المجموعات غير المنظمة ومأزق الفعل السياسي في تونس

أفرز مسار 25 جويلية في تونس شكلًا خاصًا

من الانخراط السياسي، اتسم بحضور واسع لأفراد ومجموعات مسانِدة اختارت العمل خارج الأطر الحزبية والتنظيمية التقليدية. وقد بدا هذا الخيار، في لحظته الأولى، تعبيرًا عن قطيعة واعية مع منظومة حزبية فقدت ثقة جزء كبير من الرأي العام، وعن رغبة في استعادة السياسة من قبضة الهياكل التي تحولت، في المخيال الشعبي، إلى أدوات صراع على المواقع أكثر منها فضاءات لإنتاج المعنى . غير أنّ هذا الانخراط، القائم في جوهره على اللّاتنظيم، سرعان ما كشف عن مفارقة بنيوية: فبينما منح الفعل العفوي قدرة على التعبئة السريعة، فإنه في المقابل أضعف شروط الاستمرار، وأدخل هذا الدعم السياسي في مأزق تمثيلي وتنظيمي عميق.
إن العمل السياسى اللامنظَّم، حين يُمارَس بوصفه خيارًا دائمًا لا مرحلة انتقالية، لا يظل مجرّد مسألة تقنية، بل يتحول إلى إشكال فلسفي وسياسي يمسّ جوهر الفعل الجماعي. فالفعل السياسي، بخلاف التعبير الفردي الاخلاقى، لا يتحقق فقط بصدق النية أو حدة الغضب، بل بقدرته على التحول إلى قوة لها شكل، وذاكرة، واستمرارية. وهنا تتبدّى أزمة التمثيل بوصفها العقدة المركزية لهذا النمط من العمل السياسي. فمن يتكلم باسم هذه المجموعات؟ ومن يحدد أولوياتها؟ ومن يتحمل مسؤولية خياراتها أو أخطائها؟ في غياب إجابات واضحة ومشتركة، تتحول “الإرادة الشعبية” إلى مفهوم عائم، يُستدعى عند الحاجة، ويُعاد تأويله بحسب السياق، دون أن يمتلك تجسيدًا سياسيًا معترفًا به.
يبيّن بيير روزانفالون في كتابه " الشعب المتعذِّ " أن الشعب، في الديمقراطيات الحديثة، ليس معطًى جاهزًا، بل بناء سياسي ورمزي يحتاج إلى آليات تمثيل وتجسيد. فالحضور في الشارع، مهما كان كثيفًا، لا يكفي وحده لإنتاج شرعية قادرة على الفعل. الشرعية ليست شعورًا ذاتيًا بالحق، بل نتيجة مسار تنظيمي يمنح الصوت شكلًا سياسيًا يمكن مساءلته ومحاسبته. ومن هذا المنظور، لا يكمن الخطر الأكبر في غياب قيادة معلنة، بل في الفراغ الذي يخلّفه هذا الغياب، والذي سرعان ما يُملأ من الخارج، سواء عبر السلطة التي تعيد تأويل هذا الدعم وفق حاجاتها، أو عبر الإعلام الذي يصنع له صورة نمطية، أو عبر قوى سياسية منظمة تستثمر في غموضه.
هذا الفراغ التمثيلي لا يبقى حبيس التنظير، بل ينعكس مباشرة على الممارسة السياسية اليومية. فالدفاع عن مسار 25 جويلية، أو نقد بعض اختياراته، أو تصويب انحرافاته المحتملة، يتطلب حدًّا أدنى من التنسيق والاتساق الخطابي. غير أن العمل اللامنظَّم يجعل كل فرد يتحدث من موقعه الخاص، وبمرجعيته الخاصة، ما يؤدي إلى تضارب المواقف وتناقض الرسائل. وبدل أن يتحول التعدد إلى ثراء، يتحول إلى تشويش، وبدل أن يعزّز الحضور العمومي، يضعف المصداقية العامة لهذا الدعم.
كما أن غياب الهياكل يحول دون تكوين خبرة جماعية متراكمة. فلا توجد آليات داخلية لتقييم الأداء، ولا فضاءات منظمة للنقاش، ولا ذاكرة تحفظ الدروس المستخلصة من التجربة. كل موقف يُستهلك في لحظته، وكل جدل ينتهي بانتهائه، دون أن يترك أثرًا بنائيًا. وهكذا يُعاد إنتاج الأخطاء نفسها، ويُعاد طرح الأسئلة ذاتها، في حلقة مفرغة من التفاعل الانفعالي الذي يفتقر إلى أفق استراتيجي.
وتتفاقم هذه الإشكالات أكثر عندما ينتقل الفعل السياسي من مستوى الدعم الرمزي إلى مستوى المعارك السياسية الكبرى، وعلى رأسها الاستحقاقات الانتخابية. فالانتخابات، مهما كانت طبيعتها أو شروطها، تفرض منطقًا مختلفًا عن منطق التعبئة الظرفية. إنها تفترض تنظيمًا ميدانيًا، وضبطًا للرسائل، وإدارة للحملات، وقدرة على التفاوض والتحالف، إضافة إلى آليات لمراقبة العملية الانتخابية نفسها. وهي متطلبات لا يمكن تلبيتها عبر الحماس وحده، ولا عبر شبكات علاقات عفوية تفتقر إلى التنسيق.
