة واقع معقد ومتشابك وضوحًا مزعومًا وزائفًا، وحلاً سريعًا وسحريًا، وشخصًا محددًا أو جماعة بعينها لتوجيه اللوم إليها.
الأزمة المتعددة كحالة وجودية دائمة
إن مفهوم "الأزمة المتعددة" (Polycrisis)، الذي صيغ أكاديميًا لوصف تداخل الأزمات المعاصرة وتفاعلها، يتوقف عن كونه مجرد فئة تحليلية يستخدمها الباحثون ليصبح حالة وجودية يعيشها الناس يوميًا. الأزمة المناخية، والأزمة الجيوسياسية، والأزمة الديمقراطية، والأزمة المعرفية وأزمة الحقيقة: هذه الأبعاد المختلفة لا تتعاقب في ترتيب زمني منطقي، بل تتشكل معًا وتتغذى على بعضها البعض.
أي تدخل في أحد هذه الأبعاد ينتج حتمًا آثارًا جانبية غير متوقعة على الأبعاد الأخرى، وأي حل جزئي يعالج مشكلة معينة يولد مشاكل جديدة في أماكن أخرى من النظام. هذا ليس سوء حظ عابر بل سمة بنيوية للواقع المعقد الذي نعيش فيه.
يتحدى هذا التعقيد المنهجي أنماط الحكم الموروثة من القرن العشرين، والتي افترضت بثقة إمكانية الإدارة القطاعية المنفصلة للقضايا: وزارة للاقتصاد، وأخرى للبيئة، وثالثة للشؤون الخارجية، كل منها تعمل في مسارها الخاص. لقد نظّر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران (Edgar Morin) منذ عقود إلى ضرورة "التفكير المعقد" القادر على احتواء المعرفة المجزأة وربط خيوطها؛ ومن الواضح للأسف أن مؤسساتنا السياسية ولا عاداتنا الفكرية قد تكيفت حتى الآن مع هذا المطلب الملح. ما زلنا نحاول فهم واقع القرن الحادي والعشرين بأدوات فكرية ومؤسسية تعود إلى القرن العشرين أو حتى التاسع عشر.
السكن في اللايقين
لا يدل عام 2025 على انهيار شامل ونهائي للعالم كما نعرفه، ولا على استعادة للنظام السابق الذي عرفناه في القرن الماضي. يمثل هذا، بدلًا من ذلك، استقرارًا في صيغة تاريخية مختلفة، يمكن، مع استلهام أفكار عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك (Ulrich Beck)، أن يوصف بأنه "مجتمع المخاطر العالمي" الذي بلغ مرحلة النضج والتبلور الكامل.
لم يعد عدم اليقين عيبًا عابرًا في النظام يمكن إصلاحه بقرار سياسي أو معاهدة دولية، بل تحول إلى حقيقة هيكلية علينا التعايش معها. لم يصبح العالم بالضرورة أكثر فوضوية مما كان عليه؛ إنما نحن الذين فقدنا تدريجيًا الثقة العمياء في قدرتنا على ضبطه والتحكم فيه وفق إرادتنا.
هذا الوضوح المرهق والقاسي لا يوازي الاستسلام السلبي أو العدمية، بل يفتح أمام السياسة آفاقًا جديدة أكثر تواضعًا تعترف بحدودها وتقبلها. لم يعد الادعاء الحداثي بالسيطرة الكاملة على العالم وتشكيله وفق مخططات مسبقة ممكنًا أو مرغوبًا؛ صار الصبر في الإبحار الحذر بين الظلال والمجهول هو الفن السياسي الحقيقي المطلوب.
لم يعد وهم الحل النهائي الشامل لكل المشاكل قائمًا، بل صارت الإدارة المؤقتة والمرنة للأزمات المتتالية ممارسة حتمية لا مفر منها. ولم يعد الحنين الرومانسي إلى النظام المفقود والعصر الذهبي الموهوم ذا معنى أو جدوى، بل أصبح ابتكار أشكال جديدة وغير مسبوقة للتعايش مع عالم يفتقد المركزية والهرمية الواضحة هو التحدي الحقيقي والمطلوب.
كما اقترحت الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت (Hannah Arendt) في تأملاتها العميقة حول الفعل السياسي، فإن العمل السياسي الحقيقي والأصيل يبدأ فقط حيث تنهار اليقينيات الزائفة وتسقط الأقنعة. قد يكون عام 2025 هو السنة التي شرع فيها العالم، ربما وبصعوبة كبيرة، في استيعاب هذه الحكمة الصعبة والقاسية لكن الضرورية: أن نتعلم كيف نسكن في اللايقين دون أن نفقد القدرة على الفعل والأمل.
بقلم أمين بن خالد
عام 2025 أو التعود على اللايقين
- بقلم المغرب
- 15:00 24/12/2025
- 49 عدد المشاهدات
عام بلا لحظة فارقة