من أجل الإصلاح والتجدّد ومواصلة الفعل

يعيش الاتحاد العام التونسي للشغل منذ ما يزيد

عن السّنة والرّبع، أزمة داخليّة حادّة لم يشهد تاريخه لها مثيلا؛ بانت بوضوح للرأي العامّ النّقابي أوّل مرّة خلال أشغال المنتدى النّقابي (24 - 27 جوان 2024)، وتواترت منذ ذاك الحين تجليّاتها العلنيّة، قبل أن يتأكّد استتبابها قبيل المجلس الوطني (5 - 6 - 7 سبتمبر 2024) حيث انقسمت آراء الإخوة أعضاء المكتب التّنفيذي الوطني إزاء إمكانيّة مواصلتهم العمل المشترك صلبه إلى آراء ثلاثة: رأي أوّل يدعو إلى عقد مؤتمر استثنائي، ورأي ثان يطالب بالتّبكير بالمؤتمر العامّ للمنظمة - وكلا الرأيين يعتبر أنّ أصل الأزمة هو انعدام التجانس في الرؤى صلب القيادة الوطنية للمنظمة وغياب الثقة بين أعضائها وأنّ الخروج منها يقتضي أحد الحلّين المذكورين - ورأي ثالث يقرّ بوجود أزمة ولكنّه ينكر أن تكون قد وصلت إلى درجة تبرّر عقد مؤتمر استثنائي أو التبكير بالمؤتمر العام للمنظمة ويتمسّك تبعا لذلك بمواصلة العهدة الحالية إلى أجلها العادي أي فيفري 2027.

وقد خِلتُ آنذاك، كما عديد النقابيين، أنّ المجلس الوطني سيكون المحطّة التي سيقع فيها الحسم الديمقراطي بين هذه الخيارات الثلاثة كما اعتاد ذلك الاتحاد عند اختلاف وجهات النّظر. إلّا أنّ الامر لم يتمّ كذلك. فتعمّقت الأزمة واستفحلت وأصبحت هيكليّة، وانعكس ذلك على أداء المكتب التنفيذي الوطني بعد مقاطعة ثلث أعضائه لاجتماعاته، وانعكس أيضا على الهيئة الإدارية الوطنية التي لم تنعقد منذ ذلك التاريخ لما يقارب التسعة أشهر. امتدّت بذلك العطالة - التي كان يعرفها الاتحاد بعدُ من ناحية القدرة على فرض الحوار الاجتماعي واستحقاقاته - إلى عمل هياكله التنفيذية والتقريرية المركزية، وتسرّبت الأزمة شيئا فشيئا إلى الجهات والقطاعات، فانقسمت الآراء صلب جلّها واختلفت مواقف النقابيات والنقابيين داخلها ممّا حدث ويحدث من تفاعلات وتطوّرات داخل المنظمة.

ولئن برزت الأزمة للعيان في التواريخ المنصوص عليها أعلاه، فإنّني أرى أنّ جذورها تعود إلى سنوات عديدة سابقة كانت خلالها أسباب الأزمة تعتمل وتختمر في صمت، يطوّقها غطاء الوحدة النقابية التي طالما عُرفت بها المنظمة والتزم بها مناضلوها. ولعل المناسبة الأولى التي غادرت فيها الأزمة سكونها، حسب رأيي، كانت خلال الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر 2022، بمناسبة الإمضاء على محضر الاتفاق المتضمّن للزيادة في أجور أعوان الوظيفة العمومية حينما اتضّح أنّ ما عُرِضَ على الهيئة الإدارية الوطنية أيّاما قليلة قبلاً، كان مختلفا عمّا وقع إمضاؤه في ذاك المحضر.

