وتُقايض فيه الأرواح بالمصالح الجيوسياسية، تبرز غزة اليوم كجدار أخلاقي تتكسر عليه كل ادعاءات الحداثة والإنسانية. كيف يمكن أن تُباد منطقة محاصَرة منذ أكثر من 17 عامًا، ويُقتل عشرات الآلاف من المدنيين أمام كاميرات الإعلام، دون أن يتحرك الضمير العالمي؟ وما الذي تكشفه هذه اللامبالاة الجماعية عن طبيعة النظام العالمي الراهن؟ وهل لا تزال الإنسانية قابلة للدفاع عنها بعد كل هذا؟
السوسيولوجيا في مواجهة "العجز الأخلاقي" الكوني
تُجبَر السوسيولوجيا المعاصرة على مغادرة أسئلتها التقليدية لتواجه سؤالًا جوهريًا: كيف يُنتج العالم المعاصر هذا الكم من الوحشية، بآليات بيروقراطية وتكنولوجية، وسط ادعاءاته التقدمية والحقوقية؟ في هذا السياق، نجد أنّ ما يجري في غزة ليس فقط جريمة حرب، بل هو اختبار قيمي وسوسيولوجي شامل:اختبار للنظام الدولي القائم على القوة لا العدالة.واختبار للنظام الإعلامي القائم على الهيمنة لا الحقيقة.واختبار للضمير الإنساني في زمن الفردانية المعولمة واللامبالاة الشعورية.
من أوشفيتز إلى غزة: إبادة "موثّقة" وصمت كوني
في حين كانت الإبادات التاريخية تتم في الظل أو السرّية، فإن ما يجري في غزة يتم أمام العلن:صور الأطفال تحت الأنقاض، المستشفيات المدمّرة، المجازر بحق العائلات، تتدفق لحظة بلحظة. لم يعد الصمت جهلًا، بل فعلًا واعيًا بالمشاركة أو التواطؤ أو العجز.
هذه المشهدية الدموية تجعل من غزة اليوم ما يشبه "أوشفيتز معاصرة" تحت الرقابة الجماهيرية الصامتة، كما أشار بعض المثقفين العالميين، مما يستدعي طرح سؤال حنة أرندت مجددًا: كيف يتحول الشر إلى أمر عادي؟
اللامبالاة كمفعول اجتماعي: من التعاطف إلى الاستهلاك العاطفي .. بحسب لوسيان بولتانسكي في كتابه "المعاناة عن بعد" (La souffrance à distance)، فإن المشاهدة المستمرة للعنف تُنتج نوعًا من التخدّر العاطفي، حيث يصبح التفاعل مع المآسي مجرّد استهلاك عابر.في حالة غزة، تتحول المجازر إلى تكرار رقمي على الشاشات.
ونشهد ظاهرة "التعاطف المؤقت"، يليه "الملل الإخباري"، ثم "النسيان الجماعي".وهذا ما يشكّل تواطؤًا جماهيريًا غير مباشر مع الجريمة، حيث يُحوّل الألم إلى مادة للفرجة، لا دافعًا للفعل.
التواطؤ الدولي: حين تنكشف البُنى الكولونيالية المعاصرة
ما يحدث في غزة يكشف عن استمرار المنطق الاستعماري في النظام العالمي: ودعم غير مشروط من قوى غربية لإسرائيل، رغم الجرائم الموثقة. مؤسسات أممية عاجزة أو خاضعة (كالأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية). وازدواجية خطابية فاضحة في توصيف الضحايا والجلادين.
تُظهر هذه الحالة ما يسميه محمود ممداني بـ"التفريق بين الضحايا الحقيقيين والضحايا غير القابلين للاعتراف"، حيث يُنفى عن الفلسطينيين وضع الإنسان، ويُمنح المعتدي شرعية أخلاقية.
أزمة الفعل الجماعي: عولمة الفرد وانهيار التضامن. في سياق الحداثة النيوليبرالية، تراجع الإحساس بالواجب الجماعي:
الفرد مشغول بـ"بُنيته الذاتية": النجاح، المتعة، الاستهلاك. والتضامن تحوّل إلى هاشتاغات، والمقاومة اختزلت في منشورات غاضبة.
يُبيّن زيغمونت باومان في "الحداثة والهولوكوست" أنّ الحداثة لا تمنع الجريمة بل تسهّلها إذا ما انفصلت عن الأخلاق. وما غزة إلا دليل على ذلك: تقنية قتل عالية، تبرير سياسي متقن، ولا مقاومة تذكر من المنظومة العالمية.
غزة: المقاومة كمعنى والضحايا كمرآة:
رغم كل الوحشية، تظل غزة فضاء للمقاومة الرمزية والوجودية، مجتمع لا يزال يدرّس، يكتب، يحلم، يحتفل بالحياة رغم الموت. ومقاومة شعبية، فكرية، إنسانية، تفضح "نهاية الأخلاق الدولية".
مع كل طفل يُنتشل من تحت الركام، يُطرح سؤال: من المتوحش؟ من المتحضر؟
غزة هنا ليست ضحية فقط، بل معلّمة للإنسانية، تُذكّرنا أن الحياة موقف، وأن الدفاع عن الكرامة لا يُقاس بعدد الصواريخ بل بصلابة الوعي.
نحو سوسيولوجيا أخلاقية جديدة
إن ما يحدث في غزة اليوم يدفعنا لإعادة التفكير في الإنسانية لا بوصفها مفهومًا قانونيًا أو إعلاميًا، بل كمسؤولية أخلاقية سياسية ثقافية.
السؤال لم يعد: هل نحن بشر؟ بل: ما معنى أن تكون إنسانًا في زمن تُباد فيه شعوب وأنت صامت؟غزة ليست فقط مأساة فلسطينية، بل مرآة لكل المجتمعات: إما أن نختار أن نكون شهودًا وأحرارًا، أو أن نصير متفرجين في محرقة عالمية جديدة.
بقلم ممدوح عز الدين :باحث في علم الاجتماع
ما الذي تبقّى من الإنسانية عن التواطؤ العالمي مع الإبادة في زمن الشاشة: حالة غزة نموذجًا
- بقلم المغرب
- 15:21 23/12/2025
- 39 عدد المشاهدات
في زمن تُختزل فيه المآسي في مشاهد متكررة عبر الشاشات