الحراك الشبابي المغربي: أنثروبولوجيا المقاومة الرقمية وتحولات الوعي المغربي

يطرح الحراك الشبابي المغربي المعاصر إشكالية

فلسفية عميقة تتجاوز السرديات التقليدية للتحليل السياسي. فما يبدو للوهلة الأولى كموجة احتجاجية عابرة، ينكشف عند التمحيص كمفارقة وجودية تختزل تناقضات العصر الرقمي بأسره. كيف يمكن لحراكٍ وُلد في الفضاءات الافتراضية أن يهز أركان الواقع المادي؟ وكيف تتحول الهاشتاغات إلى قوة مادية، واللايكات إلى أدوات للتغيير؟

يحيلنا هذا الانزياح إلى ما أسماه جان بودريار "فائض المحاكاة" (Baudrillard, 1981) - تلك الحالة التي تذوب فيها الحدود بين الواقع والتمثيل، بين الجسد والصورة. فالشباب المغربي، بحماسه الثوري الرقمي، لم يعد يحتج على النظام بل يحتج داخل النظام الرمزي ذاته، مستخدماً أدوات الهيمنة نفسها لإنتاج خطاب مضاد.
تتكشف هنا مفارقة وجودية: جيل يرفض التمثيل السياسي التقليدي، لكنه ينتج شكلاً جديداً من التمثيل عبر المنصات الرقمية. جيل يعلن قطيعته مع المؤسسات، لكنه يخلق مؤسسات افتراضية موازية. هذه "الازدواجية الوجودية" تمثل لغزاً أنثروبولوجياً يحتاج إلى تفكيك.
يحلل بيير بورديو في (Bourdieu, 1997) كيف أن الصراعات الرمزية تمثل قلب الصراع الاجتماعي. فالحراك الشبابي لا يطالب فقط بإصلاح النظام السياسي، بل يطالب بإعادة توزيع رأس مال رمزي جديد، حيث تصبح "الشفافية" و"المساءلة" عملات رمزية في سوق الاعتراف الاجتماعي.
لكن الغموض الأكبر يكمن في العلاقة الجدلية بين الوسيط والرسالة: هل الوسائط الرقمية مجرد قنوات لنقل المطالب، أم أنها تشكل مضامين المطالب ذاتها؟ يذكرنا مارشال ماكلوهان في "وسائل الإعلام هي الرسالة" (McLuhan, 1964) بأن الوسيط لا ينقل المحتوى فحسب، بل يشكله ويعدله. فالحراك المغربي لم يولد من فراغ، بل وُلد من رحم الخصائص البنيوية للفضاء الرقمي ذاته.

تتجلى هنا مفارقة أخرى: جيل يرفع شعار "إسقاط الفساد" في وقت أصبح الفساد فيه نظاماً عالمياً معقداً يتجاوز الحدود الوطنية. كيف يمكن محاربة شبكة عالمية بأدوات محلية؟ هذا السؤال يضعنا أمام إشكالية العولمة والمقاومة المحلية، أمام معضلة "المحلي في مواجهة العالمي".
في هذا السياق، يصبح الحراك الشبابي المغربي مختبراً لأنثروبولوجيا العصر الرقمي، حيث تلتقي التحولات الجيلية مع الثورة التكنولوجية، والهويات المحلية مع الخطابات العالمية. إنه فضاء لـ"الصراع على المعنى" كما يحلله روجيه شارتييه في "الثقافة المكتوبة والمجتمع" (Chartier, 1996)، حيث يصبح إنتاج الدلالة وسيلة للمقاومة.
يحاول هذا المقال اقتحام هذا الحقل الأنثروبولوجي المعقد، ومحاولة فهم كيف ينتج الحراك الرقمي وعياً جديداً، وكيف تتحول التمثيلات الرقمية إلى ممارسات مادية، وكيف يعيد الشباب المغربي اختراع السياسة في زمن الانزياحات الرمزية والوجودية.

