جهة الكريب شاهدة و مُؤثِرة في تاريخ تونس الحديث

صدر مؤخرا كتاب بعنوان

"مسيرة الكريب والشمال الغربي ضمن تاريخ تونس المعاصر" لصاحبه الأستاذ عبد الجليل عبد ربه على نفقته الخاصة في حجم متوسط و ضخم يمتد على 462 صفحة، و قدّم له الدكتور نبيل خلدون قريسة.

يحتفي هذا الكتاب بمدينة الكريب الواقعة في الشمال الغربي، كانت هذه المدينة تتبع إداريا ولاية الكاف ثم باجة و الآن سليانة، و يبدو أن موقعها الاستراتيجي الهام جعلها نقطة ترابط بين عدة ولايات و في مفترق طرق هامة، وهو ما جعلها ممرا للتاريخ، إذ يعود تأسيس مدينة الكريب إلى الحقبة البربرية ثم تتالت عليها الحضارات الرومانية و البيزنطية و الإسلامية وصولا الى المرحلة المعاصرة، لذلك مدينة الكريب جذورها تضرب في عمق التاريخ وهو ما جعلها زاخرة بموروث ثقافي متنوع و غني.
انطلق المؤلف عبد الجليل عبد ربه من البحث في اسم المدينة ليكشف عن "موستي" القديمة و التي على أنقاضها الكريب اليوم، كما بحث في تاريخ العائلات العريقة بالمدينة و أهمها عائلة عبد ربه التي ينحدر منها المؤلف. كل ذلك شهادة عن عراقة المدينة التي انجبت أجيالا من الوطنيين و من النُخب المثقفة التي مثّلت سواعد ساهمت في الحراك الوطني و لها علاقة بالعائلة الحُسينية و كانت لها مساهمات في مقاومة الاستعمار و في تنمية البلاد إلى اليوم.

الخصوصية العِلمية للكتاب

الطريف في هذا الكتاب أنه سلّط الأضواء على مراحل مهمة من تاريخ تونس من خلال مدينة الكريب وما جاورها، بمعنى أنه جعل هذه المدينة الصغيرة جغرافيا مركزا لحَراك تاريخي و لفهم كل المتغيرات الرئيسية التي عاشتها تونس. هذه طريقة مهمة عِلميا لأنها تُوفر خلفية جديدة لقراءة التاريخ وهو تحويل الهامش إلى مركز، وجعل التاريخ المحلي بَوابة للدخول إلى التاريخ الرسمي، بمعنى تحويل تجربة جهة معينة إلى شهادة حية على أحداث تاريخية كبرى وهذه احدى الطرق الهامة التي اصبحت تعتمد في كتابة التاريخ اليوم و يشير إليها الدكتور قريسة في تقديمه بأن ما كتبه المؤلف عبد الجليل عبد ربه يندرج ضمن التاريخ المِجهري الذي أصبح بدوره مصدرا معتمدا لقراءة التاريخ و وثيقة علمية يمكن اعتمادها في إعادة كتابة التاريخ.

الكريب والعمق التاريخي

في القسم الأول و يمتد على فصلين قدّم المؤلف تمهيدا مُهما مَثّل خلفية تُعبّر عن العمق التاريخي لمنطقة الكريب انطلاقا من البربر السُكان الأصليين ثم الحقبة الرومانية و البيزنطية و صولا إلى المرحلة الإسلامية، ساهم كل ذلك في تحوّلات في النسيج المجتمعي. هنا يشير المؤلف إلى أحداث تم تداولها سابقا مثل غزوة بني هلال و التي منها انبثقت عائلات عديدة عريقة سَكنت جهة الكريب من بينها عائلة عبد ربه التي ينحدر منها المؤلف نفسه.
عندما يتحدث صاحب الكتاب عن دور العائلات فإنه يسلط الضوء بذكاء على الإرث الثقافي والمعرفي التي تُمثّله ودورها في تشكيل الشخصية الكريبية التي تتكوّن من روافد دينية في جانب منها تحوم حول الشخصية الأهم وهو الولي الصالح سيدي عبد ربه، كما قدمت كفاءات علمية من خلال شيوخ و قُضاة و مربين، و كان لتلك العائلات عدة أدوار اقتصادية و تجارية من خلال القطاع الفلاحي و غيره.
كل ذلك جعل لجهة الكريب مميزات عديدة خَولت لها التأثير الفعلي في تاريخ تونس منذ مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى بناء الدولة التونسية الحديثة.

دور الكريب في مقاومة المحتل الفرنسي

القسم الثاني من الكتاب و على امتداد ثلاثة عشر فصلا ينطلق المؤلف عبد الجليل عبد ربه من مرحلة ما قبل الحماية إلى المرحلة الاستعمارية، و هنا نلاحظ كيف أن المؤلف يُسّلط الضوء على مدينة الكريب زمن حكم الحسينيين و يُقدم معلومات مهمة تؤكد عَراقة المنطقة، ثم ينتقل إلى مرحلة الحماية و خاصة الفترة الاستعمارية التي كشفت عن وطنية أبناء الجهة الذين انتفضوا ضد المستعمر الفرنسي و كانت لهم مواقف بطولية خاصة في مواجهة حملة الاستيلاء على أراضي الأهالي. تكمن أهمية هذه المعلومة في أن مقاومة الاستعمار الفرنسي لم يكن دافعها سياسي و تحديدا حزبي بل كانت دوافعها روح وطنية سابقة جعلتهم يقاومون المستعمر مباشرة لاسترجاع أراضيهم الخِصبة و من ثمة انخرط جانب منهم تحت راية الزعيم بورقيبة ليكون كفاحهم مدروسًا و منظمًا.
في هذا الفصل يمكن أن نشير الى موضوعية المؤلف الذي يكتب دون خلفية مُسبقة بل يسرد التاريخ كما نقله عن سابقيه، و كما عاشه شخصيا، لذلك يفرد أكثر من فصل يتحدث فيه عن وطنية أهالي الجهة في مقاومة المستعمر و الانضمام الى الحركة المُسلّحة باكرا.

