في الحدود الخفية: ما لا تراه العين ولكن يحكم العالم

في عصر تتسارع فيه التحولات وتتشابك التحديات

لم يعد فهم العالم ممكناً بالاعتماد على الخرائط التقليدية وحدها. فخلف الحدود المرسومة بالحبر والمحروسة بالجنود، تكمن حدود أخرى أكثر خفاءً وأشد تأثيراً: حدود نفسية ورمزية ورقمية واقتصادية تعيد تشكيل موازين القوى وتحدد مصائر الأمم. هذه الحدود الخفية لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تحكم سلوك الدول وتوجه قراراتها وتفسر صراعاتها بطريقة تفوق أحياناً ما تفسره الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.
في هذا المقال، نسعى لاستكشاف هذه الأبعاد اللامرئية التي تحكم عالمنا المعاصر، من الصدمات التاريخية التي تسكن الذاكرة الجماعية للشعوب، إلى الفضاءات الرقمية التي تعيد رسم خريطة النفوذ والسيطرة. رحلة في عمق الجيوسياسيا المعاصرة، حيث القوة الحقيقية لم تعد في امتلاك الأرض، بل في السيطرة على العقول والمخيلات.
الدول وأقاليمها النفسية
لكل دولة ما يمكن تسميته بالإقليم الداخلي، الذي يتشكل من تاريخها وصدماتها الجماعية وطموحاتها. هذا الإقليم النفسي يؤثر في القرارات السياسية والعسكرية بقدر ما تؤثر المعطيات الاستراتيجية. روسيا مثلاً، لا تزال محكومة بالشعور بالإهانة الذي تلا انهيار الاتحاد السوفييتي وحقبة ما بعد السوفييت. تدخلاتها في أوكرانيا والقرم لا تُفسّر فقط بالمنطق العسكري أو الاستراتيجي، بل تعبّر عن رغبة في استعادة مكانة تاريخية، وثأر من ماضٍ تراه مُذلاً.
وبالمثل، تُسقط الصين على سياستها الإقليمية والعالمية سردية حضارية تمتد لآلاف السنين. بحر الصين الجنوبي، ومبادرة الحزام والطريق، واستراتيجية طرق الحرير الجديدة، ليست مجرد عمليات اقتصادية أو عسكرية: إنها تجسيد لحلم حضاري بإمبراطورية مركزية محترمة ومهيمنة، متجذر في ذاكرة جماعية عمرها آلاف السنين. أما الولايات المتحدة، فتتأرجح بين الإحساس بانحدار محتمل والتمسك بموقف إمبراطوري، حيث يتراوح إقليمها النفسي بين الفخر والخوف من الضعف. هذه الأمثلة تُظهر أن الجيوسياسيا لا تقتصر على المعطيات الملموسة، بل تتجذر عميقاً في اللاوعي الجماعي للأمم.
الرقمية والتشظي الخفي
لا تقتصر الحدود الخفية على الفضاءات النفسية، بل امتدت اليوم إلى الفضاء السيبراني. فالإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي خلقت أقاليم لا مادية تُجزّئ المجتمعات وتُعيد توزيع القوى. الفقاعات المعلوماتية، حيث لا يصادف المرء سوى آراء مطابقة لرأيه، تبني جدراناً نفسية خفية تؤثر في إدراك العالم. الانتخابات الأمريكية ، التي طبعها الاستقطاب الإعلامي والتلاعب الرقمي، تُبيّن إلى أي حد يمكن لهذه الحدود الرقمية أن تشكّل الواقع السياسي.
الدول نفسها تستخدم الفضاء السيبراني كحدود خفية. "السور الرقمي العظيم" في الصين يفصل حيزها المعلوماتي عن بقية العالم، مسيطراً على تدفقات المعلومات وموجهاً السلوك الجماعي. وبالتوازي، تُرسم الهجمات السيبرانية والمراقبة الخوارزمية والتضليل الإعلامي فضاءً جديداً للقوة، تتجاوز فيه الحدود الملموسة للدول بخطوط لا مادية، غالباً ما تكون أكثر فاعلية واستراتيجية من أي جدار مادي.كما أن حروب التضليل الإعلامي تشكل حدوداً نفسية خفية، حيث تُزرع الأفكار وتُوجه الرأي العام عبر منصات التواصل، فتُعيد رسم الخريطة السياسية من خلال التأثير في العقول قبل التأثير في الأرض. هذه الحدود السيبرانية أصبحت اليوم ساحة للصراع الاستراتيجي، حيث تُحدَّد الهزيمة والنصر بقدرة الدول على حماية فضاءاتها الرقمية والتأثير في الفضاءات الرقمية للآخرين.
الحدود الثقافية والرمزية
تتخذ الحدود الخفية أيضاً شكل خطوط ثقافية ورمزية. في الشرق الأوسط مثلاً، تحدد الانقسامات المذهبية والقبلية واللغوية التحالفات والصراعات أكثر مما تفعله المعاهدات أو الخرائط. الهوة بين السنة والشيعة، أو بين المجموعات العرقية، لا تتعلق فقط بالدين أو الإثنية: إنها حدود نفسية، متجذرة في تواريخ من الهيمنة والذاكرة الجماعية والهويات المبنية.