في هذا السياق، يكتسب تحليل أنطونيو غرامشي أهمية خاصة. ففي كتاب" كراسات سجن" يؤكد أن التغيير السياسي الحقيقي لا يتحقق عبر الانفجارات المعزولة، مهما كانت شدتها، بل عبر تراكم استراتيجي طويل الأمد. فالثورة، في نظره، ليست لحظة، بل مسار تاريخي يتطلب تنظيمًا، وإنتاج معرفة، وبناء هيمنة ثقافية مضادة قادرة على الصمود أمام الزمن. غير أن اللّاتنظيم يحول دون هذا التراكم، لأن كل تحرك احتجاجي يصبح نهاية في ذاته، لا خطوة ضمن مسار أوسع.
تُستهلك الطاقة في الشارع، ولا تتحول إلى مكاسب دائمة. لا تتكوّن قيادات قادرة على الاستمرار، ولا يُنتج خطاب سياسي قابل للتداول والتطوير، ولا تُبنى شبكة علاقات تحمي الحركة في لحظات التراجع أو الهجوم المضاد. وهنا يصبح الزمن عدوًّا للحركة بدل أن يكون رصيدها، إذ كلما طال المسار، تكشّفت هشاشة البنية أكثر.
ويعزّز كلود لوفور هذا التحليل حين يبيّن، في كتاب " الاختراع الديمقراطى"، أن الديمقراطية الحديثة لا تلغي الوساطات، بل تعيد تشكيلها. فالأحزاب، والنقابات، والمؤسسات الوسيطة، ليست بالضرورة أدوات هيمنة، بل يمكن أن تكون فضاءات لتنظيم الاختلاف وتحويله إلى قرار. ورفض هذه الوساطات باسم “الشعب المباشر” غالبًا ما يؤدي إلى نتيجة عكسية: فراغ سياسي تستفيد منه قوى أكثر تنظيمًا، لا تحرر فعلي للإرادة الشعبية.
تكشف تجربة المجموعات المسانِدة لمسار 25 جويلية، في عمقها، عن سوء فهم شائع لمفهوم التنظيم، حين يُختزل في صورته التاريخية الأكثر ابتذالًا: الحزب المغلق، القيادة العمودية، والانضباط القسري. والحال أن هذا الفهم لا يعكس جوهر التنظيم بقدر ما يعكس ذاكرة سياسية مثقلة بتجارب فاشلة. فالتنظيم، في معناه الفلسفي والسياسي الأعمق، لا يشكّل نقيضًا للحرية، بل أحد شروط إمكانها التاريخي. إنه ليس بالضرورة عودة إلى الوصاية الحزبية القديمة، ولا مصادرة للإرادة الجماعية، بل قد يكون أداة لحمايتها من التشتت، ومن الاستهلاك السريع، ومن الاختطاف الرمزي والسياسي.
من هذا المنظور، لا يتمثل التحدي الحقيقي في الاختيار الثنائي العقيم بين التنظيم واللّاتنظيم، بل في إعادة تخيّل التنظيم نفسه. أي في ابتكار أشكال مرنة، مفتوحة، قابلة للمراجعة، تتيح تجسيد الصوت الجماعي دون تجميده، وتنظيم الاختلاف دون قمعه، وبناء استراتيجية دون تحويلها إلى عقيدة مغلقة. فالمطلوب ليس استنساخ نماذج تنظيمية استُهلكت تاريخيًا، بل التفكير في حدٍّ أدنى من التنظيم بوصفه أفقًا وظيفيًا لا هوية مغلقة: تنظيم يتيح التراكم دون أن يخنق المبادرة، ويمنح الاستمرارية دون أن يُفرغ الفعل من روحه النقدية.
إن هذا الأفق يفتح إمكانات تفكير جديدة في المستقبل السياسي، حيث لا يكون التنظيم جهازًا فوق المجتمع، بل ممارسة داخلية تنبع من الحاجة إلى الاستمرار، لا من هاجس السيطرة. تنظيم يُبنى حول قضايا ملموسة، وأهداف قابلة للتقييم، وآليات شفافة للمساءلة، بدل أن يُختزل في ولاءات شخصية أو شعارات عامة. وفي هذا المعنى، يصبح التنظيم فعلَ تعلّم جماعي بقدر ما هو أداة صراع، ومسارَ نضج سياسي بقدر ما هو تقنية إدارة.
دون هذا الحد الأدنى، يظل الدعم مشتتًا، والصوت ضعيفًا، والمسار نفسه عرضة للتأويل والإنهاك. ويظل العمل السياسي حبيس اللحظة، محكومًا بمنطق ردّ الفعل بدل الفعل، عاجزًا عن التحول إلى مشروع طويل النفس. فالتاريخ لا يُصنع فقط بالاندفاع، بل بالقدرة على الصبر، وعلى البناء داخل الزمن، وعلى تحويل الذاكرة إلى أفق لا إلى عبء.
و هكدا لا تكمن أزمة العمل السياسى اللامنظَّم في نقص الحماس أو في غياب صدق النوايا، بل في عجزه البنيوي عن الانتقال من الغضب إلى السياسة، ومن الدعم الانفعالي إلى القوة التاريخية. أما المستقبل، فلا يُفتح أمام من يرفض التنظيم باسم الحرية، ولا أمام من يؤبّده باسم الانضباط، بل أمام من يجرؤ على إعادة التفكير في أشكال الفعل الجماعي ذاتها، بوصفها سؤالًا مفتوحًا لا إجابة نهائية له.
نوفل حنفى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115