منذ ذلك الحين تواصلت مظاهر الأزمة، بل ازدادت توسّعا وتعمّقا نتيجة عدم قدرة القيادة على فضّ الخلافات، وعجزها حتّى عن تأطيرها أو كبحها أو حصرها لأنّها قيادةٌ منقسمة، فاقدة للانسجام والثقة والوحدة الضروريين لكلّ تدخّل حاسم أو قرارات ملزمة، وكادت أن تتحوّل إلى أزمة وجوديّة تعصف بالاتحاد لولا أنّ العقل النقابي الجمعي توصّل بعد لأيٍ إلى تغليب المنطق وصياغة توافق بتقديم المؤتمر العام للمنظمة إلى مارس 2026؛ توافق أمضى عليه في وثيقة مشتركة كلّ أعضاء المكتب التنفيذي الوطني يوم 29 ماي 2025 أثناء انعقاد الهيئة الإدارية الوطنية التي دعيت للنّظر في الوضع الداخلي للمنظمة.

ولئن خفتت حدّة التوتّرات إثر هذه الهيئة الإدارية التاريخية وتراجعت التّشنجات منذ ذاك التّاريخ وعادت الهياكل للاشتغال بصفة شبه عادية، إلّا أنّ هذا الانفراج النسبي لا يجب أن يخفيَ أنّ الأسباب العميقة للأزمة مرتبطة أساسا بانعدام التّجانس في الرؤى الاستراتيجية ذات العلاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل، ونضالاته، وأدواره الاجتماعية والوطنية، وتنظيمه الداخلي وآليّات عمله وموقعه الوطني وعلاقته مع المشهد السياسي الوطني. ولعلّ روح التّضامن والوحدة النقابيين التي برزت بوضوح يوم 21 أوت 2025 بمناسبة التجمع والمسيرة التي نظّمها الاتحاد دفاعا عن نفسه وعن الحق النقابي، تمنحنا الفرصة للخوض في هذه الأساسيات، خصوصا بعد الهيئة الإدارية التي انعقدت يوم 23 سبتمبر 2025 والتي أقرّت تقديم المؤتمر العامّ لمارس 2026. وفي هذا الإطار تندرج رسالتي لكم أخواتي وإخوتي أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العامّ التونسي للشغل.

رسالتي هذه، ليست ردّا على من أنكر الأزمة منذ البدء، وكابر ورفض رؤية الواقع الواضح للعيان. ولا هي ردٌّ على من يرى أنّ الأزمة عابرة وعرضية، أو أنها مجرّد صراع على المواقع سينتهي بمجرّد أن يعوّض هذا الطرف ذاك أو أن تمسك قيادة جديدة بمقاليد الأمور عوض القيادة الحالية.

رسالتي هذه، دعوة لمن يريد الإنصات بعيدا عن الإنكار والمكابرة والانتهازيّة والرّكض نحو الهاوية، وهي طريقتي لتبليغ جزء مهم من الكلمة التي كنت قد ألقيتها خلال المجلس الوطني الأخير. فأنْ نكتُبَ هو بمثابة أن نتكلّم دون أن تقاطعِنا دقائقُ توزيعِ الكلمات الثلاث ويُغلقَ المصدحُ ويضيع الكلام وتتوه الأفكار في الضوضاء المحيطة.

رسالتي هذه، مبادرة شخصيّة لم أستشر فيها - فكرة ومضمونا - لا أخواتي وإخوتي أعضاء المكتب التنفيذي للجامعة العامّة لأساتذة التعليم العالي والبحث العلمي ولا رفيقات ورفاق الدّرب النقابي الذين كنّا ولا زلنا جنبا إلى جنب طيلة مسيرتي النقابية، ولا أخواتي وإخوتي النقابيين الذين تقاطعت مواقفنا ورؤانا في عديد المحطات؛ هي بذلك شخصية لا تلزمني إلّا أنا، فأنا لا أرضى أن يُحَمّلَ أيّ منهم آراء لم أستشرهم فيها.

