مسودة القرار الأمريكي: انتداب جديد بصيغة إسرائيلية

تسعى الإدارة الأمريكية هذه الأيام إلى تمرير مسودة مشروع قرار

أمام مجلس الأمن الدولي لإنشاء قوة دولية متعددة الجنسيات في قطاع غزة، تحمل اسماًً أولياً مثل قوة الاستقرار الدولية أو قوة الأمن الدولية (ISF)، على أن تبدأ عملها مطلع عام 2026 بولاية تمتد حتى عام 2027 على الأقل، قابلة للتمديد.

ورغم الطابع «الأممي» للمبادرة، فإن المسودة تكشف بجلاء عن بصمة إسرائيلية في الصياغة والمضمون، ما يجعلها أقرب إلى مشروع «انتداب جديد» على غزة، يُدار بتفويض دولي وبقيادة أميركية – غربية، تحت شعار «حفظ الأمن» و«منع عودة الفوضى».
بحسب النص المتداول، ستكون القوة المزمع إنشاؤها قوة تنفيذية لا مراقِبة، أي أنها ستُمنح صلاحيات واسعة تشمل استخدام «جميع الوسائل الضرورية» لتنفيذ مهامها، بما في ذلك تأمين الحدود مع إسرائيل ومصر، حماية الممرات الإنسانية، نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، تفكيك البنية العسكرية في القطاع، وإنشاء جهاز شرطة فلسطيني جديد يعمل تحت إشرافها المباشر. كما تُنشئ المسودة هيئة جديدة تُسمى مجلس السلام في غزة، توكل إليها إدارة الإعمار والإشراف المدني خلال المرحلة الانتقالية، في ما يُعدّ صيغة جديدة لوصاية سياسية مؤقتة على القطاع.
في الظاهر، تسوّق واشنطن المشروع كخطوة نحو «الاستقرار» وتهيئة بيئة آمنة لإعادة الإعمار، لكن في الجوهر يعكس القرار تحالف مصالح ثلاثي: الولايات المتحدة تسعى إلى إدارة «اليوم التالي للحرب» بطريقة تضمن استمرار نفوذها في الملف الفلسطيني دون تورط عسكري مباشر، وإسرائيل تريد سيطرة أمنية وقوة تضبط غزة وتمنع عودة المقاومة من دون أن تتحمل هي مسؤولية الاحتلال المباشر، في حين ترى بعض الدول الأوروبية في المشروع وسيلة لتجنّب فراغ أمني قد يفضي إلى تجدد الصراع أو إلى سيطرة حماس مجدداً على القطاع. أما الدول العربية، وعلى رأسها مصر والأردن وتركيا، فتتعامل مع الفكرة بحذر واضح، مشروطة بألا تتحول القوة إلى غطاء دائم للهيمنة الإسرائيلية أو إلى سلطة أمر واقع جديدة في غزة.
ويُظهر هذا موقفاً إسرائيلياً مزدوجاً، فعلى الرغم من مشاركة إسرائيل فعلياً في صياغة بعض بنود المسودة، فإنها تحاول في الكواليس تقليص دور الأمم المتحدة في الإشراف على القوة، مفضلة أن تكون القيادة ضمن تحالف دولي غير خاضع لرقابة مجلس الأمن. فهي من جهة ترحّب بوجود قوة تضمن نزع سلاح غزة وتمنع إعادة بناء القدرات العسكرية للفصائل، لكنها من جهة أخرى ترفض أن تتحول هذه القوة إلى سلطة مستقلة تحدّ من حرية تحرك جيشها أو من نفوذها الأمني في القطاع. هذا الموقف يعكس جوهر الرؤية الإسرائيلية القديمة – الجديدة لغزة: إدارة مدنية بلا سيادة، وأمن مضبوط من الخارج، مع استمرار السيطرة غير المباشرة على الأرض والحدود.