الكريب و مرحلة الدولة الحديثة

في القسم الثالث و على امتداد اثني وعشرين فصلا يتحدث المؤلف عبد الجليل عبد ربه عن تونس في مرحلة الاستقلال و تأسيس الدولة الحديثة، وهي فترة حكم الزعيم بورقيبة. أهمية هذا القسم أنه يستعرض أهم الأحداث بحياد لافت، يتحدث عن علاقة بورقيبة بالبايات و عن الخلاف اليوسفي و غيرها كل ذلك انطلاقا من مدينة الكريب و من خلال الوعي الوطني للأهالي. هنا يكشف المؤلف من جهة عن علاقة بورقيبة و الطبقة السياسية الحاكمة بالجهات الداخلية و من جهة أخرى عن مساهمة كبار العائلات و أهم شخصيات المدينة في بناء الدولة الحديثة.
كما يشير المؤلف إلى انخراط الأهالي في أنشطة المجتمع المدني من خلال خلال تأسيس عدة منظمات و جمعيات رياضية و ثقافية و اجتماعية كان لها دورا في النهوض بالمدينة و تجذير الحراك الوطني والنقابي والثقافي.

الكريب في المرحلة النوفمبرية

في القسم الأخير من الكتاب و على امتداد تسعة فصول يزيح المؤلف السِتار عن تونس في مرحلة حكم بن علي، و تكون فرصة لتقديم وجهة نظر في تأويل الأحداث الفاصلة بين انزياح بورقيبة عن السلطة و اعتلاء بن علي سِدة الحكم. يقدم المؤلف مواقف موضوعية تعكس الانتماء الوطني المُشبع بمحبة تونس.
من أهم ما يذكره المؤلف في هذا القسم هو تسليط الضوء على الوضعية السياسية و الاجتماعية لولايات الشمال الغربي عموما قبل التغيير و بعده، من ذلك أن بعض مناضلي الجهة لم ترقهم النهاية الحزينة لبورقيبة وهو ما جعل أحد أعيان مدينة الكريب وهو المناضل محمد بن عبد ربه يُقيم معرضا وثائقيا دائما بمنزله الكائن بوسط المدينة يستعرض فيه صورا مهمة و بعضها نادرا من كفاح بورقيبة ورفاقه، وهي طريقة منه لإبراز وفائه لتونس البورقيبية و تحديا صارخا للمتزلفين والمنافقين الذين أعلنوا الولاء للحاكم الجديد رياء.
يستعرض المؤلف في هذا الكتاب الروح الوطنية المتجذرة في الجهة والتي جعلت من الحراك الاقتصادي و الثقافي متواصلا من خلال تأسيس مصانع و تطوير الصناعات الفلاحية وإدارة مهرجانات ثقافية مثل مهرجان السنابل الذهبية الذي كان له حضور لافت في الإشعاع ثقافيا على الجهة.

تضمّن الكتاب فصولا مهمة تتمثل في معلومات قَيّمة كشفت عن الجانب الخفي للحياة السياسية في تونس من خلال تفاعل الأهالي مع كبار المسؤولين السياسيين في أحداث مصيرية من ذلك إبراز موقف معارض لفكرة التعاضد التي لم تجد تجاوبا من طرف فلاحي المنطقة. بل إن الكتاب يكشف عن التضامن التونسي الجزائري خاصة في فترة سنوات الجمر التي عاشتها الجزائر و التي كان فيها بعض أهالي الكريب و مسؤوليها بدورهم معرضون لتهديدات التيّار السَلفي المُتشدد في الجزائر .

الكتاب شهادة حيّة عن تاريخ تونس الحديثة

هذا الكتاب يُمثّل شهادة حَية مُهمة لأن المؤلف تحرّر أثناء الكتابة من كل رقابة سياسية أو اجتماعية، لكنه في المقابل التزم و إلى حد كبير بالكتابة وفق شروط البحث العلمي، من ذلك أنه اجتهد في أغلب المعلومات الإشارة بدقة إلى المصادر و التواريخ و أسماء الشخصيات، كما أنهى كتابه بتلخيص موجز لأهم ما ورد فيه، إضافة إلى تقديم فهرس بالصور المرافقة، و آخر بالوثائق المعتمدة، و ضبط للمراجع التي اعتمدها المؤلف. كل ذلك يجعل منه كتابا علميا دقيقا و وثيقة تاريخية هامة تقدم تاريخ تونس من خلال مدينة الكريب التي تنتصر إلى كل مدن الشمال الغربي، بل إلى كل مُدن الداخل التونسي، و تؤكد على دورها الريادي و مساهمتها الفعّالة في تاريخ تونس الحديثة.
نجاح هذا الكتاب قد يكون دافعا لصدور كتب أخرى تنطلق من مُدن داخلية مختلفة تقدم زوايا نظر جديدة لقراءة تونس و الوقوف عند تاريخها الثري و المتنوع، و تؤكد أن الهامش يمكن أن يتحوّل إلى مركز له ثِقله التاريخي وأدواره السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية.

بقلم: فاطمة بن محمود

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115