رسالتي هذه، نداء من أجل إنقاذ وتجديد المنظمة وإصلاحها من الداخل وعلى يد أبنائها، أُطلقه بصفتي واحدا منهم، انخرطت فيها وانتسبت إليها لما يزيد عن ربع قرن، وتحمّلت المسؤولية صلبها أساسيا وجهويا ووطنيا، ونشطتُ فيها بصفة مستمرّة على أوجه عديدة وواكبت التطورات فيها وحولها منذ سنة 2000.

وهي، إلى جانب ذلك، مساهمة مني بصفتي نقابيّا منتميا إلى قطاع طالما صُنّف - عن استحقاق - داخل الاتحاد العامّ على أنه قطاع نوعيّ لأنه يمثل أساتذة وباحثي التعليم العالي والبحث العلمي. ومطروح على نقابيّي قطاع نوعي كهذا أن يجرؤوا على تشخيص الأوضاع بدقّة وعمق يتجاوز ما هو ظاهر وسطحيّ، وأن يستشرفوا المستقبل، ويقترحوا على المنظمة الطّريق السّليم من وجهة نظرهم. ومطروح عليهم أيضا، وفق نفس الاعتبار، رأب الصّدع وتلمّس آفاق الخلاص عند الأزمات لتحقيق انطلاقة جديدة للعمل النقابي. ففي كلّ أزمةٍ فرصة للإصلاح والتجدّد ومواصلة الفعل لا يجب أن تُهْدَرَ.

في هذا الإطار العامّ تتنزّل رسالتي إليكم، ومن جميع هذه المنطلقات أكتب بحثا عن طريق ممكن للخلاص والتّجدّد.

وأعتبر أنّ أوّل معالم طريق الخلاص يكمن في إعطاء عناوين للأزمة التي نمرّ بها، وهذا يُسَمَّى في فنّ إدارة الأزمات إضفاءُ معنى على الأزمة، لأنّ في فقدان المعنى أو غيابه عبثا، لن يؤدي إلّا إلى ما لا تحمد عقباهُ من صراع الكلّ ضدّ الكلّ، وطغيان الانفعالات والنّزوات والتّصيّد، وربما دخول معاول الهدم على الخطّ مثلما رأينا في ساحة محمد علي عديد المرّات خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة. معاول لها نفس الأهداف - الهدم، الاحتواء، التّوظيف، المحاصرة، .... - وإن اختلفت تعابيرها من «معارضين» نقابيين يبغون تنصيب هيئة تسييرية، إلى «مساريين» يريدون ما يريدون من حلّ وتجميد وتطهير.

فكيف نُضفي معنى على الأزمةِ الحالية للاتحاد العام التونسي للشغل؟ وما هي هذه العناوين التي يمكن أن نطلقها عليها؟

للأزمة الرّاهنة صلب الاتحاد العامّ التونسي للشغل عناوين متعددة ومتداخلة. يمكن حصرها، من وجهة نظري، في خمسة عناوين كبرى.

العنوان الأوّل هو فقدان الاتحاد العام التونسي للشغل لحاضنته الشعبية.

ضُرِبت الحاضنة الشعبية للاتحاد العام التونسيّ للشّغل خلال السنوات الأخيرة في عمقها وفق نهج تصاعديّ انطلق منذ سنة 2011 وتواصل منذ ذلك التاريخ، فانحسرت شعبية الاتحاد شيئا فشيئا، باستثناء فترة الحوار الوطني، ووصلت اليوم إلى أدنى مستوياتها، وتراجعت مكانة المنظمة وطنيا واعتباريا بصفة حادّة.