الفساد كمنظومة أنثروبولوجية: من الاقتصاد السياسي إلى أنثروبولوجيا الهيمنة :
يشير شعار "إسقاط الفساد" إلى تحول جذري في التمثلات الاجتماعية. فلم يعد الفساد يُفهم كمجرد اختلاس للأموال، بل كـ"نسق رمزي" متجذر في البنية الاجتماعية، كما يحلل ذلك كلود ليفي شتراوس في "الأنثروبولوجيا البنيوية" (Lévi-Strauss, 1958). إنه تحول من نموذج "الفساد-الحدث" إلى "الفساد-النظام"، حيث يصبح الفساد بنية متجذرة في العلاقات الاجتماعية.
هذا الفهم يستمد وعيه من التجربة الرقمية، حيث يدرك جيل الإنترنت، كما يصفه بيونغ-تشول هان في "في السحابة: تأملات في العالم الرقمي" (Han, 2021)، أن القوة الحقيقية تكمن في الشبكات غير المرئية. الفساد في هذه الرؤية لم يعد ممارسات فردية، بل أصبح "نظام تشغيل خفي" يتحكم في كامل المنظومة.
الفضاء الرقمي كحقل اجتماعي جديد: إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطن :
يشكل الفضاء الرقمي، كما يحلله بيير ليفي في "الذكاء الجمعي" (Lévy, 1994)، حقلًا اجتماعيًا جديدًا يعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطن. فالشباب المغربي، من خلال توظيفه للأدوات الرقمية، يمارس ما يسميه ميشيل فوكو "مقاومة اللا-أماكن" (Foucault, 1975)، حيث يحول الفضاء الافتراضي إلى ساحة للمواجهة الرمزية.
تتجلى هذه المقاومة في قدرة الشباب على خلق ما يسميه يورغن هابرماس "فضاء عمومي بديل" (Habermas, 1962)، يتجاوز المؤسسات التقليدية. فمنصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسائل اتصال، بل أصبحت "سيميوسفير" (sémiosphère) - حسب ليفي - تنتج رموزاً جديدة للمقاومة. يقدّم الفيلسوف بيير ليفي في عمله المؤسس مفهوم "السيميوسفير" لوصف هذه البيئة الجديدة التي تتدفق فيها الرموز وتتكون باستمرار، مما يسمح لها باكتساب أبعاد شاملة أو عالمية. فالهاشتاغات والميمات الساخرة التي تنتج في قرى المغرب وأحيائه المتفرقة لا تبقى حبيسة السياق المحلي، بل تتحول إلى رموز وطنية عالمية تعبئ التعاطف والدعم عبر الشبكات الرقمية.
الرمزية الرقمية وإعادة تشكيل الزمن السياسي
يمثل الحرف "Z" في هذا السياق أكثر من مجرد تصنيف جيلي. فمن دلالاته الإغريقية كرمز للحياة (Zeta)، إلى استخدامه في فيلم "Z" للمخرج كوستا-غافراس كرمز للمقاومة، يصبح اليوم تعبيراً عن "الذكاء المغربي" الذي يعيد تشكيل الزمن السياسي.
هذا الجيل، كما يصفه ألان تورين في "نقد الحداثة" (Touraine, 1992)، يرفض منطق "الصبر والانتظار" الذي تروج له الخطابات التقليدية، ويصر على "الحاضر الكثيف" حيث المطالب ملحة والحلول فورية. إنه يمارس ما يمكن تسميته، حسب جيل دولوز، "المقاومة الريزومية" (Deleuze, 1980)، التي ترفض المركزية والتسلسل الهرمي.
المقاومة الجمالية وإنتاج الوجود
تكمن عبقرية هذا الحراك في تحويله "التكتيكات اليومية"، كما يصفها ميشيل دي سيرتو في "اكتشاف الحياة اليومية" (De Certeau, 1980)، إلى استراتيجية وجودية. فمن خلال "المقاومة الجمالية"، كما تجلت في أعمال فنية مثل أعمال مونا حاطوم، يعيد الشباب ربط الشخصي بالسياسي.
هذه المقاومة تشبه ما تصفه نادرة شلهوب-كيفوركيان في "لاهوت الأمن" (Shalhoub-Kevorkian, 2015) بـ"ذاكرة المقاومة اليومية"، حيث تتجلى المقاومة في الممارسات الحياتية اليومية. إنها مقاومة ترفض اختزال الكرامة الإنسانية إلى مجرد مطالب اقتصادية، وتؤكد على البعد الوجودي للتحرر.
الأبعاد الديكولونيالية للحراك
يحمل هذا الحراك أبعاداً ديكولونيالية عميقة، كما يكشف تحليل إدوارد سعيد في "المسألة الفلسطينية" (Said, 1979). فالشباب المغربي يرفض أن يكون مجرد "موضوع" للخطاب الرسمي، ويصر على أن يكون "فاعلاً" في إنتاج السردية.
صحيح أن غلاء المعيشة والبطالة هي مطلب أساسي لشباب المغرب، لكن نضالهم يتجاوز المطالب المادية إلى معركة على حق تمثيل الذات، وهي الجوهر الحقيقي للمشروع الديكولونيالي. فكما حذرت ليلا أبو اللغد في "هل تحتاج المرأة المسلمة للإنقاذ؟" (Abu-Lughod, 2013) من تحويل رموز المقاومة إلى سلع استهلاكية، يرفض الشباب المغربي اختزال حراكهم إلى مجرد "تريند" عابر.
التحديات الوجودية والآفاق المستقبلية
يواجه هذا الحراك تحديات وجودية، أبرزها صعوبة تحويل "الزخم العاطفي"، كما يحلله ميشيل لكروا في "عبادة المشاعر" (Leclerc, 2001)، إلى مشروع سياسي مستدام. فـ"التضخم العاطفي" قد يحول الحراك إلى مجرد "طقس احتجاجي" دون قدرة على البناء المؤسسي.
لكن الأمل يكمن في قدرة هذا الجيل على تطوير ما يمكن تسميته "العلمانية التفاعلية" في التعامل مع الدولة، حيث يتحول من منطق المواجهة إلى منطق المسؤوليات المتبادلة. إنهم يطالبون بـ"حياد نشط" من الدولة، لا يكتفي بعدم الانحياز، بل يعمل بشكل إيجابي على خلق شروط التعايش، كما تحلل ذلك سيسيل لابورد في "الجمهورية النقدية" (Laborde, 2008).

