وعن مدى كونية أفكاره،هو سؤال لا يتمّطرحه عبر إخراج هذا الفكر من سياقه التاريخي، بل عبر تعميق هذا السياق والتشبث به، إلى الحدّ الذي يصبح فيه نموذجاً نظرياً قابلاً للتعميم. فالكوني لا يولد من الفراغولا من مجرد التعميم، وإنما ينبثق من تجربة تاريخية مشروطة، حين تبلغ من الكثافة الفكرية ما يجعلها صالحة لأن تُقرأ خارج موضعها الأصلي. وحين تستنبت مفاهيمها وأدواتها النظرية من تربة أو صعيد تستصلحه بنفسها أو تنشؤه إذا اقتضى الأمر ذلك. بهذا المعنى، لا يكون الحداد مفكراً تونسياً فحسب، بل مختبراً مفاهيمياً مبكّراً لرهانات الحداثة غير الأوروبية.
في تصوّره للأسرة، لم يتعامل الحداد مع العائلة بوصفها وحدة بيولوجية أو تقليدا اجتماعيا جامدا، بل حدسها باعتبارها بنية رمزية لإنتاج السلطة. فلم يكن نقده تعديلاً جزئياً لأعراف الزواج والطلاق، بل تفكيكاً لصيغة التمييز بين الذكورة والأنوثة باعتبارها نظاماً معرفياً وأخلاقياً سلطويا. وهنا يمكن رفع فكره إلى الكونية عبر ربطه بمفهوم "تقنيات الجسد"لدى ميشال فوكو، فهو يلوح باعتباره أوّل من جعل الجسد العربي - الأنثوي تحديداً - موقعاً للصراع على الحرية والمعنى، لا موضوعاً للوصاية. فتصبح "مسألة المرأة"/ الانسان، عنده سؤالاً أنطولوجياً: من يملك حق تعريف الإنسان؟
أما المدرسة، فليست عند الحداد مجرد مؤسسة للتعلّم، بل جهازا لإعادة إنتاج التفاوت الرمزي بين الأفق التقليدي والحديث. بين الواقع المزري والأفق المنشود. فهو لا يطالب بتعليم محايد بالمعنى التقني، بل بتربية تحرّرية تجعل من التفكير،لا الحفظ، أساس الشرعية المعرفية. ويمكن اليوم الذهاب نحو: كَوْننةL’universalisation،هذا الطرح عبر ربطه بفلسفة التربية النقدية العالمية: باولو فريري، جون ديوي، بل وحتى برؤية إيفان إيليتش حول "نزع المدرسة عن المجتمع". يصبح الحداد، عندئذ، مفكراً في الحق الكوني في التفكير لا في التلقين.
فيما يخص المرأة، ما نعاينه هو أن مطالب الحداد تتجاوز مطالب الإصلاح القانوني،لترتفع إلى:مرتبة التصور الاجتماعي البديل للذات الأنثوية. وهو ما يمكّن من رفع ذلك- فكريا على الأقل- إلى مستوى كوني، بقراءته بوصفه نقداً مبكراً لما تسميه النسوية المعاصرة "العقد الاجتماعي الذكوري".فهو لا يطالب بحقوق المرأة لأنها نصف المجتمع، بل لأنها معيار عدالة المجتمع نفسه. هنا يصبح الحداد قريباً من سيمون دي بوفوار قبل دي بوفوار، ومن نانسي فريزر قبل نانسي فريزر: ان المرأة ليست قضية نسويةوفئوية، بل هي مرآة الفلسفة السياسية كلها.
انه ضرب من كونية الحداد إذن، كونية لا تكمن في استنساخ هذا المفكر في سياقات أخرى، بل في جعله جزءاً من سجل عالمي للأسئلة المفتوحة: الأسرة بوصفها نظام سلطة والمدرسة بوصفها فضاء تحرّر أو ضبط والمرأة بوصفها معياراللكرامة الإنسانية. بهذا المعنى، لا يُقرأ الحداد بوصفه مفكّرا محليا، بل باعتباره "حدثا فكريا"بالمعنى الدولوزي، حدث يمكن إدراجه في تاريخ الفكر الكوني حول الحداثة والحرية والجسد والمعرفة، وفي تاريخ سجالاته تلك.
انه لا يمكن النظر إلى تجربة الطاهر الحداد بوصفها مجرد حلقة ضمن سلسلة الإصلاحات الفكرية في تونس مطلع القرن العشرين، بل ينبغي قراءتها بوصفها لحظة مفصلية في تشكّل سؤال الحداثة خارج المركز الأوروبي. إن القيمة الحقيقية لهذا المفكر تكمن في كونه لم يسعَ إلى استيراد نموذج جاهز للحداثة، ولا إلى تبرير وضع قائم باسم التقاليد، بل حاول أن يؤسس لمنطق ثالث: حداثة تنبع من داخل البنية الاجتماعية ذاتها، عبر تفكيك آليات إنتاج السلطة داخل الأسرة، والمدرسة، والجسد، واللغة. ففي كتابه: امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930)، أو في باقي كتاباته وتأملاته المنشورة في الأعمال الكاملة المتكوّنة من ثلاث مجلدات. لم يتعامل الحداد مع وضعية المرأة بوصفها "مسألة أخلاقية" أو "مشكلة فقهية"، بل باعتبارها نقطة تقاطع بين القانون والعرف والاقتصاد والخيال الاجتماعي. هذا التفكيك المبكر يضعه، من حيث العمق النظري، قريباً مما سوف يطوره ميشال فوكو لاحقاً وفي فضاء مغاير تماما، حول "الميكروفيزياء الاجتماعية للسلطة" حيث لا تُمارس السلطة فقط عبر الدولة، بل من خلال التفاصيل اليومية للعلاقات الأسرية والتربوية Foucault, Histoire de la sexualité I, 1976, pp. 92–120..