ويمكن تقسيم أسباب هذا التّراجع إلى أسباب خارجية وأخرى داخليّة رغم ارتباط هذه بتلك. أمّا الخارجية منها فعديدة لكنها مرتبطة أساسا بحملات الشيطنة والتّشويه في وسائل التّواصل الاجتماعي والتي ربّما كانت الأطراف السياسية التي تداولت على السّلطة منذ 2011 تنظر إليها، عين الرّضا إذ تسهم كلّها في محاصرة الاتحاد العامّ والتقليص من إشعاعه الاجتماعي وتأثيره الوطني. هذه الحملات لم يقع النّظر إليها داخل الاتحاد - مع الأسف - إلّا عبر عدسات التّحليل السياسي البحت في حين أنّه كان من المفترض فهمها أيضا في إطار التحوّلات المجتمعية التي تعيشها تونس منذ 2011 ووضعها في ذاك السياق واستشراف أثرها على الاتحاد وحاضنته الشعبية.

أمّا الأسباب الداخليّة فهي التحرّكات القُصويّة التي مورست خارج إطار القانون ودون موافقة هياكل الاتحاد المعنيّة. هذه التحركات وإن كان عددها نسبيا قليلا فإنّ رمزيّتها وتكرّرها والتمادي فيها، وفي قطاعات حسّاسة، قد ضخّم صورتها، وجعل آثارها ومضاعفاتها كارثيّة على الحاضنة الشعبيّة للاتحاد العامّ. ومن هذه التحرّكات: الإضرابات المفاجئة ودون برقية إضراب، والإضرابات المفتوحة أو تلك التي دون مطالب محدّدة وواضحة، ومقاطعة الامتحانات، والتهديد بمقاطعة الامتحانات والمناظرات الوطنية، وحجب الأعداد وغيرها من آليات الإضرابات الإداريّة. ورغم أنّ كلّ هذه التحركات قد تمّت دون غطاء رسمي ومعلن من قبل المركزية النقابية، فإنّ الرأي العامّ الوطني كان دائما يستبطن دور الاتحاد فيها ومسؤوليته عنها.

كما أنّ بعض التّصرفات التي صدرت أحيانا عن فئة قليلة من النقابيين استغلّت - مع الأسف - صفتها النقابية لنيل مكاسب غير مستحقّة أو مشروعة أو لتغطية تجاوزات قد ساهمت بدورها في ضرب الصورة الناصعة للاتحاد صلب حاضنته الشعبيّة. إذ أثارت هذه التّصرفات حفيظة وسخط جزء هامّ من الرّأي العامّ، وزادت مواقع التواصل الاجتماعي من تضخيم هذه الممارسات المرفوضة، ومن تعميمها ووصم كلّ النقابيين بها ممّا خلقَ انطباعا بأنّ الاتحاد ونقابييه فوق القانون، في حين أنّه من المفترض أن يكون النقابي وفيّا لصورته الناصعة التي كان عليها في الضّمير الجمعيّ التونسي منذ تأسيس المنظّمة، أي مثالا للجديّة والاستقامة والقيام بالواجبات، مترفّعا عن المغانم والمكاسب كي تكون كلمته مسموعة حين ترتفع للدفاع عن الحقوق وفضح المظالم.

إنّ قوّة الاتحاد كما يثبت ذلك تاريخه تكمن في حاضنته الشعبية وفي مكانته الاجتماعية وفي قيمته الاعتبارية في البلاد، لا في هياكله فحسب مثلما يحلو للبعض اعتقاده. وعملية استرجاع الحاضنة الشعبية مسألة - حسب رأيي - حيويّة للاتحاد العامّ التونسي للشغل؛ في نجاحها ديمومتُه وفي فشلها خطرٌ وجوديّ مُحْدق. والحاضنة الشعبية للاتحاد ليست مناضلي التيارات السياسية الذين قد يتواجدون في هياكله، أو تلك التي قد تتقاطع مواقفها مع مواقفه في بعض المحطات، بل هي أكبر من ذلك بكثير. إنّها مفهوم مجتمعي واسع يضمّ كلّ تلك الشرائح الاجتماعية التي يدافع الاتحاد عن مصالحها ويحميها من الاستغلال والتعسّف ويدفع نحو نمّوها الاقتصادي ورقيّها الاجتماعي والتي ترى فيه صوتها والناطق باسمها اجتماعيا ووطنيا، وهي أيضا تلك الشرائح التي ليست بالضرورة معنيّة مباشرة بدور الاتحاد الاجتماعي ولا بمخرجات مفاوضاته أو بتحركاته النضالية، ولكنها ترى في وجوده ضرورة اجتماعية من أجل التماسك الاجتماعي وفي تواصله حاجة وطنية. وحول مختلف هذه الشرائح وسط مجتمعي كامل مرتبط بها عبر العلاقات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية ومتأثر بميولاتها، ويُعَدّ هو أيضا جزءا من حاضنة الاتحاد الشعبية. هذه الحاضنة، في مفهومها الواسع، هي التي ضاعت عن الاتحاد ومنه ولابدّ له أن يسترجعها.

