تميّز الفتاتين التونسيتين التوأم بيسان وبيلسان بالجائزة الأولى لتحدّي القراءة العربي الذي أقيم بدولة الامارات العربية ورغم أنّي لا أحبّذ أجواء التنافس بين الأطفال فان الحدث يحمل أكثرمن معنى ودرس وأرى من الحكمة الوقوف عنده .
أوّلا كانت الصورة القادمة من دولة الإمارات العربيّة والتّي انتشرت كثيرا في وسائل الإعلام العربيّة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي رائعة سواء على مستوى لحظات التتويج أو الظّهور والحديث في بعض برامج قنوات أبو ظبي التلفزيّة التي أظهرت فتاتين تحاوران بلغة عربيّة فصيحة وسلسة أضفت على التوأمين نضجا معرفيّا أبهر كلّ المشاهدين وتكمن أهميّة هذه الصورة الجميلة في نتائجها الإيجابية المتوقّعة في المستقبل في تونس خصوصا بعد استماعنا الى تصريحات الوالدين الذين أكّدا على أهميّة المطالعة أو ما أسميّه القراءة الممتعة.
فمن ناحية نحن نعلم أنّ كلّ أب وأمّ يتمنيّان لأبنائهم هذا التميّز ولكن ومن ناحية أخرى هناك حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها. ومن هنا تكمن أهميّة المثل القادم من الامارات في أن يكون بمثابة الصدمة الإيجابيّة للوليّ وللتلميذ على حدّ السواء من أجل إعادة النظر في موقفهما السلبي من القراءة والكتاب ...
ثانيا كان هذا الامتياز وليد المدرسة العموميّة في وقت كثر فيه التشكيك في هذه المؤسسة العريقة وكثرالحديث في السنوات الأخيرة على أفضليّة المدارس الابتدائية الخاصّة التي تكاثرت أعدادها وخاصّة في المدن الكبرى ليعيد هذا التتويج الى الأذهان أنّ المدرسة التونسيّة ورغم بعض المشاكل مازالت قادرة على إنتاج التفوّق وفي هذا الإطار فاني أريد أن أشكر السيد وزير التربية الذّي كان سندا قويّا للفتاتين بحضوره الشخصي ووقوفه الى جانبهما في دولة الامارات العربية ...
من ناحية ثالثة لم يترعرع هذا التميّز في منطقة المرسى أو سوسة أو صفاقس بل في منطقة داخليّة تحمل رمزيّة تاريخيّة خاصّة وهذا أعطى دلالة جميلة وهي أنّ الامتياز في تونس هو كما نتمنّاه دائما أن يكون وفي كلّ المجالات غير مرتبط بالجغرافيا من منطلق مبدأ مهمّ نتمنّى أن يتكرّس أكثر في المستقبل وهو العدالة والمساواة بين جميع الجهات فنحن نتألّم عندما نعلم مثلا ان نسب النجاح في امتحان البكالوريا غير متكافئة بين مختلف ولايات الجمهوريّة أو أنّ أطبّاء الاختصاص المتخرّجون حديثا يتأفّفون من العمل في المناطق الداخليّة ولو لسنوات قليلة .
رابعا يأتي هذا الامتياز في وقت نتهيّأ فيه لإصلاح تربوي شامل نريده أن يضفي التميّز على مدرستنا الوطنية في فترة وجوديّة حسّاسة من تاريخنا العربي سمتها الأساسيّة التشرذم والانكسار والتخلّف المعرفي حيث قال زعيم المعارضة في دولة الاحتلال اليهودي في خطابه الأخير في الكنيست وأمام الرئيس الأمريكي " لقد انتصرنا لأنّنا استثمرنا في تعليم أبنائنا بينما استثمر الآخرون في الكراهيّة ".