ورغم الزخم الأمريكي، تواجه المسودة عقبات جدية قد تجعل تمريرها أو تطبيقها مهمة شبه مستحيلة. فالرفض الفلسطيني المتوقع لأي قوة تُفوض رسمياً بنزع السلاح أو إدارة القطاع من الخارج، خاصة إذا لم تُمنح السلطة الفلسطينية دوراً واضحاً ومقبولاً في الترتيبات الجديدة، يمثل تحدياً جوهرياً. كما أن التحفظ الروسي – الصيني داخل مجلس الأمن يضيف تعقيداً إضافياً، إذ تشير تسريبات دبلوماسية إلى مطالبة موسكو وبكين بضرورة وجود موافقة فلسطينية رسمية قبل أي تفويض. يضاف إلى ذلك الانقسام العربي حول المشاركة، حيث تربط كل دولة قرارها بشروط سياسية وأمنية دقيقة، ومصر خصوصاً ترفض أي صيغة قد تمسّ بسيادتها على حدودها مع غزة.
في الأثناء، شدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على أن أي قوة ستُنشر في قطاع غزة يجب أن تحظى بتفويض من الأمم المتحدة، داعياً جميع الأطراف إلى الالتزام بوقف إطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية. وأكد أن الأمم المتحدة «تدعم بقوة ضرورة صمود اتفاق وقف إطلاق النار، وضرورة الربط بين غزة والضفة الغربية».
وعلى الرغم من لهفة الناس على ضرورة الاستمرار في وقف إطلاق النار، وقد يبدو أنهم غير مهتمين بمشروع القرار الأمريكي – الإسرائيلي، إلا أنهم في جوهرهم يرفضون أي مساومة على حقوقهم، ويشعرون أن أي ترتيبات تُفرض من الخارج دون ضمانات وطنية حقيقية إنما تمسّ جوهر قضيتهم وحقهم في تقرير مصيرهم بحرية.
لكن المشروع الأمريكي يركّز على البعد الأمني ويغفل أن جوهر الأزمة سياسي بامتياز، وأن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق بقوة السلاح بل بإنهاء الاحتلال وفتح أفق لحل عادل للقضية الفلسطينية بناء على قرارات الشرعية الدولية وحقهم في تقرير مصيرهم.
وهنا يبرز السؤال الأهم: أين الموقف الفلسطيني الموحد الغائب عن أي فعل حقيقي؟ وكيف يمكن للنظام السياسي الفلسطيني أن يواجه المخاطر والتحديات في المرحلة المقبلة، وهي مرحلة شديدة التعقيد، تتعلق بمصير غزة ومن يحكمها، وبمسائل نزع السلاح، ودور السلطة الفلسطينية، وآليات الإصلاح والإعمار، وتمويله، والانسحاب الإسرائيلي؟
إن غياب موقف فلسطيني موحد يجعل الأطراف الدولية أكثر جرأة في رسم مستقبل غزة بمعزل عن أصحابها. ومع أن الفرصة لا تزال سانحة لتشكيل وفد فلسطيني موحد يفاوض باسم الجميع وبدعم عربي حقيقي، إلا أن ذلك يتطلب إرادة سياسية صادقة وقدرة على تجاوز الانقسام الداخلي نحو مواجهة وطنية شاملة.
في المحصلة، تكشف مسودة القرار الأمريكي عن محاولة لإعادة هندسة الواقع الفلسطيني بما يخدم مصالح الأمن الإسرائيلي تحت غطاء أممي. إنها صيغة حديثة لـ«انتداب» سياسي – أمني على غزة، يُقدَّم بلغة القانون الدولي لكنه يكرّس واقع السيطرة لا التحرر. فاستقرار غزة لا يمكن أن يُفرض عبر قوة دولية تحمل السلاح، بل عبر تسوية سياسية شاملة تُعيد الاعتبار للشرعية الفلسطينية وتضع حداً لدوامة الاحتلال طويل الأمد وارتكاب الجرائم. فالمطلوب اليوم ليس قوة جديدة على الأرض، بل إرادة فلسطينية وعربية قادرة على حماية القرار الوطني من أن يُدار بالنيابة عنها.

بقلم: مصطفى إبراهيم 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115