استرجاع الحاضنة الشعبية للاتحاد العامّ يقتضي أوّلا وقبل كلّ شيء وبصورة حازمة ودون أدنى تردّد الإعلانَ الواضح أن لا مكان للتحرّكات القُصويّة واللاشعبية داخل المنظمة وأنّ هياكل الاتحاد المركزية والجهوية والقطاعية والمحلية منها ستتصدّى لكلّ محاولة مستقبلية لاستنساخها أو إعادة إنتاجها. كما يقتضي أيضا أن يرفض الاتحاد كلّ الممارسات المضرّة بصورته وبسمعته وكلّ التجاوزات والخروقات للقانون أيّا كان النقابي الذي يقوم بها وأيّا كانت مسؤوليته داخل الهياكل وأن يتصدّى لها بقوّة النّظام الداخليّ من ناحية، وبالشفافية والتوعية والتأطير الحازم والحاسم من ناحية أخرى، وأقترح في هذا السياق إصدار «ميثاق للمسؤول النقابي»، وهو فكرة وقع تداولها داخل الاتحاد قبلا عديد المرّات، ينصّ على جملة القيم والمبادئ التي يجب أن يلتزم بها كلّ مسؤول نقابي، مهما كانت مسؤوليته، خلال ممارسته للمسؤولية وأثناء تعامله مع مختلف الأطراف المتداخلة معه في تلك المسؤولية وأن يتولّى التوقيع عليه بمجرّد استلامه لمسؤوليته.

ثاني عناوين الأزمة هو الخطاب النقابي المهترئ ومنتهي الصلوحية.

يتميّز الخطاب النقابي السّائد داخل الاتحاد وطنيّا وجهويّا وقطاعيّا، بالشعارتية والرّتابة والجمود. آليّاته بالية، ومفرداته مشحونة. تغلُبُ عليه المحافظة والتّكرار. هو خطاب يمزج بين النّبرة العالية والصّرامة والحزم من ناحية، وبين التّعالي والتّوتر والتّحريض من ناحية أخرى. «قوّته» التي يتوهّمها أصحابه ليست في قدرته على الإقناع أو في منهجيّته أو وضوحه، بل في عباراته المستلهمة من معجم سياسي قديم والمعبّرة عن أهواء إيديولوجية خشبيّة عفا عنها الزّمان والمكان، حتى أصبح الخطاب النقابي خطابا كاريكاتوريا ممجوجا من قبل الحاضنة الشعبية الواسعة التي كانت للاتحاد.

ولا أدلّ عن تهافت هذا الخطاب النقابي من ذلك الشعار المريب والرّكيك الذي تسلل إلى الاتحاد عبر أطراف التحقت به بعد جانفي 2011 وهو شعار: «عاش عاش الاتحاد أقوى (أو أكبر) قوة في البلاد»، أو ومن تلك «الخطوط الحمراء» الوهميّة غير المقدور على تسييجها، أو من تلك التهديدات الواهية والمستفزّة التي كانت تصدر أحيانا عن بعض المسؤولين النقابيين ولا أثر لها فعليّا. إنّه خطاب قوّة دون مقوّمات القوّة، وككلّ خطاب قوّة دون مقوّماتها، فإنّه سرعان ما يسقط في خانة الانفعال والتوتّر اللفظيّين قبل أن ينتهي في صندوق اللامبالاة وعدم الاكتراث وجلب الشفقة.