وكذلك في أفريقيا، نادراً ما تطابقت الحدود الموروثة من الاستعمار مع الواقع المحلي. الصراعات في منطقة الساحل أو جمهورية أفريقيا الوسطى تكشف إلى أي مدى يمكن لهذه الانقسامات الخفية، المبنية على الذاكرة والثقافة والتحالفات القبلية، أن تشكّل الجيوسياسيا بصورة دائمة. في أوروبا وأمريكا الشمالية أيضاً، يخلق الاستقطاب الأيديولوجي جدراناً خفية: المواطنون لم يعودوا يتشاركون فضاءً رمزياً مشتركاً، ما يحوّل النقاش السياسي إلى اصطدام للوعي بدلاً من حوار رشيد. هذه الحدود اللامادية مقيدة تماماً كالحدود المادية.
الحدود الاقتصادية والمالية
تشكّل القوة الاقتصادية حداً خفياً آخر. العقوبات والتكتلات النقدية والاحتكارات التكنولوجية تُنشئ حدوداً لا ملموسة لكنها صارمة. روسيا وإيران مثلاً، قد تكونان مفتوحتين جغرافياً، لكن وصولهما إلى الأسواق والتكنولوجيا ورؤوس الأموال محدود بشدة بفعل العقوبات الدولية. هذه الإجراءات تخلق فضاءً مغلقاً ومُحكماً، غير مرئي على الخرائط لكنه حقيقي في تأثيره.
المناطق الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي والآسيان واتفاقية أمريكا الشمالية تشكّل أيضاً حدوداً وظيفية. الوصول إلى الأسواق والموارد، أو الاستبعاد من تدفقات تجارية معينة، يرسم جيوسياسيا خفية جديدة. وأخيراً، الشركات التكنولوجية الكبرى، كـ GAFAM أو BATX، تخلق مساحات سيطرة حيث يصبح الوصول إلى البيانات والبنى التحتية والمعلومات شرطاً للقوة. هذه الحدود اللامادية تُعيد رسم موازين القوى في العالم المعاصر.
الدبلوماسية في مواجهة الحدود الخفية
تُحدث الحدود الخفية تحولاً عميقاً في الدبلوماسية. كثيراً ما تفشل المفاوضات لأن الأطراف تتجاهل صدمات الآخر وإسقاطاته الرمزية ومخاوفه. التحالفات والقطائع تُبنى بقدر ما على العواطف والإدراكات كما على المصالح الاستراتيجية الملموسة. فهم العالم المعاصر يتطلب إذن قراءة متعددة الأبعاد، تدمج الجوانب النفسية والرمزية والرقمية والاقتصادية. من لا يأخذ هذه الخطوط الخفية في الحسبان يظل أسير منطق متجاوز، عاجزاً عن استباق التطورات العالمية.
بل يمكن القول إن الدبلوماسية الحديثة أصبحت بحاجة إلى "مستشاري الحدود الخفية" - خبراء في علم النفس الجماعي والأنثروبولوجيا الرقمية والذاكرة التاريخية. هؤلاء يستطيعون فك شيفرة الغضب المكبوت في خطاب سياسي، أو تفسير الرمزية الكامنة في تحرك دبلوماسي، أو توقع ردود الفعل العاطفية لقرار ما قبل اتخاذه. الدبلوماسية الناجحة اليوم لم تعد فن التفاوض حول المصالح فحسب، بل أصبحت فن فك الشيفرات الرمزية وقراءة ما بين السطور في السرديات الوطنية. إنها دبلوماسية تستمع ليس فقط لما يُقال، بل لما لم يُقل، وتفهم ليس فقط ما يظهر على السطح، بل ما يختفي في أعماق النفس الجماعية للشعوب.
التعقيد كأفق وأسئلة مفتوحة
أصرّ إدغار موران (Edgar Morin)على أهمية الفكر المركّب (la pensée complexe)لفهم العالم. الأزمات المعاصرة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لا يمكن اختزالها في أسباب أحادية. الحدود الخفية - النفسية والرمزية والرقمية - تتفاعل وتتراكب وتعزز بعضها بعضاً، مولدة عالماً يبدو فوضوياً لكنه منظم بخطوط لا ملموسة. قراءة هذه الخطوط وتفسير تفاعلاتها هي بداية لفهم الخريطة الحقيقية للقرن الحادي والعشرين.
تطرح الحدود الخفية تحدياً كبيراً: إنها تُعيد تعريف السلطة والسيادة. من يعرف كيف يقرأها ويعبرها ويؤثر فيها يمتلك أفضلية استراتيجية تفوق من يمتلك الأراضي فحسب. عدة أسئلة تبقى مطروحة: هل ستنجح الصين في ترسيخ حدودها الخفية لتثبيت نفوذها العالمي؟ هل ستتمكن إيران من تجاوز الحواجز الرمزية والاقتصادية التي تعيق إشعاعها الإقليمي؟ هل تمتلك أوروبا أدوات للإبحار في عالم حيث أقوى الجدران هي جدران الإدراك والمخيال؟ وهل سيستطيع العالم العربي تجاوز انكساراته الرمزية والنفسية لاستعادة أفق مشترك؟
هذه الخطوط اللاملموسة تذكّرنا بأن العالم أكثر من فضاء مادي: إنه نفسية جماعية، نسيج معقد من المشاعر والرموز والسرديات. فهم هذه الحدود الخفية ليس مجرد تمرين فكري، بل شرط ضروري لاستباق المستقبل وإعادة ابتكار الدبلوماسية.
بقلم أمين بن خالد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115