هذا الإصلاح وكما بيّنت في مقالات سابقة يجب أن يجد آليّات عمليّة فعّالة لإعادة عادة القراءة إلى التلميذ التونسي وذلك عبر مقاربة جديدة وعصرية لتعليم اللغات تدمج فلسفة الاندماج و مبدأ القراءة الممتعة وتقنيات كثيرة مثل الاستغناء عن تلقين قواعد النحو والصرف المملّة في مرحلة التعليم الأساسي وأيضا عبر دخول وزارة التربية في شراكة مع وزارة الثقافة من اجل إعادة نظر شاملة لمكتباتنا العمومية في الجهات التي يجب ان تصبح ذات جاذبيّة بأن تواكب حركة النشر وآخر الإصدارات في تونس والعالم العربي والعالم وأن تنفتح على دوريّات وصحف عالميّة مثل مجلة ناسيونال جيوغرافيك الأمريكية أو صحيفة لوموند الفرنسية وأيضا أن تتمركز هذه المكتبات في الشوارع الرئيسية وأن تكون واجهاتها مغرية للأطفال وللشباب وقد ذهبت حتّى الى اعطاء نموذج عملي وقلت ان مكتباتنا العموميّة يجب أن تكون على شاكلة مكتبة المعزّ الكائنة بجهة المنزه أو مكتبة الكتاب بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة .
أعود الى بيسان وبيلسان اللّتان قالتا أنّهما قرأتا كتاب " النبيّ " لجبران خليل جبران و" الكيميائي " لباولو كويلول أقول لهما أنّ لهذين الكتابين الفضل في الشهرة العالميّة لكلا الكاتبين وقد ترجما الى أكثر من أربعين لغة وإنّ للعملين نفس صوفي عميق رغم بساطة أسلوبيهما وأنّ جبران كتب "النبي " باللغة الانقليزيّة وأنّ النسخ العربيّة هي ترجمات أفضلها ترجمة ميخائيل نعيمة كما أستطيع أن أدعوهما وفي نفس السياق المعرفي الى التعرّف على الكاتب الألماني هرمان هيسه عبر روايات مثل " سدهارتا " و" ذئب البوادي" وكذلك الى شعر جلال الدين الرومي ...
قالت الفتاتان كذلك أنهما تدخلان في سجال أو حوار داخلي أو نقد لكل كاتب تقرآن له وهذا دليل امتياز شدّ انتباهي وأثار اعجابي بشدّة وهنا أنا أنصحهما بالعمل على ما سأسمّيه تذوّق ما يقرآنه فالقراءة مثل الأكل لها طعم و هي متعة راقية قبل كلّ شيء وهنا أدعوهما مثلا الى قراءة النسخة الشهريّة لمجلّة ناسيونال جيوغرافيك التي وللأسف لا تصلنا نسختها الأصلية المكتوبة باللغة الانقليزية وإنما تتوفّر اليوم النسخة الفرنسيّة بعد احتجاب النسخة العربيّة والتّي كانت تأتي من دولة الامارات العربيّة . هذه المجلّة هي مدرسة ممتعة بحدّ ذاتها وتستمدّ امتيازها من تاريخها الطويل في عالم النشر والذي تواصل لأكثر من مائة سنة وأيضا من قصّة نشأتها الطريفة والتّي بدأت بقرار لمجموعة من الأصدقاء من اختصاصات ومهن مختلفة جمعهم حبّ علم الجغرافيا والاكتشاف نشر مجلّة كان ولازال شعارها "نلهم الناس الحفاظ على كوكب الأرض " وهي تضمّ اليوم تحقيقات في شكل نصوص ممتعة وذات قيمة معرفيّة عالية مصحوبة بصور كبيرة تتعلّق مواضيعها بالجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية والبيئة ...
هذه المجلة هي اليوم أكثر منشور ورقي يقرأ حيث يقرأها أكثر من عشرة ملايين قارئ حول العالم وهي بذلك تتحدّى كل وسائط النشر الإلكترونية وأثبتت أنّ النشر الورقي لا غناء عنه...
ختاما وما دمنا في جو القراءة الممتعة فاني أريد ان اشكر الأستاذ نوفل حنفي على مقاله الذي نشره في الأسبوع الفارط على أعمدة هذه الصحيفة "المغرب" والذي أتى على لبّ الايكولوجيا الجذرية من خلال مدينة قابس ومشاكلها البيئية وقد ذكّرني عمق وأسلوب المقال بكتابات أستاذ الفلسفة البيئية الأمريكي توماس بيري ...
بقلم: نبيل إبراهم