مع الأسف، ساهمت صفحات وحلقات عديدة من هذا الخطاب النقابي في ضرب صورة الاتحاد ومصداقيته بشكل كبير. وقد ضربته مرّتين: مرّة أولى عندما أعطت الانطباع في بعض الفترات بأنّ الاتحاد قد استقوى على الدولة عندما كانت في أهون حالاتها وعلى المجتمع عندما كان يبحث عن طريقه للمستقبل، وأنّه قد ركب موجة منطق الغنيمة وأدار ظهره لتاريخه ولوطنه الذي كان في أمسّ الحاجة لبوصلة المنظمة كي تكون المبادر بخلق كتلة تاريخية تتجاوز بها البلاد فتراتها العصيبة التي عاشتها بعد 2011. ومرّة ثانية عندما اتّضح أنّ ما في خطاب الاتحاد من تصعيد لم يكن متناسقا مع الواقع والحقيقة، وأنّ الاتحاد غير قادر على الردّ على تراجع الحكومة عن عديد الاتفاقيات والمحاضر المبرمة، ولا على فرضها لتصوراتها للحوار الاجتماعي ومخرجاته، ولا حتى على الردّ على افتكاكها لعديد الملفات الاجتماعية البحتة وانفرادها بالحسم فيها في تجاهل تامّ وواضح للمنظمة.

هذا الخطاب النقابي المهترئ والمنتهية صلوحيته لا يتناسب - فيما أرى - مع الاتحاد قيمة، وحجما، وتاريخا، وثوابت. وأعتبر أن تجديده وإعادة صياغته في مثل هذه الظروف ضرورةٌ لا مناص منها للخروج من الأزمة الحاليّة.

وحتّى يتجدّد هذا الخطاب عليه أن يعود إلى ثوابت الاتحاد العام التونسي للشغل التاريخية منذ تأسيسه، وكذلك منذ تأسيس الدولة الوطنية المستقلّة إلى اليوم. وأحد أهمّ هذه الثوابت هو التمسّك بدور الطرف الاجتماعي وفق التصوّر الذي ارتقى إليه الاتحاد العام التونسي للشغل منذ مساهمته الفعّالة في معركة التحرير الوطني وبناء دولة الاستقلال وإلى حين نجاحه في إدارة وإنجاح الحوار الوطني إثر الاغتيالات السياسية لشهيدي الوطن شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وهذا الدور هو دور الشريك الاجتماعي المتمتع ضرورةً بكل حقوق الشريك الاجتماعي.

في بوتقة هذه الشّراكة الاجتماعية يجب أن يُبنى تجديد الخطاب النقابي، ومنها ينبغي أن تُستلهم أفكاره ومفرداته وعباراته. ومن هذه الأفكار أن يتحوّل الخطاب النقابي إلى خطاب المحاجة والاقتراح وأن تكون قوّته في حجّته وفي رأيه المبرّر وفي التّمسك بأدواره الاجتماعية التي تفترضها مكانة الشريك الاجتماعي. خطاب هادئ هدوء الوثوق من الذّات ومن صلابة الرّأي، خطاب يحمل في طيّاته وعيا بأنّه، مهما كان إطاره الفعليّ فإنّه عليه ألّا ينسى أبدا أنّه يتوجّه أساسا وفي آخر الأمر إلى رأي عامّ وطنيّ وأنّ عليه أن يخاطب فيه العقل والمنطق ورجاحتهما لا العواطف وانفعالاتها، وأن يكون خطابا صريحا لا يبيع الأوهام والوعود غير المؤكّدة، خطابا يراهن على ذكاء المتلقّي ويرتقي بوعيه وحسّه لا خطابا يؤجج فيه التوترات والانفعالات ويلوّح بالأوهام والمطامع. ومن أجل أن ينجح هذا التجديد للخطاب النقابي يجب أن يوضع في إطار استراتيجية اتصالية متكاملة، يكون عنوانُها الأكبر إعادة الصورة الناصعة للاتحاد العامّ داخل المجتمع. استراتيجية تحدّد أطر الاتحاد أهدافَها ومكوناتها، ويضعها أهل المهنة، وتتبناها هياكل الاتحاد وتطبّقها، ويتابع تنفيذها مهنيّون محترفون أكفاء مختصون في الشأن الاتصالي.