لقد أدرك الحداد، وقبل أن تستقر هذه المفاهيم في الفكر الغربي، أنّ الأسرة ليست وحدة طبيعية بل جهازاً رمزياً لإعادة إنتاج الخضوع. وهو بذلك لا يطلب تعديلا طفيفا في قوانين الأحوال الشخصية، بل يعمل على هزّ الأساس الأنثروبولوجي الذي تقوم عليه علاقة الذكورة بالأنوثة. ان هذا الوعي هو ما يجعل نصّه نصا مفتوحاً على أفق كوني، نص قاومه المستعمر في شخص المقيم العام، (ولنعد الى رسالته الى المقيم العام المصاغة بأسلوب حجاجي متين)، قبل أن تفعل ذلك قوى المجتمع المحافظة. لأنّ سؤال الأسرة باعتبارها بنية سلطة هو سؤال عابرللثقافات وللأنظمة الاجتماعية والرمزية في كل مكان، بل هو سؤال سوف يجد أصداءه لاحقاً لدى سيمون دي بوفوار في Le Deuxième Sexe (1949) عندما تعتبر أن المرأة لا تولد امرأة بل تُصنع كذلك، اجتماعياً (Beauvoir, 1949, vol. II).
أما فيما يتعلق بالتعليم وبالمدرسة، فإن الحداد لم ينظر إلى هذه المؤسسة باعتبارها ميدانا للترقية الاجتماعية فحسب، بل بوصفها جهازاً لإعادة إنتاج التراتب بين من يملك حق الفهم ومن يُطلب منه الطاعة. فهو بذلك يسبق بكثير أطروحات باولو فريري في Pedagogy of the Oppressed (1970)، "التربية في خدمة المقهورين" أو"تربية المقهورين"، حيث تتحول التربية من عملية "إيداع" للمعرفة أو تعليم لها، إلى فعل تحرري. إلا أن خصوصية الحداد تمكن في أنه صاغ هذا النقد من داخل مجتمع لم يحقق بعد شروط الدولة الاجتماعية، مما يسمح بقراءة أطروحته في ضوء تحليلات جورج بالانديه للوضعية الاستعمارية التي تجعل من التعليم أداة مزدوجة: للترقية الظاهرية، ولإعادة إنتاج التبعية البنيوية والتخلص منها. (Balandier, Sociologie actuelle de l’Afrique noire, 1955).
أما اذاانتقلنا إلى مسألة التنمية والاقتصاد الرمزي للهيمنة، فإن فكر الحداد يلتقي، بصورة ضمنية، مع نظرية التبعية التي طورها سمير أمين فيLe Développement inégal (1973). فالعجز عن تحديث أوضاع المرأة والتعليم ليس ناتجاً عن "تخلف ثقافي" داخلي فحسب، بل عن إدراج غير متكافئ للمجتمع التونسي داخل منظومة عالمية- للمركز الاستعماري-وضعية تحافظ على هشاشته البنيوية.وبهذا المعنى، يصبح مشروع الحداد محاولة مبكرة لتفكيك علاقة المركز بالهامش/ الأطراف، على المستوى الاجتماعي اليومي – الميكرو-اجتماعي-لا على مستوى الاقتصاد السياسي عامة.
إن القيمة الفكرية والفلسفية للحداد لا تتمثل في مضمون أطروحاته فحسب، بل في نمط التفكير الذي مارسه وصاغه: تفكير لا ينطلق من مفاهيم جاهزة، بل من تشخيص تناقضات الواقع المعيش. وهنا يمكن ربطه بما سوف يصوغه جيل دولوز لاحقاً حول "الحدث’événementL’ ، فالمفكر لا يكرر الأفكار بل يخلق مفاهيم انطلاقاً من تمزقات عصره وجراحاته،(Deleuze, Logiquedu sens, 1969, pp. 15–30).. ان الحدادلحدث فكري، لا لأنه انتصر في معاركه،-ولننظر في وضعية الرأة التونسية اليوم- بل لأنه فتح إمكانات لم تُستنفذ بعد. انه بمثابة شمس منتصف الليل. أو بمثابة برق في ليل مظلم. حدث فارقي هو الحداد.
إن رفع الحداد إلى مستوى الفكر الكونيلا يتم عبر تعميم أفكاره، بل عبر الافصاحعن توتراته المفهومية، انها نقاط الشدة وعتبات الجرح الثقافي والحضاري: كيف تتحول الأسرة من فضاء طبيعي إلى بنية سلطة؟ كيف تتحول المدرسة من مؤسسة معرفة إلى جهاز ضبط؟ وكيف يصبح الجسد - لا سيما جسد المرأة - ميداناً للصراع بين الحرية والامتثال؟انها الأسئلة عينها التي شكلت لاحقاً جوهر الفلسفة الاجتماعية الحديثة، لكنها عند الحداد تنبثق من هامش العالم لا من مركزه، مما يمنحها قيمة مضاعفة: فهي كونية لأنّها غير مركزية.
إن هذه القراءة لا تجعل من الحداد مجرد "مفكر تونسي سبق عصره"، بل تجعله جزءاً من تاريخ عالمي موازٍ للفكر، تاريخ تشكّل الحداثة من الأطراف لا من المركز. وهذه هي النقطة التي يمكن عندها القول إن الطاهر الحداد لا يُقرأ بوصفه أثراً من الماضي، بل أفقاً لمستقبل لم يكتمل بعد. لعله على مثل هذا الوقع يمكن البدء والاستئناف بدل المواجهة أو التنكر للإنسانية.
بقلم د. خميّس بوعلي باحث من تونس.