بعد هذا المسار التحليلي، يتبين لنا أن الحراك الشبابي المغربي يمثل أكثر من مجرد لحظة احتجاجية عابرة؛ إنه تعبير عن ولادة "إبيستيمولوجيا مقاومة" جديدة، تطرح أسئلة جذرية حول طبيعة الوجود السياسي في العصر الرقمي. لقد نجح هذا الحراك في تحويل الإشكالية التي طرحناها في المقدمة - كيف تتحول التمثيلات الرقمية إلى ممارسات مادية؟ - إلى مختبر حي لفهم التحولات الجذرية في علاقة الإنسان بالسلطة.
لقد كشف هذا الحراك عن كيفية تحول الأدوات الرقمية من مجرد وسائط محايدة إلى "مُشَكِّلات للذات" تعيد صياغة الوعي الجمعي. فالشباب المغربي لم يستخدم المنصات الرقمية فقط، بل أصبح هو نفسه منتجاً لـ"تقنية الوجود" الجديدة، حيث يذوب الفاصل بين الفاعل وأدواته. إنها الانزياح الوجودي الذي تحدث عنه الفلاسفة، لكن في سياق رقمي حيث تصبح الهواتف الذكية امتداداً للجسد المقاوم.
تكمن المفارقة الجوهرية في أن هذا الحراك، رغم جذوره الافتراضية، أنتج تأثيراً مادياً ملموساً. إنه يعيد تعريف "تكتيكات الحياة اليومية"، لكن في سياق رقمي حيث يصبح "النقر" مقاومة، و"المشاركة" فعلاً سياسياً. هذه المفارقة تطرح سؤالاً جوهرياً: أين ينتهي الافتراضي ويبدأ المادي في عصر الرقمنة؟ يبدو أن الحراك المغربي يجيب بأن الافتراضي أصبح الوجه الجديد للمادي، والرمز صورة متطورة للفعل.
يمثل الحراك محاولة جذرية "لإعادة توزيع الحسي" في المجتمع المغربي. فالشباب لم يطالبوا فقط بحقوق مادية، بل طالبوا بحقهم في أن يكونوا "كائنات مرئية" في الفضاء العمومي، أن تُسمع أصواتهم، أن تُرى وجوههم. إنها معركة على "الحق في المظهر"، على الحق في الوجود والظهور. إنهم يطالبون، كما قال أحد الفلاسفة، "بأن يكونوا لا أن يُمثَّلوا فقط".
يذكرنا هذا الحراك بالتمرد كشرط للإنسانية. فالشباب المغربي، من خلال رفضه للفساد، لم يطالب فقط بتحسين ظروف العيش، بل طالب بحقه في الكرامة الإنسانية. إنها "إرادة الحياة" التي عبر عنها الحرف Z في أصله الإغريقي، لكن في سياق وجودي معاصر. إنها الإرادة التي ترفض أن تكون الحياة مجرد بقاء، وتصرّ على أن تكون وجوداً حقيقياً.
يقدم لنا الحراك المغربي مادة خصبة لتطوير ما يمكن تسميته "إبيستيمولوجيا المقاومة الرقمية". إنه يشكل "أرشيفاً حياً" لطرق جديدة في إنتاج المعرفة والمقاومة. فالشباب لم ينتج خطاباً مضاداً فحسب، بل أنتج "منهجية معرفية" جديدة لفهم الواقع وتغييره. منهجية تقوم على اللامركزية، والتشبيك، والمرونة، والتلقائية.
يمثل الحراك الشبابي المغربي، في التحليل النهائي، موجة أنثروبولوجية عميقة تعيد تشكيل العلاقة بين التكنولوجيا والوجود، بين المقاومة والهوية، بين الرمزي والمادي. إنه ليس مجرد رد فعل على أزمة، بل هو إبداع لشكل وجودي جديد، حيث يصبح الفضاء الرقمي مختبراً للتحرر، والهاشتاغ أداة للتغيير، والشباب فاعلين في صنع مصيرهم.
هذه "الأنثروبولوجيا الجديدة للتحرر" تذكرنا بكلمات فرانتز فانون: " على كل جيل في ظلمة نسبية، أن يكتشف رسالته". يبدو أن الجيل الرقمي المغربي قد شرع في اكتشاف رسالته، حاملاً معه أسئلة وجودية ستظل تتردد في دهاليز الفضاءين الافتراضي والواقعي لسنوات قادمة. إنها رسالة تعلن أن الزمن قد تغير، وأن أدوات المعارضة قد تطورت، وأن صوت الشباب لم يعد ينتظر إذناً لكي يُسمع.

بقلم: نوفل حنفى 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115