ثالث عناوين الأزمة هو التعامل الانتقائي والمتهافت مع النصوص المنظّمة للعمل داخل المنظّمة (القانون الأساسي والنظام الدّاخلي)

بادئ ذي بدء، وتوضيحا لبعض النقاط التي أراها أساسية حتّى لا تختلط المسائل في أذهان من يقرأ هذه الرسالة، أودّ التأكيد على أنني كنت وما زلت من أولئك الذين يرفضون فكرة أن يكون القانون الأساسي للاتحاد العامّ التونسي للشغل نصّا جامدا ومتكلّسا، متعاليا على النقد أو التنقيح، لا ينبغي المساس به مهما كانت المبررات والأوضاع. إذ أنني أرى أنّ تغيّرَ الأوضاع وتطوّرَها يحتّمان بالضرورة تغيير النّصوص المنظِمّة لعمل الاتّحاد وتطويرها. ومن هذا المنطلق فإنني لا أرفض - مبدئيّا - تنقيح القانون الأساسي للاتحاد العامّ. ولا أرى قداسة لما سميّ بـ «الفصل العشرين» الذي أصبح كالشمّاعة تعلّق عليها كل إخفاقات الاتحاد وأزماته، السابقة منها والحالية، في عمليّة مفضوحة لذرّ الرماد على العيون خدمةً لأغراض شخصية وفئوية، وفي سعي فاشل إلى حجب الأسباب العميقة لأزمة الاتحاد وتحويل الأنظار عن أساسيّاتها. كما أعتبر أنّ ما تمّ من إحالة البتّ في إمكانية عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي على أنظار المجلس الوطنيّ كان وجيها من وجهة نظر نقابية، وسليما من وجهة نظر قانونيّة، وهو ما أكّدته لاحقا محكمةُ التّعقيب - أعلى هيئة قضائية في تونس - فيما قضت به من حُكم حَسَم الجدل والنقاش حول المسألة.

إلّا أنّني، من حيث الشّكل، أعتبر أنّ الطريقة التي تمّ بها التّصويت على هذه الإمكانية خلال المجلس الوطني الذي انعقد في أوت 2020 لم تكن موفّقة بالمرّة، لأنها ضربت مبدأين أساسيّين: مبدأ سريّة التّصويت، ومبدأ تحييد مكان الاقتراع عن أيّ ضغط ممكن.

كما أنّني أعتبر أن التنقيح الذي تمّ إجراؤه على الفصل العشرين من القانون الأساسي للاتحاد كان منقوصا ودون المأمول. فلئن وقع تقديمُه وقتَها على أساس أنّه الآلية التي ستحقّق الانسجام مع محتوى الفصليْن المُنظّميْن لانتخابات المكاتب التنفيذية للجامعات العامة والاتحادات الجهوية أو ما يسمّى قاعدة «التجديد بالثّلث»، فإنّه لم ينصّ على أية ضمانات تحول دون تأبيد تحمّل المسؤوليّة في المكتب التنفيذي الوطني، ولم يفتح أية إمكانية لمراجعة نفس خطر التأبيد هذا في تحمّل المسؤوليّة على مستوى المكاتب التنفيذية للجامعات العامّة أو الاتحادات الجهوية.

وعليه، فإنّني أرى وجوب مراجعة القانون الأساسي للاتحاد العامّ التونسي الشغل مراجعة جذريّة تقطع مع فكرة تطويعها لأغراض آنية، لتكون مراجعة ذات بعد استراتيجي تكرّسُ مبادئ الديمقراطيّة والشفافيّة والجدوى، وتضمن التّداول على المسؤوليّة في كلّ المستويات سواء في المكتب التنفيذي الوطني، أو المكاتب التنفيذية للجامعات العامة أو الاتحادات الجهوية.

وأقترح في هذا الشّأن أن يقع تسقيف عدد المُدد الانتخابية في كلّ المكاتب التّنفيذية، وطنيا، جهويا وقطاعيا، إلى ثلاث مُدد، سواء كانت منفصلة أو متتالية؛ وأن يقع تسقيف تحمّل المسؤوليّة الأولى فيها، أي الأمانة العامة أو الكتابة العامة، إلى مدّتين لا أكثر، سواء بصفة متتالية أو منفصلة. كما أقترح أن يكون هذا التّسقيف مطلقا أي غير خاضع لتاريخ تغيير النصوص القانونية، مع تحديد عدد أعضاء المكتب التّنفيذي الوطني إلى أحد عشر عضوا عبر دمج بعض المسؤوليات، وتغيير العدد الأقصى للمتقاعدين صلب المكتب التنفيذي الوطني إلى عضوين اثنين.

كما أقترح أن تقع إعادة النّظر في عدد الأصوات الممنوحة لكل المسؤولين النقابيين خلال المجالس الوطنية احتراما للمبدأ الديمقراطي من ناحية وتكريسا لحجم المسؤولية النقابية من ناحية أخرى.

كما يجب على الاتحاد العام أن يضع حدّا بصفة واضحة ومعلنة لسياسة التعامل بمكيالين، وأن يطبّق إجراءات النظام الداخلي فيما يتعلّق بالانفلاتات والتجاوزات والإخلالات التي تتمّ إحالتها إلى قسم النظام الداخلي. فالجميع يعلم اليوم أنّ بعض الملفات تُتناسى وتُوضع في الرّفوف دون أن تقع دراستها رغم فداحة ما يردُ فيها من شكاوى، وأنّه يمكن في أي لحظة الإعلان عنها والنظر فيها إذا ما تعارضت بعض المصالح أو تلاقى بعضها الآخر، بينما هناك بعض الملفّات الأخرى التي يعجّل فيها النظر وتحسم في أيّام رغم أنّها ليست من الخطورة بمكان. ذاك التراخي وعدم الجدية في القيام بالإجراءات من جهة، وهذا التسريع والحسم من جهة أخرى، خلق الانطباع بأنّ الإفلات من العقاب هو القاعدة إنْ كنتَ من جهة وازنة أو من قطاعٍ وازنٍ انتخابيا أو كنت مدعوما من هذا الطّرف الفاعل والمؤثّر أو ذاك، وفتح الباب على مصراعيه للقُصويّة والمزايدات في التحرّكات النضاليّة وللسبّ والشّتم والتّرذيل والتّشويه والتّحريض والكذب والافتراء، وخاصّة على صفحات التّواصل الاجتماعي التي أصبحت - للأسف - حلبة للتخوين ولتصفية حسابات نتائج المؤتمرات النقابية على مرأى ومسمع من الجميع. هذا الأمر يجب أن ينتهي اليوم، ويجب تطبيق النظام الداخلي على الجميع بنفس الطريقة بغضّ النظر عن أيّ اعتبار انتخابي، أو قطاعي، أو جهوي، أو سياسي، أو فئوي.

يتبع

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115